سنبدأ بتحفة التّحف. العمل الأدبي الكامل. الصّرح الجمالي الهائل الذي لطالما اعتقد عديدون أنه غير قابل للاقتباس سينمائيا. ذهنية أسلوب بروست، عدد الشخصيات الكبير نسبيا، شساعة متن الحكي وامتداده على سنوات طويلة وأمكنة متعددة في سبع مجلّدات…كلها عوامل ساهمت في تكوّن هذه القناعة.
لكن في بداية السبعينات، سينبري المخرج الايطالي الكبير لوكّينو فيسكونتي للاعداد لفيلم مقتبس عن «البحث عن الزمن المفقود». بدا فيسكونتي الاختيار الأمثل لهذه المهمّة الجسيمة. أولا بالنظر لتعوّده على الاشتغال على سيناريوهات كتبت اعتمادا على روايات كما كان الحال في «موت في البندقية» عن توماس مان، و«الفهد» عن رائعة لالمبيدوزا و«الغريب» لكامو (رغم اخفاق هذه التجربة البيّن) … وجلّها يجري في نفس فترة أحداث «البحث…» تقريبا أي نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وثانيا بسبب معرفة مخرج Senso العميقة بالبورجوازية وطبائعها ونجاحه الباهر في نقل خيباتها وتفككها واضمحلالها التدريجي كما في «الفهد». أجل، فتفكك الطبقة البورجوازية واحد من اهم ثيمات «البحث…» ولكنه ليس الوحيد. وقد قال فيسكونتي أن ثمة ثلاثة مسارات يمكن سلكها في الاقتباس:
– الحلّ الأسهل بالتركيز على قصة شارل سوان من بداية «البحث..» بحكم أنها تشكل قصة مستقلة نوعا ما عن باقي الأحداث. ولكن فيسكونتي استبعد هذا الاختيار لأنّه الأسهل وأنه يفضّل دائما أن يبحث عن الصّعوبة بدل السّهولة.
– الحلّ الثّاني كان هو البدء من النهاية (حفل الاستقبال الصباحي بقصر غيرمونت) أي من «الزمن المستعاد» ومع الشخصيات وقد فعل فيها الزمن فعلته. لكن بحكم أنه لا يحب أن تتم صباغة شعر الممثلين وحشو وجوههم بالقطن ليبدوا طاعنين في السّن، وأن هذا الاختيار كان سيحتّم عليه اللجوء إلى تقنية الفلاش باك الذي لا تستهويه، فقد أزاح هذا الخيار بدوره.
المثير للاهتمام أن هذين المسارين شكلا اختيار مخرجي أبرز فيلمين حقّقا انطلاقا من «البحث…»: «حبّ سوان» (1984) أخرجه فولكر شلوندورف عن الجزء الثاني من قسم الرواية الأول وقد جاء، كما تنبأ فيسكونتي، غير مقنع وفاتر، ثم «الزمن المستعاد» (1999) لراوول رويز الذي تميز برؤية جمالية جذابة واستطاع النفاذ لروح الجزء الأخير من «البحث…» أي انتفاء قبضة الزمن والتحام الماضي بالحاضر، لكنه افتقر لسمك المتن الروائي الذي يميز أحداث الرواية فبدى أقرب لفسيفساء ذكريات لا رابط بينها.».
– المسار الثالث والأخير الذي عزم على تبنّيه في نهاية المطاف فيسكونتي هو الاعتماد على الأحداث التي تنطلق من «في ظلال ربيع الفتيات» وتنتهي في «السّجينة»، مع التركيز على خطّي قصة الحب بين الراوي وألبرتين من جهة وبين البارون دي شارليس وموريل من جهة ثانية، من دون نسيان خلفية تفكك المجتمع الفرنسي في فترة الحرب العالمية الأولى والختم بأجواء باريس المغرقة في السوداوية ومشاهد انغماس الشّخصيات في ظلمة القصف كناية على أفول عالم بإسره.
واحد من الرهانات الصعبة أثناء الاقتباس يكمن في كيفية التعامل مع دور الراوي. والراوي في «البحث» هو مارسيل بروست نفسه الذي يحكي بصيغة المتكلم. وقد اختار فيسكونتي أن يجسده لسبب بسيط هو أنه لا يحبذ الحكي عن طريق صوت داخلي. كما أن هناك معطيات كثيرة وردت حول شكله وطباعه على لسان شخصيات أخرى ساعدته على صياغة الشخصية، واعتمد في ذلك أيضا موديل «جان سونتوي» في القصة التي كتبها بروست بنفس العنوان وضمّنها كثيرا من مواصفاته الشخصية.
المخرج ذهب بعيدا في اختيار الممثلين أيضا حيث اصطفى آلان دولون من أجل شخصية الرّاوي وكان يريد لورنس اوليفييه أو مارلون بروندو في ثوب البارون دي شارليس وسيلفانا مانغانو في دور أوريان…
كما أحرز فريق الاعداد تقدما في تعيين أماكن التصوير لعل أهمها منطقة كابور حيث كان لا يزال فندق وكازينو مناسبين من أجل تصوير أحداث فندق شاطئ بالبيك، وتم الحسم في بايوه كاختيار اقرب ل «دونسيير» الرواية.
كان فيسكونتي يتمنى أن يحقق فيلما من جزءين، لكن اعتراض المنتجين جعله يقبل بحلّ فيلم واحد تبلغ مدته أكثر من ثلاث ساعات ونصف. وقد بلغ تقدير ميزانيته حوالي عشرين مليون دولار.
لكن، ولغاية الأسف، لم يكتب لهذا الفيلم أن ينجز. البعض يقول أن هذا راجع لارتفاع كلفته والبعض الآخر ينسب السبب للأزمة الصحية التي أردت فيسكونتي شبه مشلول، رغم أنه حقق فيلمين بعدها.
الأكيد أن السينما حرمت من فيلم كانت كل المؤشرات ترشحه لأن يكون تحفة خالدة، لم يبق منه اليوم سوى السيناريو الذي صاغه فيسكونتي نفسه رفقة رفيقة دربه في الكتابة سوزو سيتشي داميكو، كقصيدة رثاء في حلم لم يكتمل.
سعيد المزواري