يعتبر فيلم “البحث عن السلطة الضائعة” للمخرج المغربي محمد عهد بنسودة مغايرا مقارنة مع ما أنجزه من أعمال سابقة، لأنه يتميز بأسلوب فني وجمالي يتأسس على الاقتصاد في الحوار (اللغة المنطوقة)، واختيار موضوع السلطة العسكرية كإشكال يطرح نفسه بإلحاح في واقعنا العربي الذي يعرف مخاضا متواصلا حول علاقة العسكر بالحكم، وإمكانيات التأسيس لديمقراطية تنبعث فعليا من الشعب وتحترم إرادته، ثم البناء الدرامي الذي ينحاز إلى الاستثمار الفلسفي للوحدة غير الطوعية، والعزلة الاضطرارية تحت ضغط الوظيفة، ومن هنا يكون سؤال الحرية ذلك المجاز المحرك للفيلم، والثانوي في جل اللقطات والمشاهد، فالدراما الفيلمية تقوم في الفيلم على الصراع المضمر بين الحرية والأَسْرِ المبرر بالزواج.
يبدأ الحديث عن الفيلم الروائي الطويل للمخرج المغربي محمد عهد بنسودة “البحث عن السلطة الضائعة” انطلاقا من عنوانه كعتبة أولى، وهو العمل الثالث في مساره السينمائي بعد “موسم لمشاوشة” (2009)، و”خلف الأبواب المغلقة” (2013)، والذي يحيل إلى رواية “البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست، إذ يتناول قصة جنرال “عز العرب الكغاط” الذي يعيش آخر أيامه في السلطة رفقة خادمته وحراسه العسكريين داخل “فيلا” كبيرة.
وبما أنه كان يتردد، من حين إلى آخر، على إحدى الحانات الجميلة والحميمة بمنطقة راقية من المدينة، فإن حضوره القليل لمثل هذه الأماكن، بالنظر إلى المهام المنوطة به، وتوجسه من كل ما قد يحدث عَرَضا من مشكلات قد تسيء إلى سمعته، وتؤثر على وظيفته الحساسة، فإنه قد اكتشف مغنية “نفيسة بنشهيدة” مرهفة الإحساس، فسقط صريع غرامها، وتكلل الأمر بالزواج منها، لكن، وبعد مرور بعض الوقت على علاقتهما بدأ الملل يتسلل إلى نفسية المغنية التي ألفت حياة التحرر واللقاءات المفتوحة مع الناس ضدا على جوّ العزلة التي صارت تعيش فيها.
رمزية «الفيلا»
تدور أحداث الفيلم داخل “فيلا” راقية، شبه منعزلة عن الناس، محروسة ليلا ونهارا، لا يقربها أحد مما جعل الزوجة تعيش قلقا فضيعا بسبب وضعيتها الجديدة، وهي التي كانت حرة طليقة تشدو بأجمل الأغاني، وتتبادل أطراف الحديث مع عينات خاصة من البشر.
لم يخفف توفير الجنرال لكل حاجياتها وتنفيذ طلباتها من قلقها، وحتى شؤون البيت الداخلية فكانت تسهر عليها خادمة طيعة، وكان يتكفل بما هو خارجي عسكري لا يتحرك إلا بالأوامر.
ترمز “الفيلا” إلى الجاه والانتماء الطبقي الموسوم بالغنى والتميز، وتعني أيضا السجن والانزواء، وبما أن رمزية الشيء تكتمل بمحتوياته وما يعتمل في دواخله، فهي تعكس التراتبية الاجتماعية من حيث الفوارق البائنة بين الجنرال وحراسه وخادمته، وتحيل إلى وضعه الاعتباري داخل الهرم الوظيفي للمؤسسة التي ينتسب إليها، وكذلك بينه وبين زوجته التي أصبحت مجرّد شيء أو ديكور داخل البيت ما دامت إرادتها قد سلبت منها، وارتباطها برجل مراقب طيلة الوقت.
وإذا كانت “الفيلا” ذات دلالة منغمسة في الحداثة في شقها العمراني والمعيشي، فإنها تظل هنا سجنا كبيرا تلتقي فيه مصائر كائنات مسحوقة بشكل متتابع: الجنرال، الزوجة، الخادمة، الحراس…
ترتبط السلطة باللحظات الأخيرة من عُمْر الجنرال، وهي ضائعة أو آيلة للضياع كما يقترح علينا الفيلم، لأنها تأتي في آخر العمر والمهمة معا، وهنا ترتبط بالزمن الضائع الذي يظل مهدورا بالنسبة إلى الزوجة التي لا ترغب في إضاعته من أجل حلم كالسراب، في حين يقبض عليه الزوج بنوع من الاستماتة اليائسة.
ونشير إلى أن أصل الاستماتة (Apoptosis) في اللغة اليونانية تعني السقوط الذي يفيد عدم قدرة الخلية على عدم الاستمرار بين مثيلاتها الحية، وعليه، فالزوجة كخلية لم تستطع مسايرة إيقاع المنظومة العسكرية التي انتقلت من الثكنة إلى “الفيلا” مما حَوَّلَ أهلها إلى كائنات تسير على إيقاع غير إيقاعها، وتخضع لرغبة غير رغبتها.
«الفيلا» ترمز في الفيلم إلى الجاه والسلطة والانتماء الطبقي الموسوم بالغنى والتميز، وتعني أيضا السجن والانزواء
من المعلوم أن النهج الذي سلكه الجنرال ينبني في جوهره على سلب الإرادات الشخصية الدائرة في فلكه، وتطويعها حسب مزاجه، إلا أن إرادة الفنانة المقموعة داخل مدار مغلق ستنتفض إلى أن تسير نحو حتفها، أليست “الفيلا” بهذا المعنى تلخيصا لمجتمع مصغر تتكاثف من حوله الشروط ليسير نحو انغلاق جبري؟
تميز فني
يقيم المخرج مواجهة فنية بين ممثل وممثلة استطاعا بقوة أدائهما، وانغماسهما حسيا وحركيا وروحيا في الشخصيات المنوطة بهما، أن يقدما فرجة هادئة تنبني على التعمق في الحالات النفسية للشخوص المنعزلين، والتحكم في وضعيات الحيرة التي تنتابهما تجاه بعضهما البعض: مسألة العلاقة بالآخر، المصير المشترك، الخوف والتوجس.
ولتكييف الرؤية الإخراجية مع الموضوع كانت الكاميرا حميمية ولصيقة بالممثلين، وذلك ضمن سياق بصري تطبعه إنارة موحية تبعث في النفس الإحساس بالتشظي الوجودي الذي تعكسه انفعالات داخلية، لأن الزوجة لم تختر العزلة الطوعية، وإنما فرضت عليها قصرا، وبالتالي فهي لم تتحول إلى موقف من الوجود ومن الأغيار. ويطرح الفيلم مسألة العلاقة الزوجية، ويربطها بالسلطة، وهي مقارنة منسجمة لأن المؤسسة الزوجية ما هي إلا نواة مصغرة لكافة المؤسسات الاجتماعية التي تضع اللبنات الأساسية للتنشئة على السلطة وإعادة إنتاجها تربويا وسياسيا وثقافيا، بل والعمل على نشرها بشكل ناعم عن طريق الأم والأب والعلاقات بين الأقارب، وغيرها من أشكال التقارب.
وبما أن تطويق الذات البشرية، وفرض العزلة على الآخر، شكل مضاد للوجود الأصلي، فإن زوجة الجنرال ظلت تقاوم الأمر سواء عبر جلب بعض أفراد أسرتها كالأم والأخت، أو خلق علاقة إنسانية عادية مع من في المنزل، أو الاحتماء بالموسيقى والغناء كملاذ للتعالي والسمو، وهكذا قررت في الأخير أن تركب سيارتها للقيام بجولة غير مخطط لها، تعرضت أثناءها لحادثة سير وضعت حياتها داخل نطاق الأزمة.
يدخل هذا الفيلم ضمن نمط الأفلام التي تدور داخل فضاءات وأمكنة مغلقة، وهو يتميز بوحدة المكان والزمان والحركة بدرجات متفاوتة مما يجعله يتداخل، نوعا ما، مع المسرح الكلاسيكي كما اقتبسته السينما في أكثر من موضع، إلا أن السينما عمقته وأضافت إليه على مستوى الإخراج.
ويكون فيلم “البحث عن السلطة الضائعة” قد ربح الرهان من ناحية الاقتصاد في الأمكنة والشخوص، والاكتفاء بموازنة مالية مقبولة في ظل ترسيخ ركائز إنتاج سينمائي مستقل (خارج أو قبل الحصول على دعم الدولة) ينتصر للعمق والبحث عن ارتياد مسالك فنية وإنتاجية وتسويقية جديدة، ما دام عزوف الجمهور مستمرا حتى إشعار آخر.
تَحَوَّلَ الفضاء إلى وعاء للفيلم برمته، كما أتاح الفرصة للمخرج كي يتحكم في إدارة الممثلين بشكل يعمق حالاتهم النفسية والاجتماعية، خاصة وأن اختيار الفضاء أو المكان المغلق يهدف في جوهره إلى التركيز على عالم مصغر، وتحويله إلى بنية يُرَادُ من خلالها كشفُ ميكانيزماته الداخلية وتعريتها.
وبذلك يراهن فيلم “البحث عن السلطة الضائعة” عبر اختياره لهذا المنحى على الجانب الجمالي من حيث تطويع اللغة السينمائية وتدبير تقنياتها وملاءمتها، والجانب الدرامي، والجانب الإنتاجي، لا سيما وأن كبار المخرجين من أمثال ألفريد هيتشكوك وستانلي كيبريك ورومان بولانسكي وريدلي سكوت قد اختاروا إنجاز أفلام داخل فضاءات وأمكنة مغلقة، وحققوا نجاحا فنيا ونقديا وتجاريا راسخا في تاريخ السينما.
محمد اشويكة