الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  نقد    
سيرة ألبير كامي السينما توثق الأدب

 قديما، كان الأدب يجمع كل المعارف، فيه حكي وتفلسف. لكن بدء من القرن التاسع عشر صارت تلك المعارف تتفكك وتستقل. حتى الفلسفة فقدت أمومتها لكل العلوم. صار هناك علم اجتماع لدراسة بؤس العمال، ظهر علم النفس لسبر أغوار الشخصيات، والأنتربولوجيا لتفسير العادات والتقاليد... ثم ظهرت السينما في نهاية القرن لتعيد تجميع كل الفنون والمعارف وتضغطها في صور تختزل آلاف الكلمات... فماذا بقي للأدب؟
صار من اللازم أن يكون الأديب استثنائيا، غرائبيا في كتابته ومسار حياته الشخصية، ليثير انتباه الصحافة، لتعترف به البورجوازية التي تقدر العلوم التطبيقية المربحة وتسخر من الأدباء.
من الكتاب الاستثنائيين في القرن العشرين ألبير كامي  (1913-1960). وقد خصصت له السينما فيلما يوثق لشخصه وأدبه. "ألبير كامي: تراجيديا السعادة"(1). من إخراج جون دانييل، المولود في الجزائر مثل كامي.
ينتهي هذا الفيلم الوثائقي بالإشارة لحادثة سير وقعت في طريق مستقيمة وخالية... كانت تلك نهاية مفتوحة أقلقتني، لكن لم أفهم مغزاها... حين مات كامي في تلك الحادثة، كان يعمل على اقتباس رواية فيودور دوستويفسكي "الممسوسون" Les possédés للمسرح.
استرجعت هذه المعلومة حين قرأت خبرا يقول أن المخابرات السوفياتية قتلت كامي.
هل يعقل هذا؟
لقد كان كامي ماركسيا، انخرط في الحزب الشيوعي. قام بدور الكاتب الملتزم والمناضل الذي مهد ماركس طريقه الطويل ليغير العالم بدل تأمله. وقد مثل المثقف العضوي لدى غرامشي النموذج الأوضح للمثقف الذي يرفض أن يقتصر عمله على تأمل وانتقاء وتحليل المشاكل على الورق، بل يريد أن يهدم القديم ليبني الجديد، يبني الأحزاب والنقابات والألوية والدول.
كان هذا نهج كامي أيضا.  لم يعتقل نفسه في برج عاجي...
عرفتُ ألبير كامي في السنة الأولى ثانوي بفضل السيدة كريستين أستاذة اللغة الفرنسية. كانت مثقفة ذات معنويات عالية مُعدية. من ذلك النوع من الأساتذة الذين يلهمون تلاميذهم... كان ذلك يغذي حلمي كمراهق أن أصير كاتبا... أعارتني رواية "الغريب"، قرأتها في أيام قليلة ووجدت فيها الكثير من ماناخوليا المراهقة... ذلك الإحساس الذي يقوي الشعور بالمنفى الداخلي، وجعل مورسو –  Meursaultبطل الرواية - غريبا عن الذين يحيطون به. يستوي لديه أن تموت أمه اليوم أم البارحة، يستوي لديه أن يتزوج أم لا. قاده مزاجه المتقلب للقتل.
يعيش المراهق هذه التقلبات، مرة يحلق مرحا ومرات يفكر في كسر جمجمته على الجدار... وقد عبر كامي عن هذا المزاج الحربائي بلغة غير قابلة للترجمة.
في الفيلم نتعرف على كامي من خلال بوتريه يرسمه أشخاص عرفوه. وقد كان جون دانييل منتبها لصعوبة إنجاز وثائقي عن شخصية شهيرة جدا.
 للإشارة، زاد الطلب على الوثائقي في السنوات الأخيرة، بدليل ظهور ونجاح قنوات تلفزيونية متخصصة في عرضه. في الكثير من المقاهي تجد الزبناء يشاهدون البرامج رغم الضجيج. تغنيهم الصور عن الصوت... خاصة حين تعرض عالم الغاب حيث النمر يطارد الغزالة بشراسة تبعث الرهبة في النفس.
رغم ذلك لا تغريني مشاهدة الوثائقي عن الحيوانات والحجر، أفضل البشر. والفيلم الوثائقي حسب جون بريشاند BRESHAND  JEAN هو الوجه الآخر للسينما (2). على أساس أن التخييل هو الوجه الأول. والتوثيق يمس أفلام التخييل أيضا، والسبب حسب أندري بازان هو أن الجمهور "يطالب بأن يصدق ما يشاهده... وهذا يزيد من الطابع الوثائقي للأفلام". ما السينما؟ ص 27.
في الكتاب الصادر عن دفاتر السينما، يعتبر بريشاند أن الوثائقي يقدم المعلومة والحجة. وقد اشتق المصطلح من الوثيقة، وللكلمة حمولة قضائية ودينية. ويؤكد المؤلف أن الفيلم الوثائقي ليس كاتالوغ، وهو يختلف عن الريبورتاج. لأن هذا آني ولا يتتبع أصل وأبعاد المسألة التي يتناولها. ولتوصيف الحدود بين التلقائية والتقصي يعتبر إخراج الفيلم الوثائقي تنظيما للصدفة organiser le hasard.
حسب الكاتب يهدف الوثائقي إلى تقديم صورة عن الواقع، التقاط الراهنية، طزاجة الحياة وجمالية اللحظة، تقديم وجهة نظر موثقة توسّع حقل الوعي.
أما على صعيد بناء الفيلم فيقترح بريشارد تسع خطوات محددة هي:
أولا صياغة خط سردي من خلال تتبع مسار شخصية رئيسية. ثانيا البحث عن مشاهد بكْر، جديدة، طازجة. ثالثا التعمق في شروط معيش الشخصيات لكشف وعيها بالعالم. رابعا عرض وجهة نظر المصوَّرين وليس المصوّرين فقط. خامسا كشف وعي الشخصيات بالعالم. سادسا استخدام البعد الديداكتيكي في التقديم. سابعا قياس الوقت الذي يمر والتقاط ما يتحول. ثامنا ربط ما يظهر منفصلا بإيجاد الصلة بين الظواهر. تاسعا رصد البعد التاريخي وكشف ما يتخفى خلف المظاهر المكرورة.
هذا عن الجانب النظري للوثائقي، لنر الآن كيف بني الفيلم؟ وماذا أضاف المخرج؟
بدأ الفيلم بكاميرا تمسح الجزائر العاصمة من أعلى نقطة فيها حتى الشاطئ. وانتهى بنفس اللقطة معكوسة والكاميرا تصعد من حفرة حي باب الواد حتى أعالي المدينة. وقد استخدم المخرج هذا الأسلوب البانورامي أيضا في تتبع حياة كامي. إذ بدأ بصور الروائي يتحدث عن السعادة، وهو ينصح بكتم السعادة لأن الذين لا يتوقفون عن الشكوى يلومون السعداء. ومن الصور الأولى يظهر أن مثقفي المرحلة كانوا يحزمون سراويلهم فوق المعدة... وليس مثل مثقفي سراويل (طا باص) حاليا. 
احترم الفيلم التتابع الكرنولوجي للوقائع. وهذا يثبت أن الفيلم الوثائقي سرد أيضا. وهكذا بدأ المخرج من حيث ولد الكاتب الكبير. في الجزائر بعد 85 سنة تحت الاحتلال الفرنسي. في أسرة أمية، فقيرة، وعاش يتيما منذ السنة الأولى من عمره. غير أن الذكاء أقوى من البؤس. به أثار كامي إعجاب أساتذته في الثانوية. به حصل على منحة ليتابع دراسته... أحب الكرة، كان حارس مرمى لكي لا يجري كثيرا. اعتبر الملعب هو الجامعة بالنسبة له. كان يقف وحيدا في الشباك. وقد ساعده تحمل الوحدة على الكتابة...
 في سن السابعة عشرة بصق دما. أصابه السل. في عزلة المرض اكتشف الكتب، صار يطالع بنهم...
بعد اليتم والفقر جاء المرض. صار يعيش تحت خطر الموت... فلم يعد بإمكانه تحمل الشمس ولا العيش قرب البحر. فماذا تبقى له من الطبيعة؟
القليل فقط. لكن بقيت لديه الثقافة. 
في سن الثانية والعشرين أسس مسرح "العمل"، كان إبداعه وحياته متمازجان... كتب عن جغرافية العبودية في منطقة القبايل، ندد بأن نور الشمس لا يصل للجميع بالتساوي... أغلقت الجريدة ونفي كامي إلى فرنسا... دخل باريس سنة 1940 والحرب العالمية الثانية مشتعلة...
تزوج بعازفة ونشر رواية "الغريب" سنة 1942 فحققت نجاحا مدويا... صار رئيس تحرير جريدة "combat" وكانت افتتاحياته مؤثرة... استمر في العمل عشر ساعات يوميا، نشر رواية الطاعون وصار الكاتب الفرنسي الأكثر مبيعا بالخارج...
بسبب هذا النجاح لم تكن علاقته طيبة بالمثقفين الباريسيين، وقد كان هذا يزيد حنينه للجزائر التي عادت لواجهة الأحداث مع حرب التحرير التي انطلقت في 1954. وقد طرح كامي وجهة نظره: يتصور أن الحل في الجزائر هو الفدرالية لا الاستقلال. وقد فسر ذلك بأنه بين العدالة وأمه يفضل أمه.
كلما زاد نجاحه زاد عبئه، تحمل المزيد من الوحدة من أجل المزيد من الإنتاج.. عندما ينهي عملا يكون قد استنزف روحه وهذا يحزنه... لا تتحمل النساء هذا النوع من الرجال، وقد حاولت زوجة كامي الانتحار...
بما أن وقائع حياة الروائي معروفة، لم يخصص المخرج الكثير من الوقت للمعلومات، لذا جاء الفيلم تفسيريا لا إخباريا. ولإغناء هذا التوجه التفسيري عمد المخرج إلى جعل التعليق المرافق للفيلم بلغة وقراءة شعرية مؤثرة. وهو بذلك يعبر عن وجهة نظر دانييل لأنه عرف كامي شخصيا. فالمخرج هنا أكثر من موثق، إنه شاهد عيان. وقد دعم توثيقه باستخدام مقاطع من مذكرات ورسائل وتسجيلات كامي. كما أرفق  فيلمه بحوارات لمن عايشوا الكاتب كابنته وناشره غاليمار.
وقد أجمعت الشهادات أن كامي كان يعمل كثيرا ليدرك ذلك الأسلوب المركز، الجاف التلغرافي، غير القابل للتقليد... أسلوب كامي كان مباشرا صادما، وقد تكرر في الشهادات لفظ  جاف (sec) ليس في وصف أسلوب كامي فحسب بل وفي وصف شخصه أيضا.
طبعا فكل كاتب يشبه أسلوبه.  
في سن الرابعة والأربعين حصل كامي على جائزة نوبل، وكان ذلك عبئا كبيرا... لسببين، الأول لأن نوبل تتويج. بينما كامي لم ينه مشروعه بعد... حصل على المجد بسرعة ولم يتحمله. صار مرحبا به في كل مكان، ولم يكن يحب الحفلات، وقد بلغ به الضجر أن حاول الانتحار.
السبب الثاني أن نوبل منحت كامي صيتا عالميا، صار نقده للسوفيات شرعيا غير قابل للدحض. وقد شرع في اقتباس "الممسوسون" التي فضحت أساليب الدعاية الشيوعية. وهذه مبادرة خطرة.
وهنا صلة الوصل بين النهاية المفتوحة للفيلم وخبر قتل المخابرات السوفياتية لكامي. لقد بدأت العلاقة بين الطرفين تتوتر مبكرا. غادر كامي الحزب الشيوعي وأدان معسكرات الاعتقال الستالينية(3). وافقه جون بول سارتر على الإدانة ورفضها لأنها تخدم البورجوازيين والرأسماليين. أجاب كامي أن الكاتب ملزم بقول الحقيقة، بغض النظر عن من سيستخدمها...
تعكس نهاية الفيلم شكوك المخرج، وقد تواترت الوقائع التي تعزز هذه الشكوك. إذ يوضح الخبر السالف أن حادث السير الذي قتل فيه كامي العام 1960 دبرته أجهزة الاستخبارات السوفياتية. فقد عطل عميل عجلة السيارة بواسطة أداة مزقت الإطار. 
وقد كتبت الناقدة لودميلا سارسكينا في  ماغازين ليترير أن لينين كان يكره دوستويفسكي (4) عدو الشيوعيين. وتعد روايته الممسوسون مختبرا إبداعيا فضح فيه الكاتب آليات الثورة : تحريض وتوحيد الجماهير بواسطة الدم الذي سُكب بطريقة جماعية. هذه النظرية التي استخدمها سيرجي إيزنشتاين مع البحارة وضمنت خلود فيلمه "المدرعة بوتمكين". وقد قدم دم البوعزيزي في تونس آخر تطبيق لتلك النظرية. 
بتلك النهاية المفتوحة عن حادثة السير، تجاوز فيلم ""ألبير كامي: تراجيديا السعادة" طابعه التوثيقي إلى طابع توقعي، وهنا يتأكد أن الوثائقي هو الوجه الأخر للسينما، للتخييل.

هوامش:

1. Albert Camus, la tragédie du bonheur de Jean Daniel, Joel Calmettes an 2000.
2. BRESHAND JEAN Le documentaire l’autre face du cinema. Cahiers du cinema 2003.
3. لأخذ فكرة عن هذه المعسكرات انظر فيلم "IN TRANZIT" بطولة جون مالكوفيتش.
4. Le Magazine Littéraire N 495 mars 2010.
محمد بنعزيز