عندما كتب الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي كريستوفر مارلو مسرحيته «دكتور فوستوس» أو «دكتور فاوست» سنة 1588، لم يدر في خلده أنذاك أن ما كتبه سيخلد وأن شخصياته ستتعدد لغاتها، وأن حبكته ستتغير بتغير الزمان والمكان والرؤى والثقافات… شخصية فاوست هذه ترعرعت قبل مسرحتها بين الحقيقة والأسطورة واكتسبت زخما فلسفيا وإبداعيا عميقا، اقتحم الكثير من القضايا الفكريّة والإنسانية والدينية التي قتلت بحثا ومعالجة داخل المسرح والأوبرا والسينما والدراما أيضا، بعد كريستوفر مارلو دخلت شخصية فاوست في عدة مختبرات لكتاب ومبدعين تعددوا واختلفوا، كل حسب خلفيته الثقافية والمعرفية، لكن المسرحي الألماني يوهان غوته طورها جماليا وفكريا وأحاطها بالكثير من الذاتية المستقاة من الواقع الإنساني بهمومه وقلقه وأضحت بقلمه انعكاسا لنا، وصورة حديثة وعصرية لمجتمعاتنا ومدى ارتباطها بهواجسنا الوجودية، وقدراتنا على صياغة قيّم إنسانية بديلة متجردة من المصائر المأساوية والتراجيدية في ظل الصراع الأبدي بين الخير والشر.
لن أحكي هنا حكاية دكتور فاوست فما يهمني ويهمنا منها هو عصبها، والنواة التي فجرت أحداثها وبنيت عليها شخصياتها، والنواة هنا هي العقد الذي أبرمه فاوست مع الشيطان مفيستوفيليس، حيث باع فاوست روحه للشيطان نظير العلم والمعرفة والملذات والخلود… بعيدا عن المسرح هناك الكثير من الأفلام السينمائية التي اقتبست من هذه الحكاية عقدتها، أفلام أمريكية وأوربية وعربية… لكن ماذا عنا نحن؟ هل سنجد في تجاربنا السينمائية المغربية عملا شرّح فكرة الحكاية، وغاص بين دهاليزها مستعرضا ومستكشفا عوالمها؟ تلك العوالم التي قد تمثلنا كشخصيات فاوستية مغربية، للأسف التجربة الوحيدة التي وقفتُ عليها شخصيا ووجدتها قد تبنت هذه الفكرة، وأقحمتْها بقوة وبنضج وجرأة داخل حبكتها، لتمنحنا في الأخير موضوعا شائكا قلما تطرقت إليه الأفلام المغربية، هي فيلم «العبد» الذي أنتج مؤخرا وبتوقيع من عبد الإله الجوهري، فقلما يصادفني فيلم مغربي، يتحدث فلسفة، ويطرح أسئلة وجودية ذات معنى، ويصبغ شخصياته بشخصيات رمزية من قاع المجتمع، شخصيات بحمولات إنسانية وأخرى بحمولات شيطانية تتصارع فيما بينها بالكلمات لا بالأفعال والأحداث، فالحوار هنا هو عصب الفيلم وداخله تتمركز أفكار جريئة ورؤى ناضجة، تلك التي تتسرب إلى المتلقي بكل بساطة وسلاسة.
الفكرة تتمحور حول الشاب إبراهيم/سعد موفق الذي وصل عبر القطار الى محطة بمنطقة نائية، شاب ليس ككل الشباب، شاب جاء بطلب غريب جنوني وهو البحث عن سيّد يشتريه كعبد، يسخر منه الكل، ويصرّ رغم ذلك على بيع روحه لأحدهم، لكن بشرط أن يكون غنيا، هو ليس كفاوست مالرو، ولا كفاوست غوته، لا يبحث عن الخلود ولا عن العلم ولا عن الملذات، فقط عن الأمن والأمان، أثناء البحث يلتقي الشاب العبد، بشاب آخر اسمه عادل/عمر لطفي يصل في نفس الوقت الى نفس القرية ليشتغل لدى بن عمر/اسماعيل أبو القناطر، «الباطرون» صاحب المصنع الوحيد في المنطقة، إذاً نحن هنا أمام ثلاثي يشكل مثلثا بثلاث زوايا/ شخصيات رئيسية في الفيلم، في طرفي ضلعه الأعلى تتمركز الشخصيتان الشابتان، عادل وإبراهيم، وفي زاويته السفلى يتمركز بن عمر، ضلع من أضلاع المثلث يجمع عادل الموظف بالباطرون بن عمر، والضلع الآخر المقابل له يجمع العبد إبراهيم بالسيّد بن عمر، وهنا تكمن العقدة الجوهرية في الفيلم، فالشابان هما في الحقيقة شخص واحد، مهما تعددت ملامحهما وتسمية ما يقومان به، فهما في الأخير عبدين، وسيدهما واحد، فقد باعا نفسيهما عن وعي أو عن غيره للشيطان كسيد أو كصاحب عمل، سواء عن طريق الوظيفة أوعقد العبودية، وهذه هي مأساة العصر الحديث، فلا حرية مهما تشدقنا بها، ففي الأخير هي عبودية مقنعة بقناع الحداثة والتقدم.
في هذا السياق يطرح الفيلم السؤال على لسان إحدى شخصياته، ويجيب عليه في نفس الوقت هل هناك فعلا حرية وديمقراطية كما نعتقد؟ لا حرية مطلقة بل هامش منها فقط ولن يؤهلك سوى لاختيار سيدك، إشكالية تقذف بنا إلى معنى الحرية فلسفيا، وخصوصا لدى جان بول سارتر الذي لا يتفق مع هذا المفهوم المطروح هنا في بداية الفيلم أثناء المناقشة بين الشابين، حيث الإختيار لديه فعل قصدي يؤدي في الأخير إلى مصير معين سلبيا غير مأمول كان أو إيجابيا، والحرية هي التي تتحكم في الإختيار من عدمه وكيفما كانت نتيجته، ففي الأخير الإنسان حرّ وعلى حريته يُبنى وجوده، وبهذه الحرية يتمكن من تغيير مصيره حسب سارتر، وهذا ما نصل إليه في نهاية الفيلم، إذ نتلقى إجابة أخرى معاكسة، حيث نخرج من عالم شخصية فاوست عند مارلو حيث لا انعتاق من العبودية والمصير المأساوي الذي يتعرض له مجبرا، إلى فاوست عند غوته حيث الخلاص والحرية والانتصار للقيّم الإنسانية، كمصير يتقاطع مع مفهوم الحرية لدى سارتر كما بينت، إذ يحدد الشابان مصيرهما في النهاية، فعادل يتحول من مجرد مستخدم مطيع الى مناضل يقف في وجه «الباطرون» بدفاعه عن حقوق زملائه العُمّال، وإبراهيم العبد يعتق نفسه بنفسه ويختار أن يتبع قلبه وحبيبته ابنة سيده السابق، وكأنها غريتشن أو مارجريت حبيبة فاوست، التي شكلت له الخلاص، هل هي عبودية من نوع آخر؟ بل هي اختيار والإختيار حرية كما قلنا.
بين هؤلاء الشخصيات الرئيسية الثلاث، نصادف شخصيات فرعية أخرى، كل واحدة منها تمثل العبودية بشكل أو بآخر، فالطفل هو عبد لأسرته، ابنة صاحب المعمل هي أمَة لاختيارات أمها ولزواجها السابق ولمرضها، أهل القرية هم عبيد للرأسمالية الجديدة، المصلّون هم عبيد لله، الخدم في الفيلا والعمال والموظفون هم عبيد لبن عمر… لكن تبقى هذه العبودية كما قلت وهمية وقابلة للتحول إلى الحرية بالإرادة والتمرد والثورة كما رأينا عند الإبنة، وعند العمال، وكذا عند الشابين في نهاية الفيلم.
الشيطان في الفيلم جاء بصورة إنسان عادي، وقد تقمص شخصيته اسماعيل أبو القناطر، فهو هنا مجرد سيّد وتاجر غني، وصاحب معمل، وأب، وزوج، لكن صفاته وتصرفاته، بل حتى شاربه وذقنه القريب شيئا ما من تمثال خشبي منحوت لشخصية الشيطان مفستوفيليس، والمعروض بمتحف في حيدر آباد بالهند، اسمه Mephistopheles and Margeretta Double Statue يوحي لنا بأنه فعلا شيطان مستوحى عن قصد من دكتور فاوست، فرغم أن ملامحه بشرية عصرية بخلاف الكثير من الروايات المسرحية والسينمائية التي اعتمدت على الهيئة الشيطانية القبيحة، يظهر لنا في الفيلم كشيطان حقيقي يسعى بكل قوته وجبروته لامتصاص دماء الفقراء والبسطاء من العُمال وأهل القرية، بل وكل المحيطين به، فالشيطان هنا مجرد رمز بطبيعة الحال للكثير من الأشياء التي أصبحت تتحكم فينا، والتي تنازلنا لها عن حريتنا طواعية.
الجرأة في الفيلم تصل مداها في طرح الكثير من الأفكار الجريئة التي تتحكم فينا وفي مصائرنا واقعيا، فالسينما المغربية عامة محافظة وجبانة، فقليلة هي الأفلام التي تعرّضت لمواضيع وأطروحات خارج السياق السياسي والديني العام الذي نعيشه، ولو بشكل عابر، فيلم العبد ينضم الى هذه القلة من الأفلام حيث أشار في بعض محطاته الى إشكالية العبودية للتراث وأيضا لله فعبد الفيلم ينسلخ من عبوديته لخالقه ويبحث عن بشر يشتريه لأن هذا الأخير يراه وجها لوجه، ويستطيع أن يتعامل معه مباشرة.
يبقى الفيلم تجربة مغربية مميزة في اقتباس أطروحة فاوست كملحمة استثنائية في الأدب العالمي، وطرح أوراقا عدة على الطاولة، أوراقا لن يجرؤ الكثير من المخرجين المغاربة على طرحها في سينماهم للأسف.
فؤاد زويرق