27 عاماً مرت على فيلم البيانو (The Piano 1993) للمخرجة النيوزيلندية جين كامبيون، ولا يزال يمنح الشعور بقيمته، الفيلم يحكى عالماً واقعياً على نحو تعسفي، يريد أن يجعل إنسان تحت السيطرة، رافضا له حرية الاختيار، سواء في الحب أو الزواج، وفي محيط وحشي يرتفع بنيان الفيلم القائم على الصراع بين محاولة الإخضاع، ورفض الخضوع، لقد وضعوا امرأة صامتة على قارب، لترحل مع ابنتها من العالم الذي نشأت فيه، إلى عالم آخر لتتزوج زواجاً مدبراً من رجل لم تقابله أبداً!
رتب والدها في إسكتلندا لزواجها من مالك أراضٍ مقيم في نيوزيلندا، دون أخذ رأيها، وهي المرأة الصامتة التي تعبر عن دواخلها بالموسيقى، قوة الهيمنة، والقوة المضادة لها وهي الرفض الداخلي، تشعر بها موجودة في الطبيعة والموسيقى الصادرة من البيانو، فعلى الحدود الموحلة في الساحل الغربي لنيوزيلندا نواجه الرياح وصخب الأمواج العالية، الوحل والمطر، الأدغال الكثيفة، وإدراج شخصيات الماوري، السكان الأصليين لنيوزلندا المستعمرة… نحن أمام طبيعة وحشية جهزت تماماً للتعبير عن عمل وحشي.
يضاف إلى الإكراه الذي وقع على آدَّا (تترجم في الفيلم عايدة) قيام الزوج برفض نقل البيانو من الشاطئ إلى المنزل بحجة وعورة الأرض، وبذلك أهمل الشيء الوحيد الذي يعبر عن أعماقها الداخلية، لكن الزوج وافق فيما بعد على بيع البيانو الذي لا يملكه لصديقه مقابل قطعة أرض، وبذلك فضّل المال عليها، وتاجر بمشاعرها كأنها شيء يملكه، إن رد فعل آدّا على كل ذلك هو عدم منح زوجها العلاقة التي يريدها.
والنقطة التي أجّجْت الصراع الداخلي في أعماق آدَّا الصامتة، هو قيام صديق الزوج جورج بطلب البيانو بحجة التعلم لكنه استمع فقط لعزفها، وظل يصغي إلى أعماقها التي يصدرها البيانو، ومن الإصغاء المستمر لها بدأت آدا تميل إلى صديق زوجها، ثم وقعت في حبه، هذا الصديق الذي بدا لنا مفترساً، لم يفعل شيئاً سوى هضم البيئة الوحشية حوله، ثم اِنْتابَهُ ندم عميق على ما فعله حتى وقع فريسة للمرض، وفى النهاية عوض آدّا عن معاناتها.
في بداية الفيلم نرى الفروق بين الرجلين، وهي فروق تمهد للأحداث، فزوجها يتحفَّظ من السكّان الأصليين للجزيرة، بينما صديقه يندمج معهم ويتكلم لغتهم، وقد رسم على وجهه وشماً مثلهم، إنه يمتزج بالبيئة ويهضمها، وفي أول استقبال لزوجته على الشاطئ يقول الزوج ستيوارت لصديقه جورج مشيراً لزوجته:
ـ ماذا تعتقد؟
ـ تبدو مرهقة…
ـ (فيرد الزوج رداً يكشف البرودة تجاه الحياة البشرية): إنها معاقة ذلك كل شيء.
شيئاً فشيئاً أخذ الزوج ينزع ريش آدَّا، كانت في نظره معاقة فبدأ يحشرها في الإعاقة أكثر!! واقفاً ضد الطبيعة البشرية التي بحاجة لمن يصغي إلى أعماقها، لكن آدَّا لم تتحول إلى الزوجة التي يريدها أن تكون، وفى مشهد وحشي أمسك بالبلطة وقطع أحد أصابعها.
تساهم ابنتها فلورا في هذا العمل، الابنة التي تظهر مع أمها فى أجمل المشاهد الحانية في الفيلم، هي التي تحيك الأساطير حول صمت أمها، ووفاة والدها معلِّم البيانو الذي علمَّ آدَّا العزف، وهي التي تترجم لغة الإشارات التي تستخدمها والدتها، لقد ظهرت العلاقة بين الاثنين الأم والابنة مترابطة وحانية في مشاهد تطفو فوق السحاب، حتى بدأت علاقة آدّا بجورج، فبدأت الأم تبعد الابنة، ليس إبعاداً عن القلب بل تحرجاً أن ترى الابنة مشاهدها الحميمة مع جورج، أخذت فلورا الصغيرة تقضى وقتها مع كلب، أو لوحدها أو مع أطفال الماوري، ثم التفاعل مع ستيورات، إن الرفض الداخلي من الابنة لهذه العلاقة التي أبعدتها عن أمها ترجم في رفض توصيل الرسالة:
ـ (لا يُفترضْ أنْ نزوره)
ثم تأخذ الرسالة إلى الزوج بدلاً من جورج.
ـ (قالت أمي أن أعطي هذا للسيد بينز، اعتقدت أنه ليس من الصحيح فعل هذا).
لقد جهزت المخرجة كل الظروف لتبني شريرها في شخص الزوج! لكن هل هو شرير كلياً؟
إن ستيورات الذي كان يحمل فكرة أن الزواج من امرأة صامتة لن تجادله أو تعترضه، وتنتظر عودته صامتة في البيت، سيمنحه الشعور بالرضى والسيطرة، مستكملاً بذلك وضعه الاجتماعي، وجد في برودها وصمتها خصماً له، وقبل المشهد الوحشي في قطع أصبعها لا نجد أمامنا إلا كائناً يهتم بالأرض والمال محاولاً إنشاء علاقة مع الزوجة، لكنه يفشل فلم يبذل جهداً كافياً للفهم، ويساهم في هذا الفشل أقاربه من السيدات الباردات تجاه آدّا، إن الإنسان الذى تزوجه يراه ككائن غريب لا يفهمه مختلف ومتخلف في عقله، رغم حرصه على إرضاء الزوجة وابنتها.
إلى هنا فالزوج يتحرك بشكل طبيعي ككل إنسان، بحسناته وعيوبه، حنى يكتشف علاقتها فيحدث التحول وتبدأ العواطف البشرية المدمرة تسيطر عليه، مع تصميم على الاستحواذ على الزوجة كلياً، لحد محاولة اغتصابها في الأدغال، ثم قطع أصبعها بالبلطة مهدداً بأنه سيقطع الواحد تلو الآخر، فيظهر في هذه اللحظات كشخص يتملكه الشر الخالص، لكن عذابه الداخلي، الذي يكشف حقيقة ما يكنه من مشاعر طيبة، يظهر أمام صديقة جورج، وفي مشهد كاشف للروح يعترف بسوء ما ارتكبه فيقول لجورج:
ـ (انظر حولك، إنه وجهك، تلك الصورة في مخيلتي، لكنني أراك الآن، إنه لا شيء، لديك ملاحظاتك وتنظر إليَّ بتلك العينين، وتشعرُ بالخوف مني، انهض، هل سبق أن تكلمت معك؟
ـ تعني بالإشارات؟
ـ لا.. بالكلمات؟ هل سبق أنْ سمعت كلمات مسموعة؟
ـ لا.. لم أسمع أيَّة كلمات، أما تخيلت أنك سمعت كلماتها؟
ـ أنا سمعت صوتها هنا في رأسي، الشفاه لم تتحرك، لكن برغم ذلك فأنا واثق أنني أستمع إليها بوضوح، لقد عاقبتها بصورة سيئة.
ـ لقد كان عيبي.
– لقد قالت (أنا أخشى من رغباتي، ماذا يمكنني أن أفعل؟ إنها غريبة وقوية جداً، لقد قالت: يجب أن اذهب.. دعني أذهب، دع (بين) يأخذني دعه يحاول أن ينقذني أتمنى لها أن ترحل، أتمنى لك أن ترحل، أريد أن أستيقظ وأجد أن هذا لم يكن سوى حلماً ذاك ما أريد).
المأساة قوية، وهي وحدها من وضعت ستيورات قبالة نفسه كأنه يقف أمام مرآة مشروخة، لم يقف أمام مثلها من قبل، فتبدت له هشاشته، لقد عجز أن يتمادى في الشر، لذا اختار الحل المتناسب مع نفسه، وهو ترك آدّا ترحل مع جورج.
هذ الفيلم بطابعه الرافض لأسلوب الحياة الفيكتوري، من الممكن حصره في المشاعر المكبوتة من الغضب والرغبة حول الشخصيات الأربعة، لكن المخرجة تعطي الفيلم أبعاداً أخرى، فنرى الحياة البرية الوحشية تستهلك أسلوب الحياة الأوربي، وشخصيات الماوري تكشف زيف تلك الحياة، وفى التاريخ يظهر شعب الماوري كآكل لحوم البشر! فهل آكل الأوربيون لحم أدّا؟
في مقدمة الفيلم وعلى خلفية سوداء يظهر التتر متباعد الحروف بلون كلون طحالب البحر الخضراء، كإيحاء للأعماق المظلمة في النفس البشرية، ورمز أيضاً لوجود الجمال الخلاق فيها، وكل ما يريده إفساح مجال له في الحياة، وهو ما تحقق في نهاية الفيلم، أما مشهد سقوط أدّا في البحر والذى يظهر كمحاولة انتحار، وهو مشهد يوجز قصة الفيلم بأكملها: فإما الاستسلام لما يفرضه الآخرون علينا والموت، أو المقاومة واختيار الحياة، إن آدّا التي سقطت في المحيط باستسلام متأملة الموت وهو يحيط بها، هي بنفسها التي قاومت وحدها بالأعماق حتى صعدت إلى السطح لتتنفس الحياة، بعد ذلك وليس قبله ساعدها الآخرون للصعود إلى المركب، إن الإرادة هنا عامل مهم، وقد عبرت الممثلة هولي هنتر بطريقتها الخاصة عن ذلك بشكل مذهل، بنظراتها الثاقبة وإشاراتها الحاسمة كحد السيف، وظهرت بتعبيرات وجهها وذقنها القوية كقوة بارزة بين الممثلين، حتى في لحظات الحزن ظلت قوتها ظاهرة.
لكن المخرجة وقعت فيما حاولت الدفاع عنه، فقدمت شخصيات الماوري أي السكان الأصليين للجزيرة كشخصيات مقلدة متخلفة، وبشكل نمطي مثلما كانت تقدم ثقافة القبائل الأفريقية في أفلام طرزان القديمة، لقد اندهشوا من صوت البيانو وارتعبوا منه، رغم أن الموسيقى والطبول والرقص كانت معروفة عند جميع القبائل القديمة، وكانت الطبيعة حولهم بما فيها من حيوانات وأصوات ملهمة لهم لإبداع الفنون.
أحد جماليات الفيلم موجودة في تصوير الساحل الغربي لنيوزيلندا، الأرض الموحلة، والغيوم، والأمواج الهادرة، والأدغال المتشابكة، كرمز لطبيعة الإنسان بما فيها من وحشية وجمال، ففي الأدغال جرت محاولة الاغتصاب، وفيها أيضاً ارتفعت البلطة لتهوي كالمقصلة وتقطع إصبعاً، وفى الوحل جلست آدّا وقد ارتسمت على وجهها أمارات الصدمة والذهول من وحشية الإنسان التي طغت على ألم قطع الأصبع.
فيلم يأخذنا للكشف عن رحلة الإنسان الأبدية لإخضاع الآخرين، والثمن الذي يتعين عليه أن يدفعه بسبب اعتدائه الفظ على أخيه الإنسان، مبرزاً عذاباته وإصراره المدهش على الحرية وعدم الخضوع لإرادة الآخرين، إن الأصبع الذي تم قطعه تم تعويضه بأصبع صناعي وإن بدا على البيانو غير متناغم، إلا أن التعويض الحقيقي جاء في قيام آدّا الصامتة بالتدرب على الكلام لكن في الظلام كأنها لا زالت خائفة من العالم، وقلقها المضني يأخذنا في نهاية الفيلم إلى الأعماق الصامتة والمظلمة، حيث يقبع البيانو الخاص بها كتابوت، الكادر نفسه في النهاية يشبه كادر البداية بنفس الخلفية السوداء المقبضة.
سعيد رمضان علي