الرئيسيةمتابعات سينمائيةمهرجان لوكارنو 2025: السينما تواجه العالم المشتعل بتنوع وشجاعة

مهرجان لوكارنو 2025: السينما تواجه العالم المشتعل بتنوع وشجاعة

Giona A. Nazzaro

في عالم تتصاعد فيه ألسنة اللهب من مختلف الاتجاهات السياسية والاجتماعية، يبدو أن السينما لا تزال تحتفظ بمكانتها كوسيلة مقاومة، ومهرجان لوكارنو السينمائي لعام 2025 مثال حيّ على ذلك. يعود هذا الحدث الثقافي البارز بنسخته الثامنة والسبعين ليثبت مرة أخرى أن السينما قادرة على عكس اضطرابات العالم واحتضان تنوعه، دون التنازل عن جرأتها الفنية أو استقلاليتها التعبيرية.

المهرجان، الذي سيُقام في المدينة السويسرية الجميلة الواقعة على ضفاف بحيرة ماجيوري بين 6 و16 أغسطس، يقدم هذه السنة مزيجًا غير مألوف من الأعمال السينمائية: من أفلام المؤلفين ذات الرؤية الخاصة، إلى أعمال تجريبية، إلى روائع كلاسيكية، وأعمال قادمة من مهرجان كان، وصولًا إلى عروض تلفزيونية وسينما جماهيرية. من بين العروض اللافتة هذا العام، يبرز فيلم “دراكولا” للمخرج الروماني رادو جود، الذي يقدم رؤية جديدة ومتماسكة لرواية برام ستوكر، بتداخلات سياسية وثقافية عميقة.

ومن الأسماء اللامعة المشاركة في هذه الدورة: جاكي شان، إيما تومبسون، لوسي ليو، وجميعهم سيحظون بتكريمات خاصة، إلى جانب أسماء بارزة كويليم دافو، الذي يلعب دور البطولة في فيلم “حفلة عيد الميلاد”، الذي يقدم رؤية رمزية عن السلطة والثروة عبر قصة خرافية حديثة.

جيونا نازّارو، المدير الفني للمهرجان، يتحدث بثقة عن أهمية هذه الدورة، مؤكدًا أن التحضير لها لم يكن سهلًا، بل اتسم بالصرامة، إذ استُبعدت أفلام جيدة رغم جودتها، ما يؤكد صعوبة الاختيار والرغبة في الحفاظ على جودة المحتوى. ويعتبر نازّارو أن قوة التظاهرة لا تتجلى فقط فيما يُعرض، بل أيضًا في ما تم استبعاده رغم قيمته.

الرهان الكبير لهذه الدورة كان على التنوع في المقاربات السينمائية، دون السقوط في فخ الانتقائية النخبوية أو التكرار. يتحدث نازّارو بصراحة عن الحاجة إلى تجاوز الأفكار التقليدية في اختيار الأفلام، مشيرًا إلى أن العالم المتأزم يفرض على المهرجانات أن تتحمل مسؤولية سرد الواقع، وليس الاكتفاء بإغراق المتفرج في أحلام سينمائية معزولة. وهذا ما يفسر اختيار المهرجان لأعمال تتطرق إلى قضايا حساسة، مثل فيلم “مع حسن في غزة” للمخرج الفلسطيني كمال الجعفري، الذي يوثّق رحلة شخصية في بحثه عن صديق خلال سنوات الألفينات، وهو مشروع سينمائي استعاد فيه المخرج أرشيفًا بصريًا مفقودًا، ليكتشف أنه يوثق ذاته وتاريخه وهويته الفلسطينية قبل أن يوثّق صديقه.

وفي مقابل هذا الفيلم، يعرض المهرجان فيلمًا آخر للإسرائيلي إران كوليرين بعنوان “ملاحظات حول الوضع الراهن”، الذي يتناول الهوية الإسرائيلية اليهودية من منظور نقدي. كلا الفيلمين لا يسعيان إلى خلق توازن سطحي، بل يُظهران أن السينما يمكنها أن تحتضن تعقيدات النزاعات دون تزييف الحقائق أو تطبيع التناقضات.

وتشمل العروض أيضًا السلسلة الوثائقية “الصفقة” للمخرج جان-ستيفان برون، التي تتناول كواليس المحادثات النووية بين إيران والولايات المتحدة في لوزان عام 2015. يعتبر نازّارو أن هذه السلسلة ليست مجرد وثيقة سياسية، بل أيضًا قطعة فنية تلعب على الحافة بين الوثائقي والدرامي، مستحضرة أجواء سياسية مشوقة على غرار “الجناح الغربي” و”24 ساعة”.

ولا يغيب الجانب الترفيهي عن هذه الدورة، إذ يحرص القائمون على تقديم أعمال كوميدية ومشوقة، مؤمنين بأن التنوع لا يعني التضحية بالعمق، بل إثراء التجربة السينمائية. ويؤكد نازّارو أن برمجة المهرجان لا تنحصر في أفلام طويلة وصامتة ومليئة بالتأمل، بل تهدف إلى تقديم “رحلة” متعددة الألوان والأنماط.

أحد أبرز الاختيارات الجدلية هذا العام هو فيلم عبد اللطيف كشيش “مكتوب، حبي: النشيد الثاني”، الجزء الأخير من ثلاثيته التي بدأها قبل سنوات. الفيلم، رغم الجدل الذي يلاحق مخرجه على خلفية اتهامات سابقة، اختاره المهرجان لأنه يحمل توقيعًا فنيًا متميزًا، ويقدم جرعة نادرة من البساطة والعمق، حسب نازّارو، الذي يرفض الخلط بين الجدل الأخلاقي ومحتوى الفيلم نفسه. ويصر على أن المهرجان لا يصادق على أي سلوك غير مقبول، لكن يجب أن تُمنح الأعمال الفنية فرصة تقييم مستقلة.

كما يسلط المهرجان الضوء على فيلم “حفلة عيد الميلاد” للمخرج ميغيل أنخيل خيمينيث، حيث يجسد ويليم دافو شخصية رجل ثري يعيش في عزلة سلطوية، تعكس رمزية الآلهة القديمة التي يُضحى من أجلها. يُنظر إلى هذا الفيلم كمرآة لعصرنا، حيث السلطة الاقتصادية تتضخم، والشرخ الطبقي يتعمق.

وبعيدًا عن المحتوى، يعزز المهرجان حضوره العالمي عبر تكريم مجموعة من الأسماء اللامعة. بالنسبة لجيونا نازّارو، تكريم جاكي شان هو حلم تحقق، كونه أحد عشاق سينما هونغ كونغ، أما لوسي ليو، فيراها من أعظم الممثلات العالميات، بينما يرى في إيما تومبسون تجسيدًا حقيقيًا للعبقرية الفنية. ويصف ميلينا كانونيرو، مصممة الأزياء الشهيرة، بأنها عبقرية عصر النهضة في عالم السينما، بينما يأتي تكريم ألكسندر باين كتأكيد على العلاقة المتينة بين المهرجان وصنّاع السينما المستقلة في أميركا.

من اللافت أيضًا عودة اليابان إلى المنافسة، عبر فيلم “رحلة وأيام” للمخرج شو مياكي، بعد غياب سنوات. يعكس هذا الحضور إصرار المهرجان على تعزيز التعددية الثقافية، والبحث المستمر عن أصوات سينمائية جديدة.

إن مهرجان لوكارنو 2025 لا يقدم مجرد عروض سينمائية، بل يشكل موقفًا ثقافيًا وأخلاقيًا من العالم المتغير. في ظل تصاعد الأزمات الإنسانية والنزاعات الدولية، يصرّ المنظمون على تقديم سينما تنظر في عين العاصفة، وتسائل الواقع دون خنوع. وبين دراكولا المُعاد تصوره، وحسن الباحث في غزة، وأوغاد المال في جزر العزلة، تحاول هذه الدورة أن تقول شيئًا صادقًا عن زماننا. وكأن السينما، رغم كل شيء، لا تزال آخر معاقل الحرية والتفكير المستقل.

سينفيليا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *