حصل الفيلم الوثائقي الطويل “رجاء بنت الملاح” لعبد الإله الجوهري في الدورة 17 للمهرجان الوطني للفيلم الذي نظم بمدينة طنجة من: 26 فبراير إلى 5 مارس 2016 على جائزة لجنة التحكيم وجائزة أراكني الإسبانية لأفضل أول عمل. ورد بملخص الفيلم :” نجاة بنسالم، شابة مراكشية وجدت نفسها صدفة في قلب مغامرة سينمائية من خلال مساهمتها في شريط (رجاء) للمخرج الفرنسي جاك دوايون، وحصولها على جائزتي أحسن ممثلة صاعدة في مهرجان البندقية السينمائي وأحسن ممثلة في المهرجان الدولي للفيلم بمراكش سنة 2003. شهرة ستجلب لها الكثير من المتاعب والآلام وستتراكم عليها عدة مشاكل لتجد نفسها مضطهدة من قبل العائلة، ومشردة في شوارع مدينة مراكش دون مأوى”.
1 – “اقْباحة” إيجابية!
الذي أثار الجدل في هذا العمل إبان المهرجان ليس هو العمل في حد ذاته، ولكن صاحب العمل.. حيث إن أغلبية من يروم نقاش الفيلم بتركيبته الفنية، التقنية كما المضمونية، يزورُّ عن ذلك – ودون أن يشعر – إلى مناقشة تركيبة عبد الإله الجوهري الفنية وخصوصا الإنسانية بطباعها الإيجابية والسلبية مع التركيز على الخاصية الأخيرة.. حيث يشرع المناقش إما في مدح الفيلم انطلاقا من مدح صاحبه بكونه رجل حركي.. طموح.. جريء.. مغامر.. شغّيل ومكافح إلخ… أو في قدح العمل لكون صاحبه رجل طموح أكثر اللزوم وربما لحد الغرور .. أو دينماكي لحد التهور ..أو ثرثار أو وصولي.. أو (اخْفيف واقْبيح) إلى غير ذلك من مثل هذه الأوصاف القدحية التي تتداول على ألسنة أعداء عبد الإله وحساده بالخصوص.
وهنا مكمن الخطأ، إذ ينبغي في هذه الحال وحين مناقشة أي عمل إبداعي فصله عن مبدعه وعن أخلاقه وتصرفاته مع الغير، فالرجل حقا فيه من الحركية والخفة وروح المبادرة مما لا يتوفر في غيره – وطبعا هذه ميزة يحسد عليها – وأنا شخصيا ألقبه ب: (الجوكري) لأنه كالجوكير يشتغل في عدة حقول جهات وتنطبق عليه مقولة: “اجتمع فيه ما تفرق في غيره”.. لكن هذه الأحكام والتصورات وبغض النظر عن صحتها من عدمها، لا ينبغي أن تلقي بظلالها على أحكامنا وتصوراتنا تجاه الفيلم.. وسابقا كان والدي العالم العلّامة الهاشمي الخضري رحمه الله، يردد على مسامعي بيتين شعريين حين يراني أنتقد عملا فنيا بالنظر إلى صاحبه خصوصا متى كان لا يروقني أو لدي منه موقف، حتى حفظت هذين البيتين وعملت ولا زلت أعمل بدلالتهما الإنسانية والأدبية الفذة وهما:
خذ العلوم (أو الفنون) ولا تأبه بقائلها …. واقصد بذاك وجه الخالق الباري
إن العلوم/الفنون أشجار لها ثمــــــــــر…. فاجن الثمر واترك العود للنــــــــــار
فمن هذا المنظور العلمي، أخرج عبد الإله الجوهري فيلما وثائقيا طويلا تحت عنوان: (رجاء بنت الملاح).. والجوهري كما كل من ينتقده – إيجابا وسلبا- سيمضي ويندثر، ولكن العمل المنقود كما النقد سيبقى ليشهد على صاحبه وله. وفي عالم النقد لدينا عادة ما يردد بعض نقادنا وكتبتنا مقولة دارجة: “الحاجة اللّي ما تشبه لمولاها حرام” وقد قيلت في حقي كثيرا – سلبا وإيجابا أيضا- من كوني نظرا لخفتي وحركيتي كنت سبّاقا لإصدار أول دليل سينمائي مغربي.. ونشر أول كتاب عن فيلم سينمائي طويل كتبت سيناريوه.. ونشر أول سيناريو فيلم تلفزيوني في كتاب بعد تصويره وبثه رغم أن العبرة ليست في السبق من عدمه بقدر ما هي في قيمة المنتوج في حد ذاته.
إلا أن هذه المقولة لا تنطبق على عبد الإله الجوهري في علاقته بفيلم (رجاء بنت الملاح) من حيث الخفة والحركية أو حتى (القباحة) !! ونحمد الله على ذلك، حيث أن الفيلم وبعكس صاحبه، يتسم بقدر هائل من الرزانة وتبليغ المعلومة ببطء وثقل إلى درجة قد يعتبر الغير هذا البطء نوعا من المونوطنية والاستثقال ابتغى به الجوهري قول كل شيء.. هذا مع العلم واليقين أنه لم يقل كل شيء بخصوص تلك السيدة التي تبناها الغرب سينمائيا ثم تنكر لها في حينه.. كما تجاهلها أبناء بلدها كليا بل وازدراها ليرمي بها كأية دابة جرباء في ركن قذر بدار شبه مخربة هي إلى حظيرة أقرب، في حي من أحياء ملّاح مدينة مراكش. بل إن الجوهري نفسه اعترف خلال مناقشة الفيلم بطنجة أنه لم يركّب كل ما صوره عن هذه السيدة طيلة أزيد من 10 سنوات.. وهذا ليس بالعمل الهين لأنه يتطلب صبرا.. مثابرة.. وتتبع مراحل نضج (بطلته).. كما مساعدتها ماديا على حد اعترافه – دون علم زوجته – وتلك كانت أجمل خيانة في حق هذه الزوجة الطيبة التي اعترف بعلها أمامها بمساعدته (المستورة) لامرأة غيرها، فلم تعد مستورة.. مع مراقبة درجات تطور البطلة المغمورة وتغير نسق عيشها وتفكيرها.. هذا دون أن تتخلى عن شيئيين مهمين يكادان يكونان متناقضين في حياتها، لكنهما في عز تناقضهما يكوّنان شخصيتها وهويتها ألا وهما:
1- بيع السجائر بالتقسيط لتستمر حية
2- ثم الحلم بأن تغدو نجمة سينمائية لتحيى وتعيش
وها هي في أوج تعاستها وتدمرها، خصوصا بعد أن انهار عليها سقف البيت الذي كان يأويها مكسّرا الكثير من أثاثها الجد متواضع غير بعيد عن جمجمتها، تقول بنبرة استهزاء جلي وهي تقلب بين يديها ما تبقى من ذرع مهرجان مراكش الدولي للفيلم الذي نالت به جائزة أفضل ممثلة سنة 2003، وقد أصبح عبارة عن قصديرة مهشمة لا يمكن أن تسد بها ثقب جرد يشاركها الإقامة ولا أن تقتني بها حتى مجرد سيجارة واحدة مما تبيعه هي، فتعلّق بمرارة:
– “إيوا هانا دابا ما بقايت لا ممثلة ولا بياعة ديطاي” !!
ثم تفتر شفتاها اللتان سوّد لونهما دخان السجائر ورطوبة الكهف حيث تقبع، عن ابتسامة رمادية اللون والدلالة…
2 – “سترة” مفضوحة!
ونتابع حكاية نجاة التي تحولت إلى “رجاء” حاملة لعنة فيلم غرر بها مخرجه لكي تؤدي فيه دورا إباحيا لم تكن تعي، وهي في سن مبكر، خطورته وردة الفعل حوله من طرف المجتمع الذي تعيش فيه.. حتى أختها المقيمة في دوار بئيس جهة دار بوعزة في ضواحي الدار البيضاء، رجتها أن تترك مراكش والتمثيل وأن تتحجب وتجلس معها ببيتها لتربي معها أبناءها الصغار و(تسترها) على حد قولها …
وطبعا رفضت نجاة هذه السترة (المفضوحة) ..ليس لأنها ستبعدها عن السينما والتمثيل ولكن لأنها ستحرمها من شخصيتها وحريتها ومن “نجاة” .. فعادت إلى مراكش.. وإلى جامع الفنا تبيع السجائر بالتقسيط وهي تحرك بإحدى يديها رزمة القطع النقدية التي تعلن وجودها لزبنائها الذين صاروا يعرفونها من خلال رنين تلك القطع.. فتصاحبها الكاميرا من تحت قريبا من الإسفلت مؤطرة فقط قدميها وهما تنتعلان حداء رياضيا وهي تمضي أينما اتفق… إلى أن تظلم الصورة دون أن ينقطع بريوطاج الرنين، إيذانا باستمرار “نجاة بنت مراكش” في عزمها على التحدي.. وعلى طمس صورة “رجاء بنت الملاح”.. لتثبت ذاتها وشخصيتها بعز ورأس مرفوع.
وتقنية استمرار مؤثر صوتي معين ودال على خلفية الجنريك، وظفت كثيرا في السينما العالمية يكفي أن نذكر منها مثلا فيلم: (الهروب الأكبر) لجون ستروغ، بطولة نخبة من نجوم هوليود سنة 1963 على رأسهم شارل برونسون، جيمس كوبرن، ريشارد أتنبره وستيف ماكوين الذي استمر يلعب بكرة تنس في زنزانته. فكان ارتطام كرته بالحائط يحدث صوتا مؤثرا موحيا بالعزم على الهرب وتحقيق الحرية حتى وهو داخل الزنزانة بعد أن ألقي عليه القبض وأعيد إليها في آخر الفيلم.. فاستمر برويطاج ارتطام الكرة هذا على خلفية الجنريك .. فعلى دأبه سار عبد الإله الجوهري مع (رجاء بنت الملاح).
فإذا كنت من حساده سأقول إنه “اختلاس”.. وإذا كنت من أنصاره سأقول إنه “اقتباس”.. والواقع – وهذه قناعتي – لست هنا لا بحاسد – ولم أكن قط كذلك لا تجاهه ولا تجاه أي كان – ولا بمؤيد لشخص عبد الإله الجوهري بقدر ما أنا مؤيد لفيلمه لعدة أسباب أهمها:
– أنه استوفى شروط الفيلم الوثائقي في تبليغ عدد من المعلومات عن فتاة تحولت إلى امرأة طيلة عقد ما الزمن وما يربو، فتحول معها نسق عيشها وتفكيرها كما سلوكها…
– – أنه مقارنة مع فيلمه السابق والوثائقي أيضا “الراقص (ة)” استطاع عبد الإله أن يتجاوز السرد الخطي/ الخارجي الذي رقص على إيقاعه بطله مما جعلني شخصيا لا أتفاعل معه وجدانيا وإنما فقط بصريا. بعكس السرد مع “رجاء بنت الملاح” الذي نحا إلى الولوج في أعماق تلك الفتاة كما تغلغل في دواخل أزقة مراكش ودروبها الملتوية.. ففضاء جامع الفنا.. ثم رحاب قصر المؤتمرات بمراكش حيث تقام مراسيم استقبال ضيوف المهرجان الدولي للفيلم، أو طرد بعضهم ممن يبدو ن لرجال الأمن الخصوصيين مجرد متسكعين أو نشالين حتى وإن فاز واحد منهم أو واحدة منهم بجائزة أفضل ممثلة كما وقع لنجاة!!
– وبهذا استطاع أن يمهر فيلمه بمسحة إنسانية تفاعل معها الجمهور إلى درجة أن كثيرا من أفراده – لا سيما بعض النساء – سالت دموعه تأثرا.. فنجا من تهمة (روبرتاج تلفزيوني) حسبما نعثه البعض ليبقى العمل فيلما سينمائيا وكفى.
– فهذه الحميمية في تعامل الكاميرا بلقطات ثابتة تؤطر وجه نجاة المتدمر أحيانا.. الصامت أحيانا .. والمبتسم عن مرارة أحيانا أخرى وبدون حوار.. كما التلقائية في تركها تحكي عن معاناتها دون أسئلة مسبقة – أو هكذا بدا – منحت للفيلم نوعا من الروائية الذاتية.. وكأننا نتابع فيلما روائيا “مقتبسا عن قصة حقيقية أو حادثة واقعية” كما يكتب في مقدمة عدد كبير من الأفلام من هذا القبيل.. وبالتالي تمكن عبد الإله الجوهري من جعل بطلته تقنعنا بما تروي وتشعر دون أن تمثل.. وبرأيي كانت هي من تستحق جائزة أفضل ممثلة عن دورها في هذا الفيلم.. لأنه وحسب كثير من المخرجين الوثائقيين بالخصوص، أن أصعب شيء لدى المخرج هو أن يطلب إلى شخص أن يمثل دوره الحقيقي في الحياة.. فهو أصعب بكثير من أدائه لدور شخص آخر، خصوصا متى كان هذا الممثل مجرد هاو أو مبتدئ لم يتمكن بعد من أدواته الاحترافية. لأن “نجاة بنسالم” تعشق التمثيل ولحد التضحية بكل شيء من أجله.. ولكن كان عليها مع “رجاء بنت الملاح” ألا تمثل…
خالد الخضري