قد يبدو هذا الفيلم من النظرة الأولى تجربة ميلودرامية تتسم بهذا النوع من التطور الميكانيكي للأحداث والحبكة على أساس الصدفة، حتى لو كانت الصدفة مغلفة بتلك النزعة القدرية التي تحاول تبريرها بشريا. ورغم الإطار الميلودرامي للأحداث إلا أن هذا لا يمنع من وجود بعض الطبقات الدرامية التي تتسم بدلالات جيدة يمكن أن تبلور مساحة فنية أكثر قيمة من تلك التي تقدمها المعاجلة الميلودرامية الشعبية.
السيناريو المأخوذ عن رواية صدرت عام 2006 للكاتبة سارة جرون، يعتمد على أسلوب “الفلاش باك”، وهو أسلوب ميلودرامي تقليدي حيث تدور الأحداث كلها عبر ذاكرة الشخصية الرئيسة “جاكوب” الذي يظهر في البداية كعجوز متغضن الوجه يعاني من حالة توهان خفيفة بعد ان هرب من دار المسنين التي يسكن بها لكي يحضر احد عروض السيرك الامريكي، لكن العرض يفوته.
في الداخل يؤويه أحد الشباب العاملين بالسيرك، طالبا منه الانتظار لحين قدوم عربة دار المسنين لكي تعود به، وفي الداخل ايضا وبالصدفة يرى صورة قديمة لنجمة سيرك بانزيني الشهير “مارلينا” تركب فوق احد الأفيال. وبمجرد أن يرى الصورة تدمع عيناه!
هنا يبدأ الهجوم الميلودرامي المعروف على المتلقي، فنحن نريد ان نعلم من هي تلك الفتاة؟ ولماذا دمعت عينا الرجل عندما رآها فوق هذا الفيل؟ وعبر جمل حوارية آلية متوقعة، يجلس جاكوب العجوز ليحكي لهذا الشاب المجهول حكاية سيرك بانزيني الذي كان ما يقدمه يسمى في الثلاثينيات “أعظم عرض على وجه الأرض”. هكذا بلا سبب منطقي سوى قرار لحظي بالبوح دون أي تمهيد نفسي أو عقلي ولكن مجرد قرار من خارج وجوبية المبرر الدرامي!
أرضية سياسية
لا شك أن تداعيات الأزمة المالية الحالية التي بدأت في الولايات المتحدة منذ بضع سنوات وانتشرت في العالم كله هي أحد اسباب إنتاج هذه الرواية وتحويلها إلى فيلم سينمائي، فالأحداث تدور خلال فترة الكساد الكبير الذي بدأ عام 1929 واستمر عدة اعوام و أدى إلى حدوث الكثير من الهزائم الاقتصادية والنفسية والانسانية. هنا إذن محاولة لاستغلال الظرف التاريخي الحالي عبر الاحالة إلى ظرف تاريخي سابق ومماثل وهي ميزة تحسب لصناع الفيلم.
عبر استخدام الوسيلة البصرية التقليدية لبيان ما تحدثه الأعوام في الملامح من تغيير يستخدم المخرج المزج البطيء ليعود وجه جاكوب العجوز عقودا إلى الوراء لنراه ذلك الشاب الوسيم “روبرت بتنسون”. ومع تغير الصورة من الهرم إلى الشباب، يتغير الصوت أيضا ليصبح الحكي بصوت جاكوب الشاب وهي محاولة لكسر الشكل التقليدي للفلاش باك الصوتي حيث يبدو جاكوب هنا وكأنه راو عليم وليس شخصية تروي قصة حياتها عبر الفلاش باك.
يستغرق السيناريو في تفاصيل القصة دون أن يعود إلى الحاضر،محاولا الحفاظ على ايقاع الحبكة وتشويقها، دون اللجوء إلى وقفات في السرد أو تعليقات من الحاضر، حتى أن المشاهد ينسى تماما ان القصة تروى عبر ذاكرة جاكوب العجوز ويستغرق مع جاكوب الشاب في رواية قصته.
كعادة الميلودرامات الكلاسيكية يتلقى البطل ضربة قدرية صاعقة في لحظة حاسمة من حياته حين يتوفى أبوه وأمه في حادث سيارة في نفس اللحظة التي يجلس هو فيها لخوض الامتحان النهائي للالتحاق بكلية الطب البيطري، وبما ان والديه من المهاجرين البولنديين “اليهود”، وبما ان والده رهن المنزل لكي يمول تعليمه، وبما ان البلاد في حالة كساد (نلاحظ ان الأزمة المالية الحالية بدأت بديون المنازل الأمريكية) فإن جاكوب يجد نفسه ملقى على قارعة طريق الحياة بلا أهل ولا شهادة ولا عمل، لكنه يصمم على اللحاق بقطار الحياة مهما حدث.
ويتجسد قطار الحياة بالسيناريو تجسدا مباشرا في شكل قطار السيرك الذي يعبر المدن ليل نهار، متوقفا في كل مدينة لتقديم عروضه، وعندما يقفز عليه جيكوب فهو إذن يحاول اللحاق به ماديا ومعنويا، ولست أدري سر اختيار شخصية اليهودي المهاجر كبطل للقصة، فيهوديته لا دخل لها بسياق الأحداث فليس لها أي تأثير ولا تتسبب في أي فعل او رد فعل من / أو تجاه الشخصية، بل إنها تبدو عبئا تأويليا على المتلقي، على العكس من جعل جاكوب يتحدث البولندية التي سيستخدمها فيما بعد كما سنرى.
ولكن ربما كانت”اليهودية “جزء من الصورة الذهنية التي تستحضر فكرة اليهودي التائه التراثية أو مجرد استغلال لموقف تاريخي، فقد شهدت امريكا بالفعل عدة هجرات من قبل يهود اوروبا الشرقية حتى قبل تولي الحزب النازي قيادة المانيا عام 1933 كما يبدو أن صورة اليهودي الشاب، ضعيف البنية برئ الملامح، تجد هوى في نفس المتفرج الغربي، وتحدث حالة من التعاطف الشعوري العام حتى ولو بشكل سطحي!
وينخرط جاكوب في عالم السيرك تدريجيا بدءا من أحقر الوظائف وهي حمل روث الحيوانات، مما يجعل مارلينا، نجمة السيرك، تبدو له مثل كوكب لامع بعيد لا يمكن أن يناله حتى في اكثر أحلامه جرأة وخيالا، وتبدو علاقة التورط العاطفي مع مارلينا جزءا من التطور الآلي الميلودرامي للأحداث خصوصا عندما تكون مارلينا هي زوجة مدير السيرك أوجست “كريستوفر والتز” ذلك الممثل الرائع الذي حاز على جائزة أحسن ممثل في مهرجان كان عن دوره في فيلم “أوغاد شرسون” من إخراج كونتين ترانتينو عام 2009 وعلى الاوسكار عن نفس الدور في نفس العام.
شخصيات أحادية
ويبدو تكوين شخصية مدير السيرك الأهم في الفيلم حيث أن كلا من مارلينا وجاكوب شخصيات احادية البعد تكاد تعرفها دون أن تشرح لك نفسها وتكاد أن تتوقع ردود افعالها من قبل أن تقوم بها ، لكن اوجست شخصية درامية ثرية، فهو شريف وخائن، وفي نفس الوقت، عاطفي ومتوحش، رقيق وصلب، شره للمال ومقامر.
إن أول مشهد يظهر فيه لعيني جاكوب يكون جالسا فيه على طاولة قمار صغيرة مع أصدقائه. هذا المشهد “التأسيسي” للشخصية يرسم لنا ملامح واسعة وكثيرة عنها منذ اللقطات الأولى.
وفي أول احتكاك حقيقي بين أوجست وجاكوب يظهر جزء مهم من المعادل الدرامي لطبيعة المشاعر بين الشخصيات الأساسية في ذلك المثلث العاطفي الشهير “الزوج العنيف والزوجة الرقيقة والعشيق الشاب”. هذا الجزء يتمثل في الحصان الذي تؤدي عليه مارلينا العروض كل ليلة.
إن جيكوب، بحكم دراسته، يدرك أن الحصان به علة مميتة وانه يتعذب ويجب أن يقتل بشكل رحيم للحد من عذابه. ومع تشبث أوجست الشديد بالحصان، وشعور مارلينا بعذابه، ورغبة جاكوب في قتله قتلا رحيما، تتجسد لنا رمزية هذا الحصان، فهو تجسيد لعلاقة اوجست ومارلينا المعذِبة القلقة العنيفة بسبب استغلال اوجست غير المحدود لها، واستنزافه لطاقتها وسوء معاملته، والخراج في كفل الحصان هو كناية عن الصديد الشعوري الذي تمتلئ به علاقة مارلينا واوجست، بينما يدرك جيكوب من البداية ان الحل الوحيد هو قتل الحصان أي قتل العلاقة.
المبالغة والجبرية
وبعد قتل الحصان تنضم للحبكة شخصية جديدة وهي روزا الفيلة المسنة التي يأتون بها للعمل في السيرك، هذه الفيلة تشكل الجزء الثاني والأهم من المعادل الدرامي للعلاقة ما بين الثلاثي، فهي تمثل العلاقة الجديدة بين مارلينا وجيكوب حيث نجدها – في الوقت الذي يعاملها فيه أوجست بمنتهى العنف محاولا أن يسيطر عليها كما يسيطر على بقية حيوانات السيرك – تقاوم هذا العنف بشدة وترفض الانصياع والتدريب، ولا تستجيب إلا في لحظة معينة عندما يتحدث معها جيكوب صدفة بالبولندية!!
هنا تبدو الصدفة فاضحة ومقحمة.. فمن بين كل لغات العالم لا تفهم تلك الفيلة سوى البولندية التي بالصدفة يتحدثها جيكوب!
صحيح ان هذا التزام بالسردية الميكانيكية التي تتخذ من الصدفة محركا لها لكن الأمر لا يخلو من مبالغة تتجاوز القدرية إلى القسرية أي الشعور بأن ثمة يد تمتد من خارج الأحداث لتجبرها على أن تسير بطريقة معينة.
إن اللغة المشتركة بين جيكوب وروزا تمثل البيئة التي تنمو فيها المشاعر بينه وبين مارلينا حتى تتحول الفيلة تدريجيا إلى تجسيد مادي لتلك العلاقة، وبالتالي تصبح حركتها داخل الأحداث معبرة عن طبيعة تطور العلاقة ومسببة لمواقف أخرى تدخل تدريجيا في سياق الحبكة.
ومع التطور الآلي للأحداث فإن لحظة المواجهة تحدث بين الاطراف الثلاثة، ويضطر جيكوب ومارلينا إلى الهرب من أوجست، لكنه يعثر عليهم عبر عصابته التي تقوم بضرب جيكوب “علقة موت” وارجاع مارلينا للسجن/ السيرك، وعبر حبكة فرعية تنمو ببطء خلال الأحداث، يقرر اثنان من عمال السيرك الانتقام من أوجست لإلقائه زميلهم العجوز المريض من القطار ليتخلص من عبئه، فيقومان بفتح اقفاص الحيوانات اثناء العروض وبالتالي مهاجمة الجمهور والتسبب في حالة من الفوضى الشديدة، في نفس الوقت الذي يفقد فيه اوجست آخر حبال صبره ويقرر قتل مارلينا التي يعتبرها صنيعة يده جزاءا على خيانتها.
ولكن روزا الفيلة/ العلاقة، وبأمر من جيكوب تغرز مسمار اللجام الحديدي في عنق أوجست لتقضي عليه، وتنتقم لنفسها وللعشيقين وللجمهور من عنف أوجست وقسوته المادية الرهيبة. ورغم ان مقتل اوجست يكون متوقعا مع كم التصاعد التقليدي للصراع إلا انه يمنح الفيلم مغزاه الدلالي العام فاوجست هو رمز المادية الشديدة التي حين تسيطر على البشر تقتل فيهم الكثير من النزعات الانسانية وتحيلهم إلى كائنات مشهوة، تبدو الحيوانات بجانبها أكثر رقة و”عقلانية”، وهو ما اتضح في علاقة اوجست وعصابته بالحيوانات، فهم يبدون أكثر حيوانية منهم، وتبدو الحيوانات أكثر إنسانية من هذا النوع من البشر.
كذلك يبرهن الفيلم على أنه مهما كانت الأحوال المادية سيئة والكساد والجوع والبؤس يسيطران (هناك حالة بؤس بصرية واضحة في كل تفاصيل الفيلم) فإن هذا لا يبرر ابدا أن نترك أرواحنا تعاني من كساد شعوري يفقدنا تدريجيا إنسانيتنا واحساسنا بالآخر حتى لو كان حيوانا.
محاولة ساذجة
ويحاول السيناريو أن يخلق تعدد للذرى بأن يردنا إلى جيكوب العجوز وقد انتهى من سرد قصته لنجده يخبر الشاب المجهول انه تزوج بمارلينا وانجب منها اطفالا كثيرين، وان روزا الفيلة المسنة عاشت معهم طويلا إلى ان توفيت هي ومارلينا بشكل طبيعي، ولكن أزمة هذه الذروة – لو كانت ذورة بالفعل وليس ما بعد الذروة – انها محاولة لخلق حالة تفاؤل أو (تفريغ) لمشاعر المتلقى واشعاره بأن العالم لا ينتهي بفترات الكساد، وانه سوف يستمر مرة أخرى!
ولكنها محاولة ساذجة الغرض منها الخروج بالمتلقى ايجابيا دون شحنه بجرعة تراجيدية في النهاية، كأن تموت البطلة او يحترق السيرك، ولكن تصاعد الحبكة والأحداث كان يومئ إلى غير ذلك، فالسيرك هو رمز للعالم القديم الذي يتغير كلما تغيرت قوانينه السياسية والاقتصادية، وحريق هذا السيرك هو واقعة تاريخية تماما مثل غرق تيتانيك، والفرق بين فيلمي “تيتانيك” و”مياه للأفيال” على سبيل المثال، أن جيمس كاميرون (مخرج تيتانيك) اعتبر ان غرق السفينة نموذج لغرق أو انتهاء مجتمع البورجوازية والأرستقراطية الغربية في بداية القرن العشرين، أي نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة. أما هنا فإن السيناريو -أو الرواية لا ندري- لم يجعلا حالة الفوضى تؤدي إلى حرق السيرك، ولكنه يحرق فيما بعد عقب سنوات ونعلم ذلك على لسان جاكوب العجوز وبشكل حواري هزيل.
لم يحمل السيناريو هذه الرؤية العميقة بل تم الاكتفاء بالطبقة الأولى من الطرح الفكري دون الاستغراق نحو معان أو دلالات اكثر عمقا وشمولية.
يبقى فقط أن نشير إلى أن عنوان الفيلم يحمل الكثير من الإشارات الشعرية والدرامية التي تناسب تماما طبيعة الأحداث وتتسق معها، فالأفيال أو الفيلة “روزا” رمز العلاقة بين جاكوب ومارلينا، تحتاج إلى كميات من الماء طوال الوقت لترطيب جلودها كما تحتاج العلاقات الانسانية – عاطفية كانت أو غير عاطفية- إلى المشاعر التي تشبه المياه التي ترطب هذه الجلود كي لا تتشقق وتموت مسامها.
بطاقة فنية:
عنوان الفيلم: مياه للأفيال
سيناريو: ريتشارد لجريفينس
عن رواية: سارة جرون
إخراج: فرانسيس لورانس
بطولة: ريز ويذرسبون – روبرت بتنسيون
مدة الفيلم: 120 دقيقة
رامي عبد الرازق – مصر