يعيش “كيدان” رفقة زوجته “ساتيا” وابنتهما التي تبلغ من العمر 12 سنة بنواحي مدينة تمبوكتو المالية التي سيطر عليها “الجهاديون” منذ فترة …
وما أن يقتل “كيدان” عن طريق الخطإ صيادا للسمك، بعد أن يكون هذا الأخير قد قتل إحدى بقراته حتى تنقلب حياة الأسرة الصغيرة رأسا على عقب، إثر حياة سعيدة وهادئة…
مرجعيات سينمائية
فيلم “تمبوكتو” مليء بمرجعيات سينمائية خالصة، خصوصا تلك التي تتعلق بسينما الغرب الأمريكي (الويسترن)، والتي يعترف سيساكو في حوار معه أنها النوعية من الأفلام التي جعلته يحب السينما ويصبح صانع أفلام. ونحن نجد بالفعل في الفيلم مشاهد ولقطات تُحيل على أفلام جون فورد وغيره من رواد هذا النوع السينمائي، بالخصوص تلك التي تصور الفضاءات الصحراوية الواسعة…
أما المشهد الافتتاحي ل”تمبوكتو” فيُذكرنا بالمشهد الافتتاحي لفيلم “الشيء” (1982) لجون كاربنتر ، حيث يطارد جنود يركبون مروحية كلبا ويطلقون عليه الرصاص، فيما في “تمبوكتو” يطارد جهاديون ، يمتطون سيارة ذات دفع رباعي بصحراء قاحلة، غزالا مذعورا ويطلقون عليه الرصاص دون قتله.
ومن بين أهم مشاهد الفيلم وأجملها وأبلغها معنى، ذلك الذي يلعب فيه شباب كرة القدم بدون كرة حقيقية، ويُذكرنا بالمشهد النهائي لفيلم “بلو آب” (1966)للمخرج الإيطالي أنطونيوني، والذي تتابع فيه الشخصية الرئيسية في الفيلم فنانين من تلك النوعية التي نجدها بالسيرك يلعبان مباراة في كرة المضرب بدون كرة… ونجد لقطة أخرى مشابهة بفيلم آخر هو “مُكترون” (2004) للمخرج الكوري كيم كيدوك، حينما يُزج بالبطل في زنزانة ويشرع في لعب “الغولف” بدون كرة، وبعدما يتعمد أحد السجناء الآخرين أخذ “الكرة” الوهمية من مكانها يتهجم عليه البطل محاولا انتزاعها منه بالقوة. ومشهد فيلم “تمبوكتو” أقرب لمشهد فيلم كيم كيدوك منه لفيلم أنطونيوني، لأن المشهدين يوحيان تقريبا بنفس المعنى وهو الاحتجاج وإمكانية تجاوز المنع ومجابهته، بخلاف فيلم أنطونيوني الذي اشتغل فيه على الإيهام الذي بإمكان الصورة عموما والسينما بالخصوص أن تعطينا إياه…
بين بلاغة الصورة والخطاب المباشر
ورغم أن بفيلم “تمبوكتو” لحظات سينمائية قوية اعتمد فيها المخرج على بلاغة الصورة إلا أنه يشكو أيضا من ضعف بائن في المشاهد الحوارية التي تسقط في المباشرة والتقريرية والتي أتت خارجة عن السياق الجمالي الذي حاول سيساكو وضع أحداث فيلمه فيه. وقد تجلى هذا الضعف بوضوح في تلك المواجهات الكلامية بين إمام المسجد المعتدل و”الجهاديين”، هوالذي يحاول طيلة لحظات الفيلم إقناعهم بوجهة نظره المختلفة عن تصورهم الذي يريدون تطبيقه في المدينة. وجهة النظر هاته التي يتبناها المخرج – على مايبدو – ويحاول تمريرها على لسانه. لكن يظل المشهد الذي نرى فيه “جهاديا” وهو يرقص وبالتوازي مع ذلك نشاهد حبيبين يُرجمان حتى الموت، من بين المَشاهد التي تفوق فيها سيساكو في إيصال تصوره دون حاجة للجوء إلى الخطاب المباشر، والذي شكل النشاز في السياق العام لفيلمه، فهو هنا يظهر من خلال الصورة فقط أن للجسد “قوانينه” وحاجاته التي لايمكن لأية سلطة أن تقف في وجهها…
“العنف مكون إنساني”
ليس العنف في فيلم سيساكو مبررا بالضرورة بدافع بعينه، فهو بالنسبة له كان وسيظل مكونا من مكونات الشخصية الإنسانية، وهو يظهر ذلك في عدة مشاهد أهمها مشهد يقوم فيه “كيدان” في فورة غضبه بأخذ مسدسه بعد مقتل بقرته المفضلة ويتجه إلى قاتلها الصياد “أمادو” ونواياه غير سليمة اتجاهه. ورغم أن مقتل الصياد سيأتي بطريق الخطأ بعد معركة بين الإثنين، فإن سيساكو يريد بهذا القول أن العنف خصلة بشرية ليست بحاجة سوى لبضع أسباب، وقد تكون الدوافع جد بسيطة، لكي تنفجر فجأة تلك الفورة الكامنة بداخله والتي لاتنتظر سوى الشرارة التي تشعلها. وهو حينما يعالج أفكارا من مثل هاته النوعية بلغة بصرية وبشكل مستتر وغير مباشر يكون في قمة إبداعه، لكن حينما يريد تناول تيمات آنية تتعلق بالسياسة وعلاقتها بالدين على الخصوص يسقط في المباشرة والتبسيطية.
ونحن نشاهد فيلم “تومبوكتو” نتذكر مخرجا كسام بيكنباه، الذي كانت تيمة العنف هي التيمة المركزية في أغلب أفلامه، ليس فقط تلك التي تنتمي لنوعية “الويسترن” لكن أيضا أفلامه الأخرى التي تنقلب فيها حتى تلك الشخوص التي كنا نظنها مسالمة لتصبح تحت ضغط ظرف ما أو نتيجة تعرضها لاستفزازات لتصبح أكثر عنفا ودموية من الشخصيات التي تُقدم لنا في البدء على أنها عنيفة، ويمكن هنا استحضار فيلمه “كلاب من قش” (1971) حيث ينقلب الزوج المسالم والذي يبدو أول الأمر أقرب منه للشخصية السلبية الجبانة، والتي يؤديها داستين هوفمان باقتدار، ليفاجأنا بردود فعله الجد العنيفة…
ويظل الرهان على ماهو إنساني…
لكن سيساكو يراهن أيضا على ماهو جميل ومشرق في الإنسان، فجميع شخوصه تتأرجح بين ثنائية الخير والشر، وتظل أغلبها تائهة في المنطقة الرمادية، متشبثة ما أمكنها بما هو إنساني فيها.
فالشخصيات بالفيلم مكتوبة بشكل جيد، وسيساكو لم يصور “الجهاديين” على سبيل المثال كما نشاهدهم في العديد من الأفلام الغربية خصوصا الأمريكية كشخصيات نمطية أو كاريكاتورية بعيدة عن الواقع، بل هم شخوص من لحم ودم تتجاذبهم المشاعر الإنسانية بما فيها من ضعف وقوة وجمال وقبح. وكأننا به يريد القول أن الإنسان يحافظ على ماهو إنساني وجميل فيه حتى وهو في قمة عنفه وتوهانه …
وقد ساعد في جعل شخوص الفيلم تتمتع بنوع من المصداقية عند المُشاهد استعانة عبد الرحمان سيساكو بممثلين هواة يساندهم ممثلون محترفون الأمر الذي أعطى لبعض الأدوار تلك العفوية التي كانت تحتاجها وأبعدها عن التصنع والفذلكة…
فيلم للعين الغربية
يبدو فيلم “تمبوكتو” وكأنه موجه للعين الغربية أكثر من كونه مصنوعا لجمهور عربي، ولمسألة الإنتاج المشترك دور في هذا الاختيار، هي التي ظلت تشكل باستمرار مشكلا يُكبل حرية المخرجين في بلدان المغرب العربي على الخصوص، ويجعل بعضهم يقوم بتنازلات بشكل من الأشكال. و يمكن إدخال فيلم “تمبوكتو” ذو الإنتاج المشترك الفرنسي- الموريطاني في هذا السياق، إذ نجد أنفسنا مدفوعين للتساؤل : هل كل ما نراه بالفيلم هو فقط الرؤية الفنية للمخرج، وهل أنه لم يتنازل للجهة المدعمة ولم يرضخ لتصوراتها السياسية على الخصوص، ولو جزئيا ؟…إذ أننا لن نملك أنفسنا ونحن نشاهد هذا الفيلم من مقارنة ما نراه بالنظرة الفرنسية الرسمية للصراع في مالي، هي التي تورطت في مستنقعه ومازالت.
عبد الكريم واكريم