إذا كانت الكلمة -كما يقول النقاد- للكاتب، فالصورة للمخرج، وللانتقال من الكلمة إلى الصورة ثمة إضافات تقنية وفنية وكومات خيال، إن اختل شيء من هذه الإضافات جاء العمل السينمائي مشوها فنيا، وعلى المخرج أن يحافظ على اللمسة الأدبية في عمله السينمائي. لذلك كانت الأعمال الروائية إحدى الروافد المهمة للأعمال السينمائية، وهناك روايات عالمية لم تحظ بالشهرة المتوقعة إلا بعد تحويلها إلى فيلم سينمائي مثل الرواية الوحيدة «ذهب مع الريح» للكاتبة الأمريكية «مارغريت ميتشل» صدرت عام 1936 بدأت كتابتها بعد أن أصيبت بمرض أجبرها على المكوث في البيت مدة طويلة، وفازت عام 1937 بجائزة البوليتزر. تحولت إلى فيلم سينمائي مدته 3 ساعات و42 دقيقة. وأفلام خالدة أعطت إشعاعا لروايات عالمية مثل: «العراب» لفرانسيس كوبولا المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للروائي ماريو بوزر عام 1968، وفيلم «المريض الانجليزي» للمخرج أنتوني منغيلا عام 1996 المقتبس عن رواية بنفس العنوان للروائي مايكل أوند اتجي. ويعتبر النقاد أن عملية تحويل العمل الأدبي إلى عمل سينمائي، هي عملية إبداعية تمر عبر مختبر بالغ التعقيد، لأن الكاتب تسكنه الكلمة في حين أن المخرج تسكنه الصورة.
في البدء كانت قصة الفيلم السينمائي تقوم على مجرد فكرة في بدايته ثم تنبني عليها الأحداث بشكل ارتجالي، لتنتهي بالمطاردة (مثل أفلام شارلي شابلن). لكن مع تطور السينما أصبح النص السينمائي، أو السيناريو أكثر تعقيدا ودقة فاعتمد عدد كبير من المخرجين على المواد الأدبية.ولهوليود تاريخ عريق في استلهام الأعمال الأدبية العالمية، وبفضل تحويل الأعمال الأدبية إلى أفلام سينمائية، تعرف الجمهور على شخصيات أدبية في قالب فني بديع مثل هاملت، وجان فالجان، والكونت دي مونت كريستو، وسيرانو دي برجراك… وأفلام مثل: «زوربا الإغريقي» و«اسم الوردة» و«عناقيد الغضب» و«العطر» وغيرها من الأفلام السينمائية التي استمدت نجاحها من نجاح الرواية.
وعززت السينما قوة أعمالها الفنية باستفادتها من أعمال عمالقة الأدب الإنساني الخالد أمثال: فيكتور هيجو (البؤساء، وأحدب نوتردام)، وديستويفسكي (الإخوة كارامازوف)، وتشارلز ديكنز (قصة مدينتين)، وتولستوي (آنا كارينا)، وهيمنجواي (الشيخ والبحر)، وبوريس باسترناك (دكتور زيفاكو) وغيرهم من الأدباء الذين تعرف عليهم الناس من خلال تجسيد شخصياتهم الروائية عبر الشاشة.
وفي الفترة التي اعتمدت فيها السينما العربية على استلهام أفلامها من الأدب خلال منتصف القرن الماضي بشكل مكثف، وخاصة في مصر، أطلق على هذه الفترة بـ«زمن الفن الجميل» وهي الفترة التي اتجهت فيها السينما إلى نقل مواضيع تعالج الواقع على الشاشة انطلاقا من الأدب، وكانت أول رواية تم تحويلها إلى عمل سينمائي في العالم العربي هي رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، والتي قدمت صورة جيدة عن المرأة، وحولها المخرج محمد كريم إلى فيلم صامت عام 1930، وقدمها مرة أخرى عام 1952 من خلال فيلم ناطق.
ويعد نجيب محفوظ أهم الكتاب العرب الذين حظيت رواياتهم باهتمام كبار المخرجين السينمائيين الذين حولوا أعماله الروائية إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية أبرزها ثلاثيته (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) وروايات «خان الخليلي» و«اللص والكلاب» و«الحرافيش» و«ميرامار» و«الطريق» و«السراب». وكانت رواية «بداية ونهاية» أولى رواياته التي تم تحويلها إلى فيلم سينمائي عام 1960، وشارك نجيب محفوظ في كتابة سيناريو الأفلام السينمائية مثل «درب المهابيل» و«الاختيار» و«المذنبون».
وحظيت روايات يوسف السباعي (وزير الثقافة المصري عام 1973) هي الأخرى بالاهتمام السينمائي كروايات «نادية» و«الليلة الأخيرة» و«اذكريني»… وكان لإحسان عبد القدوس النصيب الأكبر في تحويل رواياته إلى أعمال سينمائية، فقد حولت 49 رواية إلى نصوص أفلام سينمائية مثل «في بيتنا رجل» و«أنا حرة» و«هي والرجال» و«هذا هو الحب» وقصة «بئر الحرمان»، وتسع روايات إلى مسلسلات تلفزيونية. بالإضافة إلى أعمال طه حسين مثل «دعاء الكروان»، وتم إخراج 22 فلما مقتبسا من أعمال توفيق الحكيم مثل «يوميات نائب في الأرياف» و«الأيادي الناعمة» و«عصفور من الشرق» و«رصاصة في القلب». ويوسف إدريس مثل «لا وقت للحب» و«النداهة» و«الحرام».
وكتب الأديب السوري حنة مينا عشرات الأعمال الروائية التي اتسمت بالواقعية تم تحويل العديد منها إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية أهمها رواية «نهاية رجل شجاع». ومن أهم الأعمال الروائية الفلسطينية التي حظيت باهتمام السينما رواية «رجال في الشمس» للكاتب غسان كنفاني. وهناك العديد من الكتاب العرب الذين أغنوا الخزانة السينمائية بفضل رواياتهم مثل رواية «باب الشمس» لإلياس الخوري، و«غصن الزيتون» لمحمد عبد الحليم، و«واسلاماه» لعلي أحمد باكثير، و«شباب امرأة» للأديب وكاتب السيناريو يوسف غراب التي حُولت إلى فيلم للمخرج صلاح أبو سيف عام 1956 تم تصنيفه ضمن أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية.
وبعد تعثر مسيرة علاقة السينما المصرية بالأدب ظهرت رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني في السنين الأخيرة، والتي حولت إلى فيلم بنفس العنوان للمخرجمروان حامدعام 2006، والتي استطاعت أن تحيي العلاقة بينهما من جديد، وحققت نجاحا باهرا سينمائيا وروائيا (تم طبع أكثر من ثماني طبعات). ورواية «فرقة ناجي عطا الله» ليوسف معاطي التي حُولت إلى مسلسل تلفزيوني، وكذلك الأمر بالنسبة لرواية «خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر. وتوالت بعض الجرعات الأدبية بين الفينة والأخرى التي أنعشت السينما مثل رواية «الفيل الأزرق» و«تراب الماس» لأحمد مراد، و«هيبتا» لمحمد صادق.
وفي المغرب هناك بعض الأعمال الأدبية التي تم تحويلها إلى أعمال سينمائية، نذكر منها فيلم «حلاق درب الفقراء» لمحمد الركاب عام 1982 المقتبس عن مسرحية تحمل نفس العنوان للكاتب يوسف فاضل، وفيلم «شمس الربيع» عام 1969 للمخرج لطيف لحلو، وهو مأخوذ عن قصة للروائي المغربي عبد الكريم غلاب، وفيلم «الزفت» عام 1984 للطيب الصديقي المأخوذ عن مسرحية «سيدي ياسين في الطريق» للطيب الصديقي نفسه، و«صلاة الغائب» عام 1995 لحميد بناني عن رواية للطاهر بنجلون، وفيلم «درب مولاي الشريف» عام 2004 لحسن بنجلون المأخوذ عن رواية «الغرفة السوداء» للكاتب جواد مديديش، وفيلم «جارات أبي موسى» عام 2003 لمحمد عبد الرحمان التازي وهو مأخوذ عن رواية تحمل نفس العنوان للروائي المغربي أحمد التوفيق عام 2004، وغيرها من الأعمال السينمائية الناجحة.
وفي عام 2010 صدرت رواية «Les Étoiles des Sidi Moumen» (نجوم سيدي مومن) للكاتب المغربي ماحي بينبين التي استطاعت ترميم العلاقة القوية بين الأدب والسينما بعد تحويلها إلى فيلم سينمائي بعنوان «يا خيل الله» للمخرج نبيل عيوش، والذي حقق نجاحا باهرا عبر العالم بفضل مقاربته الإنسانية في معالجة ظاهرة الإرهاب، وحصد عدد من الجوائز العالمية، وتم عرضه في أوربا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وبعض البلدان العربية، وحصد أكثر من 18 جائزة دولية. وهو فيلم ينتمي إلى السينما الواقعية اقتبس من رواية «نجوم سيدي مومن» التي تنبني أحداثها على وقائع حقيقية تتعلق بسلسلة تفجيرات إرهابية في مدينة الدار البيضاء عام 2003.
في الوقت الذي يزداد اهتمام السينما العالمية بالأعمال الروائية والقصصية والمسرحية، وتعتبرها دعامة أدبية لنجاح أعمالها الفنية، نصطدم بظهور أفلام عربية خالية من الشكل والمضمونة وغياب فكرة واضحة فنيا، والتي تركب على موجة الكوميديا التافهة، والإضحاك المجاني الفارغ من كل هدف واقعي، أو أبعاد فنية. وقد برزت أصوات فنية تندد بهذه الأعمال السينمائية وتدعو إلى اعتماد السينما على الأدب، وتنهل من الرواية والقصة والمسرح، خصوصا بعدما ظهر كتاب سيناريو أفلام سينمائية هواة.
ومقارنة مع الغرب لا تزال السينما العالمية تستلهم أعمالها من الأعمال الروائية الناجحة، فعلى سبيل المثال، فقد تم تحويل عدد من الروايات الأجنبية إلى أفلام في سنة 2015، من أبرزها رواية «بروكلين هايتس» للروائي الايرلندي كولم تويبين، ورواية «الفتاة الدانماركية» للروائي دافيد ابراشوف مستقاة من حياة الفنان اينار فيجنر من أوائل الذين تحولوا جنسيا على إثر عملية جراحية، ورواية «الصمت» للكاتب الياباني شوساكو إندو، ورواية «خطيئة متأصلة» للروائي الأمريكي توماس بينشون، ورواية «مباريات الجوع» للكاتبة سوزان كولن، ورواية «الحجرة» للكاتبة الايرلندية إيمي دونجي، ورواية «الطفل 44» للكاتب الإنجليزي توم روب سميث، ورواية «السر في عيونهم»، للكاتب الأرجنتيني إدواردو ساشيري، ورواية «ثمن الملح» للروائية الأمريكية باتريسيا هايسيت، ورواية «الأماكن المظلمة»، ورواية «فى قلب البحر» للكاتب الأمريكي «ناثانيال فيلبريك»، ورواية «الأماكن المظلمة» للكاتبة الأمريكية «جيليان فلين»، ورواية «تركليموت» للروائي «بيك زيزرز»، ورواية «قصة حقيقية» للكاتب «مايكل فينكل» وغيرها من الأعمال المهمة.
في ظل تردي مستوى بعض الأفلام العربية وتراجع قيمتها الفنية وابتعادها عن الارتواء من عيون الأدب، طالب النقاد والسينمائيون بضرورةالعودة إلى الاعتماد على الأعمال الأدبية لتحسين جودة العطاء السينمائي، ونظمت عدة لقاءات تدعو لهذا الزواج الشرعي بين السينما والأدب، وأكدوا أن علاقة الرواية والقصة بالسينما تمر بحالة متأزمة، فاعتبروا الأدب منقذ السينما، وأن هذه الأخيرة تستفيد منه كثيرا. وإن كان هناك من النقاد من يعتبر السينما فنا قائما بذاته ولا حاجة له إلى الأدب، وأن لكل منهما لغته الخاصة من منطلق إنتاج أفلام جيدة تم صياغتها من روايات متواضعة، وبعدما تم إعادة كتابتها في شكل سينمائي جيد مثل فيلم «نور العيون» للمخرج حسن كمال عام 1991، وفيلم «الكات كات» المأخوذ عن الرواية الأصلية لإبراهيم أصلان.
إن انتقال عمل أدبي إلى عمل سينمائي يعطي لهذا الأخير بعدا فكريا وفلسفيا وأفكارا تجريدية تتمثل في الصورة والصوت والتشخيص من طرف شخصيات حقيقية، لأن الأدب يستطيع إيصال أعقد الأفكار من خلال استعمال الرواية، ولهذا كان للأدب دور كبير في تغيير شكل السينما من حيث المواضيع المتناولة، ومدى ارتباطها بالواقع، واقترابها من الخيال. ولقد حقق عدد كبير من المخرجين الكبار صيتا ذائعا وشهرة واسعة على حساب جودة النص الأدبي.
في بداية الإنتاج السينمائي اتجه بعض الأدباء المرموقين إلى هذا الوسط السمعي والبصري في الولايات المتحدة الأمريكية مثل وليم فوكنر، وناتاييل ويست، وجون دون باسوس.. ذهبوا إلى هوليوود تحذوهم آمال كبيرة.ورغم تشجيع المنتجين لهم، إلا أنهم اصطدموا بواقع آخر يختلف تماما عما كان في تصورهم. فارتدوا عن الاندماج في هذا الوسط، لأن أغلبهم قاموا بأعمال هزيلة، فأجهضت وكسرت أعمالهم فنيا.باستثناء قلة قليلة فإن كبار الروائيين والشعراء والمسرحيين يفشلون غالبا في أن يصبحوا كُتابا جيدين للنصوص السينمائية لأنهم من جهة يسيئون فهم طبيعة هذا الوسط، ومن جهة أخرى فإن جل كبار المخرجين تكون لهم اليد الأولى في كتابة النصوص وإن كانوا يعتمدون على كتابة آخرين لتوسيع أفكارهم و إبراز زوايا الاختلاف في الرؤية والثقافة ولهذا كان الأستوديو الأمريكي يشجع التأليف الجماعي للنصوص من أجل توسيع فكرة الفيلم*.
وكان الكتاب أحيانا يختصون بنوع معين من الكتابة كالحوار أو الكوميديا، وكان البعض يبرع في تنقيح النصوص الضعيفة وتشذيبها. وكان هتشكوك يساهم كثيرا في الشكل النهائي لنصوصه، إلا أنه كان يرفض ظهور اسمه على عمله، ويسمح للكاتب الرسمي أن يأخذ كل شيء.
إذا كان تحويل الأعمال إلى أعمال سينمائية يعطيها انتعاشا فنيا على مستوى الصوت والصورة، فإن اتجاه الأدباء إلى كتابة السيناريو من دون الإلمام بتقنيات الكتابة السينمائية ظنا منهم أنها ستلاقي نفس نجاح أعمالهم الأولى، فإنهم غالبا ما يفشلون في تقديم نصوص سينمائية ناجحة. والأدباء الذين نجحوا في أعمالهم السينمائية هم حتما استفادوا من تقنية الكتابة السينمائية، واحتكوا بمتخصصين في كتابة السيناريو.
وفي مقابل هذا الشد والجذب بين ضفتي الكلمة والصورة برزت فكرة سينما المؤلف للتخلص من ارتباط السينما بالأدب، وفي العالم العربي فقد تبنى المخرج عبد السلام شادي هذه الفكرة في فيلمه «المومياء» عام 1969، وهو مستوحى من قصة حقيقية مستعينا بالأديب علاء الديب، وصنف هذا الفيلم ضمن أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية.
***
*مأخوذ بتصرف من سلسلة –المكتبة السينمائية- «فهم السينما» لوي جانيتي-ترجمة: جعفر علي- منشورات عيون- 1993.
رضوان السائحي