إلى إبني زرياب ميلود
فيلم “حرب النجوم”، أو ما سأشير إليه في هذه المقاربة بعنوانه المستنسخ صوتيا من لغته الأصلية “ستار وورس”، أصبح في ثقافة العصر هذه اللازمة السينمائية التي تتكررّ سنويا في موسم أعياد نهاية السنة. للمرة الثامنة “حدث منذ زمن طويل، في مجرَّة بعيدة وبعيدة جدا”، ثم المزج الثلاثي بين ثلاث عناصر بصرية تتشكل من العنوان الرئيسي والعنوان الفرعي الخاص بالحلقة، ونص الملخص الإفتتاحي بكلماته الملونة بالأصفر، الذي يزحف ببطء من أسفل الإطار إلى أعلاه، لتبدو وكأنها نجوم مجرة تسبح في الفضاء، إلى أن يصل خط التلاشي في ثلاث نقط دقيقة جدا، كل هذا على إيقاع الوصلة الإفتتاحية من تأليف جون ويليامس John Williams وأداء الأوركيسترا لندن السمفونية.
بهذه العتبة يقحم راين جونسون Rian Johnson، بدوره، الجمهور في عالم تتقاسم أبعاده التوقُّعات والتَّوقيعات، الألفة والغرابة، ستار وورس جديد بعنوان فرعي هو: آخر محارب جداي Star Wars: The Last Jedi (2017).
وتستمر حرب النظام البيئي المتباينة الأطراف في تقسيم مانوي بين الأخيار والأشرار. في جبهة الشر هناك قوى “النظام الأول” (The First Order) الصاعدة والمصعِّدة لوتيرتها الهجومية بشكل تجاوزت به حد التفوق، إلى حد الإقناع بموت مرتقب ومحقَّق. ومن الجهة المقابلة هناك هذه المجموعة الخيِّرة التي تتكوّن من جنسيات متعدِّدة تضم الآدمي وغير الآدمي، الطبيعي والآلي، وتنعت نفسها بقوى “المقاومة” (The Resistance)، وتبدي كما السنة الماضية والسنة التي قبلها، استماتة في الدفاع تحت القيادة الملهمة للأميرة “ليا أورغانا” التي خبرت الحرب بفنونها وويلاتها منذ أربعين سنة.الأميرة كاري فيشر Carrie Fisher، والتي كان لها السبق في إيقاظ أميرات ديزني من فتورهن وانتظارهن لبطل خارق ووسيم ليأتي لإنقاذهن، تحضر في لقاء آخر وأخير مع جهمورها الكوني في ظهور مابعدي posthumous، ، أي في الدور الذي صورته قبل رحيلها منذ سنة (2016) وفي نفس شهر خروج الفيلم (دجنبر). وكعادتها منذ 1977، تمسك هذه الأميرة بزمام الأمور، وتأمر وتنهي في أبطالها الرجوليين، مرشدة إياهم إلى كيفية إنقاذ المجرة من الجانب المظلم “الدارث فيدر” الذي صار الوريث للإمبراطورية الإمبريالية.
أي فصل إضافي في ملحمة حرب النجوم Star Wars، والتي تضم ثلاثيتين مترابطتين بوحدة موضوعية وفاعلين دراميين،إضافة إلى فصول قائمة بذاتها، وبظهور سنوي منتظم، تشِّكل ليس فقط تحديا سينمائيا بل ثقافيا من نوع خاص. فبالنسبة لأي مخرج من ما يزيد عن عشرات المخرجين الذين اقترنت أسماؤهم بالعنوان سينمائيا أوتلفزيا أو في وسائط أخرى، وعبر كل الأجناس وبمختلف الصياغات، تعتبر معالجة حبكة أخرى تدور في نفس “الفلك” الملحمي، مجازا وتقريرا، مجازفة بالموهبة والسمعة الإبداعية على حساب البوكس أوفيس الذي يعد به ويضمنه هولدينغ جورج لوكاس التجاري والمخيالي. أما السينفيلي المسلح، بنظرة ومفهوم للسينما والذي أصبحت ملحمة حرب النجوم تقترن في ذاكرته بالحكم النقدي “فيلم رديء بصور جميلة” ،فإقناعه “بسينمائية” وجمالية فصل جديد من الملحمة إنجاز يتطلب أكثر من تنميق الجديد في حبكة استبطن الجمهور المتشبع بالمعارك النجومية، منذ أربعين سنة، مضمونها وهيكلها المستقطب الأطراف. في الوقت الذي ينتظر فيه عامة الجمهور المزيد من الرشاقات البصرية التي أدمن عليها منذ 1977، وزادت الثورة التكنولوجية ومولِّدات الصورة الرقمية التي تملكها مصانع جورج لوكس، في درجة الجرعة المطلوبة منها مع كل ظهور سنوي، ينتظر السينفيلي من المخرج أن يكون فنانا يشتغل بالأشياء الموجودة ArtistObjet trouvé.
أمام هذا التحدي ينزل راين جونسون،بكل ثقله الاحترافي، بالرصيد المتواضع لخمسة أفلام سينمائية وتجربة إخراجية في التلفزة وينخرط في هذا المشروع الصعب الذي يقتضي تحميل ما هو مترسّب ومتكلّس، في قصة نابعة عن خلفية إنتلجينسية متماسكة وصلدة، وفي نفس الوقت وضع البصمات الخاصة على عمل لا ينصاع بسهولة لفردانية المؤلف. فإحدى البديهيات اللصيقة بالعمل في سلسلة ستار وورس هي كون المعارك الدائرة بين الخير والشر على الشاشة تنعكس بشكل ما سينمائيا في المعركة بين الإخراج الجيد والإخراج الضعيف، وبين مخرج مقنع وجمهور لا يتنازل عن حقه في صورة مختلفة ومستأنسة في نفس الآن. لكن راين جونسون، وبشكل شبيه بما فعل ج ج أبرامس J. J. Abrams ، إحدى التوقيعات الإخراجية المرتبطة بملحمة حرب النجوم، حل هو الآخر مشكل الأبيسية السينمائية مع جورج لوكاس بنوع من الأريحية وبدون أي إلزام من مقاولة هذا الأخير، لدرجة جعل المشاهد لا يحسُّ ثقل الصور الموروثة من حلقات السلسة السابقة، ولا يضطرُّ لممارسة التمرين الذهني في ربط ما لحق مع ما سبق كما تتطلَّب بعض السلسلات السينمائية التي تبغي تقليد حرب النجوم وترمي لتحقيق أرباحه.
أجمعت جل الآراء النقدية والتعليقية على أن فيلم راين جونسون كما قدَّم شخصيات جديدة وجدّ مقنعة، أعطى بعدا جديدا أكثر عمقاللشخصيات القديمة. ليك سكايوالكير (مارك هاميل) يبدو في هذه الحلقة هذا الزاهد الذي فضل الإعتزال في جزيرة،والذي يراهن على الحب أمام الحرب في صراع يدور على أرضية رمادية يصعب فيها التمييز بين الخير والشر، هذا الحيز الذي يختلف عن الجبهة التي تحرك فيه سابقا أبطال وخصوم الملحمة حيث كانت تبدو الحدود واضحة وفاصلة بين الخير والشر،وبينة الملامح والأبعاد. في هذا الإختيار يقترحالمخرج على جمهور تغزوه صور التطرف والعصبية كل يوم مع تبعاتها السلبية ماديا ونفسانيا،فكرة مفادها أن الشّر ليس مسألة وراثة مرتبطة بحيز جغرافي معين، ولا سلوكا يعتريه الغموض في أسبابه ومسبّباته، وإنما فعل ناتج عن إرادة ذاتية مجنّدةفي خدمة الدمار وإبادة الإنسانية والحياة.
الحلقة الثامنة من ستار وورس تستنبت مادتها المضامينية من واقع الظرفية التاريخية الذي نعيشه، حين أصبحت آلية الإمبراطورية، هذه الألغورية المظلة للمؤسسة بآليتها الحربية القيامية ومعادلها الإقتصادي في النيولبرالية الشرهة والشرسة التي تدوس الإنسان وتسحقه بدون أدنى اعتبار، تلاحق المقاومة بهدف إبادتها كليا. في الحلقة الثامنة عبَّر الشر عن نفسه. ولم يعد في حاجة لإخفاء وجهه تحت القناع الذي صار جزأ من شخصية الدارث فيدر، القناع الذي تحول فجأة إلى مجرد لعبة خاصة بالأطفال “…this kids mask” يزيحه فجأة “توم هاردي” عن وجهه ليقنعنا مرة أخرى،ومنذ فيلم “العائد” أنه سيد أدوار الخصم antagonist بدون منازع.
يعبر الشر عن نفسه بالأليغورية الأكثر فصاحة حين يرتدي مجندي الإمبراطورية زيا عسكريا يحيل على الجيش النازي، ليفضح النية الأولى والأخيرة للحرب: الإبادة باسم العرقية. راين جونسون كان صريحا أكثر من اللازم بخصوص موقفه من صعود اليمين الأمريكي المتطرف بخطابه الفاشي العنصري. في واقع هذا الصعود والموازي لواقع التطاحنات العرقية والطائفية يقترح ستار وورس خيارا جديدا لقوى المقاومة والتي لم يصبح أمامها إلا الإستسلام للموت عبر الإنتظار أو الإنتحار. إنه خيار “إنقاذ من نحب” كما عبرت شخصية روز تيكو، من أداء “كيلي ماري تران”،التي يتداخل فيها الواقع مع المتخيل بكونها فعليا تنحدر من أسرة لاجئيين،ليأخذ اقتراحها صدى في آنية الواقع بعيدا كل البعد عن احتمالية الخيال العلميوالعوالم الغرائبية.
في الحلقة الثامنة لستار وورس أعادراين جونسون التذكير بالشروط الإبداعية التي تلزم بها مؤسسة جورج لوكاس حاملي أسهمها. وهي أن كل عمل جديد في إطار الملحمة هو أولا وأخيرا رؤية إخراجية جديدة، تتشكَّل من اقتراحات جديدة، بداية من الفكرة مرورا بالمعالجة السينماتوغرافية، ونهاية بطاقم من الممثلين الجدد وأساليب جديدة في الأداء التمثيلي.
راين جونسون مخرج يرتبط بستار وورس عبر حضوره كممثل أدى دور مهندس تقني داخل الإمبراطورية في حلقة الموسم السابق “المارق: قصة من ستار وورس”Rogue One: A Star Wars Story (2016)، من إخراج غاريث إدواردس Gareth Edwards. وكونه من مواليد 1973، فهو ينتمي للجيل الذي تتشكل منه قبيلة أو طائفة ستار وورس، والتي خاطب الفيلم ولايزال يخاطب في أفرادها “الطفل الذي بداخلها” على حد تعبير جورج لوكاس. بالتالي فهو مخرج لا يتعامل مع حبكة موروثة فقط، أو يستثمر في سهم مضمون الحركية في صعوده سلم الأرباح، بل يعالج مادة أيقونولوجية رافقته في تطوّره كشخص وكمخرج، وتدخل في تكوين عقله اليومي وأصبحت تشكِّل ركيزة أساسية من ركائز ثقافته المحلية والكونية.
في هذا الإرتباط العاشق والإحترافي بالملحمة قد نجد خلفية هذه الجدلية التي تميز كتابته الفيلمية في الحلقة الثامنة من الملحمة، حيث استعمل ما هو مستأنس به وفي حوزة الذاكرة السينمائية كالأداة نفسها التي تهدم انتظارات المشاهد. وبالتالي قدّم له ما ينتظر من الفيلم دون أن يسقط في ابتذال تغذية حنينه لما هو قديم. بهذه المعادلة تميَّز راين جونسون كمخرج نجومي خلخل كل القواعد “التجارية” الملزمة في هولدينغ جوج لوكاس دون الخروج عن شروطها الإلزامية التي تقضي بالإضافة وضخ دم جديد يزيد في عمر المؤسسة.
حين انخرط جورج لوكاس في أوائل السبعينات في تدبيج حلقات من ملحمته الحربية داخل النوع الإبداعي لما يصطلح عليه بالخيال العلمي، على منوال القلعة المخفية The Hidden Fortressلأكيرا كروزوا، كان منهمكا في إيجاد وسيلة لإقناع دور الإنتاج الهوليودية بمشروعه الفيلمي، ولم يكن في حسبانه أنه بصدد إنتاج علامة تميز ثقافة العصر. فهذا الفيلم لم ينتصر لسينما الساحل الغربي في الولايات المتحدة الأمريكية، لتصبح هي السينما الأمريكية على حساب المقاربة التأليفيةلمخرجي الساحل الشرقي ممن كان يدور في فلك جون كاسافيتس، بل سيشكل في تاريخ السينما أول مقاولة فيلمية بالمفهوم الإقتصادي للكلمة، بكونه “حبكة” خاضعة للغة تبادل الأسهم والبيع والشراء، ومرتبطة بقوانين إنتاجية صارمة لا تزيح عن شروط الجودة التي وضعها صاحب حق الملكية الأول، تماما مثل أي فرع فرنشايز لمطاعم ماكدونالد أو مقاهي سطارباكس. وكونه مؤسسة رأسمالية أمريكية، فمنتوجها سيتجاوز حتما البضاعة والسوق إلى الثقافة وأسلوب عيش يتطبَّع في السلوك إلى حد اعتباره أمرا من قبيل العادي والمعتاد.
هذا التطبيع السويوثقافي هو الذي جعل من الفيلم عيدا سنويا. ولعيد ستار وورس طقسه القدسي الخاص. وهذه حقيقة طالما تنكرت لها بدافع سنفيليتي الإنتقائية إلى أن ذكّرني بها إبني حين كنا على وشك الخروج للذهاب لمشاهدة العرض الأول ليلة الرابع عشر من شهر الأعياد، واستوقفني طالبا مني أن أرتدي قميصا أهداني إياه يحمل أيقونات من عرض ستار وورس الجديد. نزلت عند رغبته طالما هو كذلك قبل شرطي للذهاب معا للعرض الأول، حين امتثل لدكتاتوريتي السينفيلية وشاهدنا معا فيلم “القلعة المخفية” لكروزوا بغرض استفزاز مشاهدته بنوع ما من حسِّ المقارنة الواعية. كنت سأبدو بالفعل غريبا وسط جمهور مكثف من كل الفئات العمرية يضع لباسا خاصا بالفيلم أو يحمل معه سيفا ضوئيا، ويصفق أثناء العرض لكل شخصية تظهر في الشاشة، ولا يتردّد في التعبير عن انطباعاته وتخميناته وتكهناته لما هو قادم مباشرة بعد مشاهدة العرض عبر السنابشات وتويتر.
بهذا الطقس أدخل فيلم ستار وورس كلمة جديدة لقاموس اللغة الإنجليزية وهي cosplay، والتي تتركب من costume الزي و play اللعب، لتعبِّر عن هذه الظاهرة الجديدة التي برزت في السنوات الأخيرة والمتمثلة في الملتقيات السنوية التي تجلب الآلاف من محبّي الفيلم مرتدين أزياء شخصياتهم المفضّلة. وهو ما تطوَّر إلى منتديات تجاوز بعضها عشرة آلاف عضو موزعين عبر ستين دولة كمنتدى “الفيلق 501” Legion 501st. بناء على هذه الطائفية الغير مسبوقة اقترح المخرج فرنسيس فورد كوبولا على صديقه جورج لوكاس أن يأسس ديانة جديدة من اختراعه الخاص. وسرعان ما تحولّتالنكتة لواقع حين أقرت إحصائيات 2001 في بريطانيا بأن أكثر من أربعة مائة ألف مواطن يمارسون ما يسمى بالجديائية Jediism، الديانة الممارسة من طرف “الجداي”، لتأتي في نتائج الإستفتاء محتلة الدرجة الرابعة بعد المسيحية والإسلام والهندوسية.
لكن بقدر ما تساهم هذه الملحمة في اختيار مزيد من الأطفال تصديق وهم السينما على حساب تكذيب حقيقة المعلومة الملقّنة في الفصل المدرسي، بقدر ما تقرب الخيال أكثر من العلم وبطريقة أكثر مما كان يطمح لها غاستون باشلار في كتاباته عن المخيال والعقلانية.
خطاب الحلقة الثامنة من حرب النجوم يتشرعن مضمونه في واقع المشاهد الذي لم تعد عملية التقاط إشارات الفيلم بالصعبة عليه. فنحن أمام مشاهد من نوع خاص، ثقافته الأيقونولوجية تحكمها قواعد مغايرة تماما للتي كانت عليها في الألفية الماضية. لم يعد فيلم ستار وورس ينتمي لنوعية الخيال العلمي لأن تنميطا كهذا لم يعد له أي تبرير في سياق أصبح فيه العلم ترجمة للخيال والخيال محفِّزا مضمون النتائج للبحوث العلمية. وأربعين سنة من عمر ملحمة حرب النجوم هي كذلك زمنية التحول داخل التوصيف النوعي المعروف باصطلاح “الخيال العلمي”، وهذا التدرج من الخيال إلى العلم، ومنه إلى “الواقعية المستقبلية”.
تمثل الخيال العلمي في الفن مرتبط بشكل وثيق بدرجة التقدم العلمي في البيئة السوسيوثقافية التي يوظف فيها كتوصيف اصطلاحي على عينة إبداعية في الكتابة والسينما. ما يدخل في خانة الخيال العلمي في وسط ثقافي ما قد ينسحب عليه وصف الواقعية في وسط آخر. حتى إجماع النقاد على اعتبار الخيال العلمي في السينما فرعا من الفانطاستيك صار هو الآخر محط نسبية إذا أخذنا بعين الإعتبار التقدم التكنولوجي وغزو التفكير العلمي لتخوم جديدة كانت لحدود الأمس القريب مستعصية على العقل وخارج مداركه.
معاينة فيلم ستار وورس انطلاقا من الظرفية التاريخية الآنية، قد يجعلنا نراهن على تعريف للخيال العلميكالذي وُضِع في أواسط القرن التاسع عشر لوصف الطموح الأدبي لكتاب كجيل فورن و ه. ج. ويلز كنوع من الكتابة التي تستجيب لمحفِّزات للتطور العلمي والتكنولوجي. كلا الكاتبين كانا متفقين في وصف للعلوم كأداة قادرة على تحقيق ما كان لحد بداية القرن يدخل في درب المستحيل، مثل الغواصات والمركبات الفضائية. كتابة جيل فورن كما ويلز كانت اشترافات لاختراعات علمية، مثلما هي سينما الخيال العلمي، من شاكلة فيلم ستار وورس وأفلام غزو الفضاء التي أنتجت خصيصا في الألفية الثانية، والتي لم تعد تقتصر على عرض ما لا يمكن أن يُشاهد، بقدر ما تعرض ما سَيُشاهد. سينما الفرضية أكثر من سينما الفانطاستيك.
بعد فيلمي سولاريس لأندري تاركوفسكي وفيلم 2001 أوديسية الفضاء قطعت سينما الخيال العلمي مع عوالم الكائنات الغريبة التي تهدّد الإنسان على الأرض أو في الفضاء، ومع تيمة القيامة المستقبلية التي تثور فيها الآلة على مخترعها، وكذلك مع بارانويا العلوم التي تقود الإنسان إلى حتف محقّق. بفضل كوبريك وتاركوفسكي خرجت أفلام الخيال العلمي من فئة باء إلى فئة ألف. في نفس الآن تحول إتجاه المعالجة الفيلمية من الإستثمار في مخاوف الحاضر تحت قناع المخيال المستقبلي لعالم ما أو لزمن ما، بتدميره ندمّر كذلك هذه المخاوف، إلى المعالجة التحليلية التي تجد سندها في التفكير العقلاني النقدي والإبداعي وتعتمد معطيات تخضع لشروط العلمية في النظرية والتَّجريب. بذلك تطوَّرت الأنماط الثلاث لسينما الخيال العلمي من نمط غزو الفضاء إلى نمط الرحلة الفضائية التي تقف في محطات جاهزة لها أسامي وتعج بالحياة. تحوَّل غرباء Aliens وغزات عيد الإستقلال Independence Dayإلى مجرّد قادمين (2016) The Arrivals . وتعوّضت المجتمعات المستقبلية التي تنبّه إنسان الحاضر لخطر انفلات العلم – الشيطان (كما لو كان للإنسان فعليا أي سيطرة على العلم) بتوقُّعات تمتدّ لآ