رغم أن الصناعة السينمائية المصرية وأية صناعة سينمائية أخرى تشكل عائقا أمام ظهور واستمرار سينمائيين مستقلين وذوي تجربة مغايرة للسائد والتجاري، إلا أنها (الصناعة السينمائية المصرية) أفرزت عبر تاريخها الطويل أسماء قد تكون معدودة لكنها توازي كبار المخرجين العالمين وتقف لهم ندا، ومن ضمن هؤلاء المخرج المتميز داوود عبد السيد.
وداوود عبد السيد من بين جيل المخرجين المنتمين إلى ما اصطلح على تسميته بموجة «الواقعية الجديدة في السينما المصرية»، والتي شهدتها فترة الثمانينيات من القرن الماضي، لكنه قبل ذلك اشتغل كمساعد مخرج مع كبار المخرجين المصريين كيوسف شاهين في فيلم «الأرض» وكمال الشيخ في فيلم «الرجل الذي فقد ظله»، ثم انتقل بعد ذلك إلى تصوير الأفلام الوثائقية ليخرج بضع أفلام من بينها «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» سنة 1976 و«العمل في الحقل» سنة 1979 و«عن الناس والأنبياء والفنانين» سنة 1980. وخلافا لباقي مخرجي «الواقعية الجديدة» فقد إكتفى داوود عبد السيد طيلة عقد الثمانينيات بإخراج فيلم واحد هو «الصعاليك» سنة 1985 لينجز بعد ذلك أفلام «البحث عن سيد مرزوق» (1991)، «الكيت كات» في نفس السنة، «أرض الأحلام» (1993)، «سارق الفرح» (1995)، «أرض الخوف» (1999)، «مواطن ومخبر وحرامي» (2001)، «رسائل البحر» (2010)، و«قدرات غير عادية» سنة 2016.
إلتقينا داوود عبد السيد بشرم الشيخ أثناء انعقاد الدورة الأولى لمهرجانها للسينما العربية والأوروبية وكان لنا معه هذا الحوار:
– نبدأ الحوار بالحديث عن بداية مشوارك السينمائي، أنجزت العديد من الأفلام الوثائقية قبل أن تمر إلى إخراج فيلمك الروائي الطويل الذي تأخرت كثيرا قبل أن تدخل غماره، هل يمكن أن تحدثني عن تجربتك مع الفيلم الوثائقي وكيف أثرت هذه التجربة فيك بعد أن مررت للفيلم الروائي الطويل؟
– تجربتي قصيرة في الفيلم التسجيلي (الوثائقي)، لكن أهمية الفيلم الوثائقي أنه يمكنك من معرفة مجتمعك أكثر بمعنى أنك إبن مجتمعك، إذ أنك تكون محاصرا داخل طبقتك ومجتمعك ووسطك الثقافي لكن حينما تشتغل في الوثائقي تشاهد بيئات مختلفة، أناس مختلفين، مهن مختلفة…وأظن أن هذه هي الإضافة الأهم في السينما الوثائقية من وجهة نظري، والتي كنت أتمنى أن تكون تجربتي فيها أكبر، وبالمقابل فحين كنت أشتغل في السينما الوثائقية كان هذا هو المتاح لي ساعتها وكان ما يهمني أن أصل لليقين بما أنه كانت تعتريني شكوك في كوني سأكون مخرجا له بصمة متفردة أم لا. بالطبع فقد منحتني هذه التجربة بعضا من الثقة، رغم أن السينما الوثائقية ليست هي الفيلم القصير الروائي أو الوثائقي أو الفيلم الروائي الطويل.
– في نفس تجربتك في السينما الوثائقية، هنالك أفلام أخرجتها بطلب من جهات ما.. هل هذا لم يمنعك من أن تنجز هذه الأفلام من وجهة نظرك الخاصة ومَرَّرتَ فيها ما أردت أن تمرره من الناحيتين الفكرية والفنية؟
– حدث ذلك حسب كل فيلم..كنا نشتغل في المركز القومي للسينما التسجيلية الذي كان تابعا لوزارة الثقافة وكان هو الذي ينتج الأفلام التسجيلية، هنالك مواضيع تقترحها وتكون قادرا على إنجازها وأخرى مغلقة على نفسها ولا تستطيع التحرك فيها كثيرا، عموما فقد كان العمل في السينما الوثائقية خلال هذه الفترة صعبا، إذ كنا نشتغل بمبدء واحد لاثنين يعني أنك في كل دقيقة مصورة يجب أن تكتفي فقط بنصف دقيقة وهذا إذا كان مقبولا في الفيلم الروائي فإنه يعيق العمل في الفيلم الوثائقي، خصوصا أنه لم يكن لدينا إمكانية تسجيل متزامن للصورة والصوت معا، إذ كنا نسجل بشكل بدائي ثم نعيد تعديل الأمر في المونطاج بحيث يتزامن الصوت مع الصورة. أظن أنه إنجاز جيل بأكمله وليس أنا فقط، كان إنجازنا في السينما الوثائقية هو أنه استطاعنا أن نعطي الكلمة للناس العاديين، كون هذه المرحلة كانت تتميز بكون السينما الوثائقية سينما دعائية لسياسة الدولة…
– هذا ما أردتُ قوله، إذن كيف تحايلتَ في هذا السياق لتمرر أفكارك ووجهة نظرك؟
– أنا فعلت ماهو أسوأ إذ اعتبرت التعليق المصاحب في فيلم «وصية رجل حكيم» والمعبر عن النظام السياسي وكأنه صوت الله الذي لايأتيه الباطل لامن أمامه ولا من خلفه، وهكذا جاء التعليق عكسيا تماما ومعبرا عن وجهة النظر التي أرفضها، وتعمّدت أن يحدث هنالك جدل بين مانشاهده في الصورة وبين التعليق. وكانت دوافعنا آنذاك بعد هزيمة 67 دوافع وطنية سلمية رافضة للنظام السياسي بالشكل الذي كان عليه مع أننا كنا نحب مصر ولكن كنا رافضين لكبت الحريات الذي كان سائدا.
– مع بداية عقد الثمانينات ظهر جيل من المخرجين انتميت إليه، سمي بجيل «الواقعية الجديدة في السينما المصرية»، من بين زملائك فيه محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة ورأفت الميهي وآخرون، وكلهم سبقوك في إخراج أفلامهم فيما تأخرت أنت حتى منتصف الثمانينات لتنجز فيلمك الروائي الطويل الأول «الصعاليك»، كيف تُقيِّم هذه التجربة الأولى لك مع الفيلم الروائي في إطار هذه الموجة المختلفة التي عرفتها السينما المصرية؟
– حينما تُقَرِّر أن تصنع فيلما وتبدأ في كتابته لاتفكر أنك ضمن جيل، خصوصا أن هؤلاء الذين ذكرتَهم كانوا كلهم في بداياتهم آنذاك بل تفكر فقط فيما تريد أن تنجزه وتقوله أنت، كنتُ أفكر بما أحسه وأريده فقط، عموما «الصعاليك» كان عبارة عن رحلة صعود صديقين من القاع للقمة، من الفقر المذقع حتى يصبحا مليونيرين، وطبعا عالجت الواقع الاقتصادي والسياسي للفترة التي يدور فيها الفيلم، وكان مبنيا على قصة واقعية لشخص أصبح من بين أكبر تجار الخشب في الإسكندرية، وكان السادات معجبا به، وكان قد بدأ حياته كحمال في الميناء، كنت أصور رحلة صعود طبقي بارتباطها بالظرف السياسي في فترة محددة، كيف بدؤوا رحلتهم في الستينيات ليصلوا في السبعينيات لمرحلة الانفتاح، وهذا ما أردت أن أفعله وكان نوعا من التحليل للوضع السياسي بمصر في هذه المرحلة.
– الفيلم التالي سيأتي بعد مدة، سنة 1991، وهكذا حافظت منذ البداية على إيقاعك بحيث تأخذ مسافة بين فيلم وآخر وتأخذ وقتك في صناعة وإخراج أفلامك، هذا الفيلم هو «البحث عن سيد مرزوق»، والذي هو فيلم نخبوي شيئا ما وذو سرد غير خطي وصعب على جمهور عادي وهو فيلم مختلف في كل فيلموغرافيتك لأن كل أفلامك الأخرى متاحة للجمهور كيف ماكان نوعه بخلاف فيلمك هذا، هل يمكن أن تحدثني عن هذه التجربة ولماذا لم تكررها بعد ذلك؟
– لا أعتبر هذه التجربة نخبوية كثيرا، طبعا في بعض الأحيان تُفاجِئ الجمهور بأشياء لم يكن متعودا عليها، وفي هذه الفترة كانت أغلب الأفلام المصرية تجارية صرفة وفي رأيي أن أفلام التسبعينيات كانت أفلاما سخيفة وهي ليست نهائيا كأفلام الستينيات والخمسينيات والأربعينيات، ولا أريد أن أعمم لأنه إن كنت أريد أن أكون دقيقا جدا يجب أن أعود لكل أفلام السبعينيات وأشاهدها حتى لا أطلق الأحكام جزافا، لكن على العموم كانت هنالك ظواهر جعلتني لا أحب الأفلام التي صُنعت خلال هذه الفترة..الجمهور يتعود على أشياء وحينما تُفاجئه بشيء مختلف لا يستطيع استيعابه بسرعة، هذا من جهة ومن جهة أخرى ربما أكون على خطإ، فهل كان ممكنا تقديم الفيلم بشكل مختلف عما جاء عليه وبطريقة لا توحي للمتفرج بأمور خفية أو صعب عليه فهمها واستيعابها؟ ..ربما كنت قادرا على إنجازه بشكل مغاير ولم أفعل وربما لم يكن الجمهور ليتواصل معه. طلب مني المنتجون أن أصنع فيلما في مدة أربعة أسابيع، الأمر الذي لم يكن بالنسبة لي كافيا، ولما أعطيتهم السيناريو لا أظن أنهم قرؤوه من الأصل نظرا لأن نور الشريف الذي كان نجما كبيرا كان قد وافق عليه وكان هو ضمانتهم ودخلوا الفيلم من دون أي تخوفات، وهكذا قررت أن أخرجه في أربع أسابيع كنوع من التحدي وكان هذا تنازلا مني حتى أستطيع إنجاز مثل هذا السيناريو، وأتذكر أننا كنا نشتغل ثمانية عشر ساعة في اليوم، وكان التصوير مرهقا، لكن حينما تشاهد الفيلم لايصلك الإحساس أنه صنع في مدة وجيزة كهذه، وهكذا كسبت فيلما أعتبره مهما بالنسبة لي وليس للتاريخ السينمائي أو للآخرين، وكنت قد أمضيت سنة في كتابته وكانت لدي مشاريع أخرى كنت قد بدأتها ولم أكن قادرا على إنهائها آنذاك وما أن انتهيت من كتابة «البحث عن سيد مرزوق» حتى أصبحت قادرا على إنهاء المشاريع الأخرى كتابة.
– سيأتي بعد هذا فيلم يعتبر تجربة جد مهمة في مسارك السينمائي وفي السينما المصرية والعربية على العموم هو فيلم «الكيت كات»، وهو من تلك الأفلام التي قليلا ما نجدها في مسار مخرج بحيث يلتقي الإقبال الجماهيري الواسع مع رضى النقاد والمهتمين، لو أمكن أن تحدثني عن هذا الفيلم وكيفية اشتغالك عليه وعن تلقي الجمهور له وعن كل مايحيط به؟
– قرأت رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان وما كدت أنتهي منها وأقرأ آخر صفحة منها حتى أعدت قراءتها من جديد ولما انتهيت من القراءة الثانية وجدت أن لدي معالجة للرواية فكتبتها ثم كتبت السيناريو بعد ذلك، وكنت معجبا جدا بالرواية وبالشخصيات، فعرضت السيناريو على محمود عبد العزيز ووافق عليه وكنت قد تعرفت عليه في فيلم «الصعاليك»، ومرَّت علي خمس سنوات وأنا أبحث عن منتج للفيلم ولم أجد منتجا يقبل بإنتاجه بحجج مختلفة من بينها أنه فيلم كئيب أو حزين أو أي كلام بدون معنى أو أن المطلوب ديكور كبير لبناء الحارة …وذهبتُ لكل المنتجين الكبار المعروفين، وحتى المنتج حسين القلا الذي سينتجه آخر الأمر عرضت عليه السيناريو ولم ينتج الفيلم بادئ الأمر ثم في مرحلة ثانية هو الذي قرر أن ينتجه لكن بعد مرور فترة أطول، وكان ينتج فيلمين مع بعض، فيلمي وفيلم لنادية الجندي وكان مهتما جدا بفيلم نادية الجندي أكثر من اهتمامه بـ«الكيت كات»، باعتبار أن فيلمها هو الذي سيحقق إيرادات أكبر، وأنا لم أكن مهتما سوى بأن أخرج الفيلم الذي صورته أيضا في خمسة أسابيع فقط، وبعد أن نجح الفيلم أصبح المنتجون هم من يسعون للاشتغال معي، وكل التفاصيل الأخرى التي من الممكن أن أتذكرها بخصوص هذه التجربة توضح كم هم أهل السينما في بعض الأحيان عُمي وكأنه لا يمكن لهم أن يبصروا ويدركوا قيمة العمل الجيد الذي أمامهم، سواء كمنتجين أو كفنانين، لكن هو هذا وضع السينما ومع الوقت نتعود عليه ونصبح عبيدا له.
– كان اقتباسك لرواية «مالك الحزين» اقتباسا حرا ولم تلتزم حرفيا بأحداث وشخوص الرواية، إذ أن شخصيات رئيسية أصبحت ثانوية كإبن الشيخ حسني على سبيل المثال فيما أصبح الشيخ حسني هو الشخصية الرئيسية في الفيلم، هل يمكن لك أن تحدثني من خلال تجربتك هاته عن رؤيتك لمفهوم الاقتباس وعن الخيانة أو عدم الوفاء للعمل الأدبي المقتبس؟
– وجهة نظري بسيطة جدا وهي أن تحويل عمل أدبي إلى عمل سينمائي هو خيانة للنص الأصلي، إذ ما تكاد تقرر أن تقتبس العمل حتى تكون في طريقك لخيانته، ولهذا لايجب محاسبة النفس على هذه الخيانة ولكن يجب أن ندخلها بشجاعة ونتلقى نتائجها سواء كانت إيجابية أو سلبية، ورواية مثل «مالك الحزين» لم يكن ممكنا نقلها للسينما من دون خيانتها، إذ أن هنالك روايات ممكن أن ننقلها كما هي فيما أن أخرى لا يمكن التعامل معها كذلك على الإطلاق، ورواية «مالك الحزين» من بينها لأن بها شخصيات كثيرة وتدور أحداثها في فترة زمنية درامية قصيرة وتنتهي بانتفاضة شعبية حدثت في الواقع، وبها نظرة بانورامية للمجتمع وتنتهي بذروة هي الانتفاضة، وحينما اشتغلت عليها اخترت عناصر داخلها وأنا أعتبر عملي هذا وكأنني أقوم بنوع من الافتراس للرواية، بحيث أن الأسد حينما يفترس الفريسة فهو لا يأخذ رجلها ويدعها لنفسه بل يفترس ويأكل ويهضم ويتحول ما أكله لمواد أخرى يستخدمها جسمه من أجل طاقته وكبروتينات إلخ… وبعد ما انتهيت من السيناريو أعطيته لابراهيم أصلان رحمه الله وكان متفهما. «الكيت كات» فيلم استثنائي لأنه توفرت له عوامل نجاح مختلفة، مابين ممثلين ورواية بها معاني مختلفة وفيها شخصية شديدة الطرافة وفيها عمق وهكذا أعجب المثقف والمهتم والمتفرج العادي والذي لديه ذائقة فنية…
– وهذا صعب ولا يحدث كل يوم
– نعم، إذ هنالك أفلام تجارية تحقق نجاحا كبيرا، لكنها لاتلقى إعجاب النقاد والنخبة.
– بعد «الكيت كات» أخرجت فيلم «أرض الأحلام»، وكان تجربة مختلفة مع نجمة ظلت لحدود وفاتها نجمة الشباك في السينما المصرية والعربية هي فاتن حمامة أيقونة السينما المصرية، والأفلام التي قامت ببطولتها نجد فيها بصمتها، إذ أنها لايمكن أن تتعامل مع مخرج إلا بشروطها هي، وكان آخر فيلم سينمائي قامت ببطولته فيلمك هذا، انطلاقا من هذا هل كانت لك تنازلات وأنت تشتغل معها في «أرض الأحلام»؟
– لم تكن تنازلات بالمعنى الحرفي للكلمة لكن كان نوع من التلاؤم معها، إذ أنني كنت حينما أقرر أن أصنع فيلما أفعل ذلك بحرية، أختار موضوعا بحرية، طبعا الحرية نسبية، لكن مع فاتن حمامة تنازلت عن جزء من حريتي في اختيار الموضوع، لأنه كان لزاما أن تُوافق هي عليه، في أفلام أخرى أكتب السيناريو ثم أبحث عمن سيقوم ببطولة الفيلم، هنا منذ البداية كنت أكتب لفاتن حمامة، كان هنالك حل وسط بين سينما مخرج وسينما نجمة كبيرة، لكني كنت أرى أن هذا مهم لأني كنت أرغب في إنجاز فيلم مع فاتن حمامة، وحسب علمي فإن الفيلم لم يعجبها لكني لست أدري أسباب ذلك.
– في نظرك لماذا لم ينل الفيلم النجاح الجماهيري رغم أن فاتن حمامة هي من قامت ببطولته؟
– لأن جمهور فاتن حمامة كان قد توقف عن الذهاب للسينما، ولأن يحيى الفخراني ليس نجم شباك، وفاتن حمامة هي التي اختارته ليشاركها في بطولة الفيلم وليس أنا، وكنت قد اقترحت شخصا آخر لكنها أصرت عليه، ولم يكن لدي مشكل لأنه ممثل جيد.
– الفيلم التالي في فيلموغرافيتك هو فيلم «سارق الفرح»، وهو الفيلم الوحيد الذي تناولت فيه ظاهرة المهمشين، إذ أن كل شخصياته هي شخصيات مهمشة وتدور أحداثه بمنطقة مهمشة خارج سياج مدينة كبيرة كالقاهرة، كيف كانت هذه التجربة خصوصا أن تجربتك عموما كانت عن الطبقة المتوسطة التي تنتمي إليها وتعرفها جيدا؟
– قرأت قصة قصيرة وفَتَحَت لي عالما كما لو أنني أمام حائط ثم فتحت فيه نافذة ثم شاهدت عالما، وكان بإمكاني أن أطور عناصر القصة وأدخل عليها عناصر جديدة، وهذا الفيلم مختلف عن نوعية الأفلام العشوائيات أو المناطق المهمشة، إذ ستلاحظ أن هذه الأحياء تبدو في هذه الأفلام مكدسة وقبيحة لكنني حاولت أن أظهرها بشكل جميل، إذ أظهرت الحي العشوائي فقيرا لكن ليس قبيحا وبئيسا. وكان الموضوع الذي تناولتُه في هذا الفيلم هو كيف تتحول طاقة الجنس والغريزة الجنسية لطاقة عدوانية، أو كيف يتحول المكبوت جنسيا لشخص عدواني، وهو موضوع بعدما كتبته أحسست أنه ينتمي للمدرسة الطبيعية التي تقول بأن الغرائز هي التي تُسَيِّرُ الإنسان، وأنا لا أحب هذا التفسير إذ أظن أن الإنسان لديه غرائز تُسَيِّره لكنه ليس هذا فقط، إذ أن البشر قادر بالمقابل على التجريد والوصول لحالات روحية واعتناق أديان والإلتزام بأخلاق ما، وهذه كانت مشكلتي في هذا الفيلم، ولهذا أدخلت فيه أغاني بحثا عن الجانب الروحي لهؤلاء البشر الذين أظهرت جانبهم الغرائزي أيضا.
– وستنتظر مرة أخرى لمدة قبل أن تُخرج فيلمك القادم «أرض الخوف» سنة 1999، وهو من بين أهم الأفلام في مسيرتك السينمائية، لأنه يعطي إمكانية لعدة قراءات وحمَّالُ أوجه، فكما يمكن أن نشاهده كقصة لشخص كُلِّف بمهمة وذهب ليُنجزها وتعَّرض لعدة صعوبات من أجل ذلك أو كفيلم عصابات، فيه ربما مرجعيات لأفلام العصابات الأمريكية كما لدى كوبولا وسكورسيزي وحتى الفرنسي جون بيير ميلفيل، لكن بالمقابل فيه عمق آخر روحي وديني وفلسفي، هل ممكن أن تحدثني عن هذه الجوانب في فيلم «أرض الخوف» وكيف استطعت أن تصنع فيلما بهذا التعدد؟
– كان الهاجس الذي يؤرقني دائما هو كيف تصنع فيلما فنيا ويكون جماهيريا في نفس الآن، هذا الفيلم وكما قُلتَ كان ممكنا أن يكون فقط فيلما للعصابات والمخدرات… وما نجده في الأفلام التجارية، لكنك إن استطعت من خلال هذا أن تضيف مستوى ثانيا أو ثالثا يُمَكِّنُ من قراءات مختلفة سَيُصبِحُ جماهيريا وفنيا في نفس الوقت، لكن لكي أُوَضِّح أكثر فأنا لا آتي وأقرِّرُ منذ البدء بأنني سأصنع فيلما به مستويات للقراءة لكن هنالك شيء بداخلك يدفعك وأنت تريد أن تصنع عملا جماهيريا لكي تذهب نحو هذا الاتجاه حتى يأتي فيلمك بهذا الشكل، طبعا يجب أن يكون الموضوع الذي اخترته يتيح لك هذا. هنالك تيمة متكررة عندي ستجدها في «البحث عن سيد مرزوق» وهي موجودة أيضا في «أرض الخوف» وهي أن تأخذ بطلك وتلقيه في عالم ما غريب عنه، أي مثلا آخذه وأرميه في بحر فإما أن يعوم أو يغرق أو يأكله السمك أو يجد اللؤلؤ … وهذا متكرر في أفلامي وتجده أيضا بعد ذلك في «رسائل البحر»، وهنا في «أرض الخوف» ألقيته في صراع الجريمة والعصابات وهي قصة صعود، لكنه في نفس الوقت ليس إنسانا عاديا لكن لديه أهدافا أخرى وهكذا فهذه الأشياء تتولد من الموضوع ذاته ومن الهموم التي تشغلك كمخرج.
– في هذا الفيلم بَدأتَ في الاشتغال على دلالات ورموز وحتى أسماء الشخوص لها دلالات إما دينية أو غيرها، وسنجدها في أفلامك التالية خصوصا «رسائل البحر» و«قدرات غير عادية»، حدثني عن هذا الجانب.
– في «أرض الخوف» البطل إسمه يحيى والعملية إسمها أرض الخوف، وكأننا نُتابع تكرارا لقصة الخلق، فالله خلق الإنسان وأنزله من الجنة، والشخصية الرئيسية باعتباره كان ضابطا للبوليس فقد نزل لأرض الخوف بعد أن أُسندت له مهمة، وأنت إن أخذت هذا المفتاح ستستطيع به أن تدخل الغرفة، لكن هذا الشخص ستنشأ لديه مشكلة وسيشرع في التساؤل هل أنا ضابط شرطة أم تاجر مخدرات، وهنا يمكن للقراءة الوجودية أن تجد لها مكانا، فأنت ما تصنعه وماهو في داخلك، وهوفيلم سياسي أيضا لأني أتحدث فيه عن جيل هو جيلي أنا وذلك في فترة الناصرية بحيث يحضرونك لأن تكون عروبيا ضد الاستعمار ومع الاشتراكية وكل الشعارات التي واكبت المرحلة، ثم فجأة يأتي السادات ويضع حدا لكل هذا، فهو دخل على أنه يشتغل لحساب الشرطة لكن الشرطة نسيته، حَضَّروك وكَوَّنُوك وبَنَوك لهذا ومن أجل هذه المهمة لكنهم نسوك وخلوا بك وهذا ما حصل لجيلنا بشكل ما…
حاوره عبد الكريم واكريم