الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  خبايا الصورة السينمائية    
غاتسبي العظيم فيلم لم يتفوق على بريق الرواية


  سليمان الحقيوي   

فيلم غاتسبي العظيم من بين الأفلام الحديثة التي حظيت بالاهتمام الكبير، لأن شهرة الرواية (التي أقتبس عنها الفيلم) كانت تسبق إنتاجه، وهو ماساهم في اتساع قاعدة جمهور هذا الفيلم بين محبي الرواية والسينما، لكن هل استحق هذا الفيلم كل هذا الصخب؟ وهل قدَّم مُخرجه عملاً يليق بسمعَة هذا العمل الروائي العظيم.
     سأبدأ بالتأكيد هنا على مسألة جوهرية، هي عدم حتمية نجاح فيلم مأخوذ عن رواية ناجحة، فالثراء السردي والوصفي، يبقى في بعض الأحياء خاصا بعملية القراءة، لأن الروايات الناجحة تمتلك مرجعا كبير عند الناس فهي تُلزم المشتغل عليها سينمائيا بالارتباط بالنص قدر الإمكان، وعدم الحياد عنه إلا لماما، وهو ما لا يجعل الاعمال السينمائية المأخوذة عن الروايات المشهورة أعمالا ناجحة. الكلام السابق ينطبق على فيلم غاتسبي العظيم آخر الإنتاجات السينمائية التي اشتغلت على رواية سكوت فيتزجرالد.و الفيلم الذي نحن بصدده ليس أول عمل سينمائي عن هذه الرواية فقد سبقته مجموعة من الأعمال السينمائية سنوات، 1926،1949،1974،2000 ، لكن  كل هذه الأعمال كانت تبقى بعيدة عن أن تضاهي شهرة الرواية أو تقدمها بشكل لائق، المسالة هنا فنية بحتة فحضور النص الروائي في ذاكرة الجمهور كان دائما يلقي بظلاله على الأحداث داخل الفيلم، والاشتغال عليه سينمائيا لم يستطع إعطاء الجمهور الصورة التي ينتظر، الصورة التي رسمها فيتزجرالد بخياله.
     وتعتبر رواية غاتسبي العظيم  احد اهم الروايات الكلاسيكية الخالدة التي تحكي بنثر مبهر عن فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وقصة الصعود الاقتصادي الأمريكي الكبير، وانعكاس تدفق الثروات على الوضع الاجتماعي والاستهلاكي للمواطن للأمريكي، وتدور حول شخصية غاتسبي الغامضة؛  الرجل الغني الذي أحب فتاة وفرقت بينهما ظروف مادية، فعاد غاتسبي مع ثروة كبيرة وهو يؤمن انه يستطيع إعادة الماضي كما كان، والفوز بقلب حبيبته المتزوجة من رجل غني.
      النسخة الجديدة من فيلم غاتسبي العظيم الذي أخرجه الأسترالي باز لورمان، وبالمقارنة مع الأعمال السابقة هو الأجمل فنيا وتقنيا، لكنه لم يكسر  قاعدة عدم النجاح في إعطاء الصورة المثالية عن الرواية الخالدة، علينا هنا أن نحفر في هذه إشكالية تمنع النصوص الرواية الكبيرة  على لغة السينما، فالقراء يضعون تصوراتهم الخاصة وهي قد تختلف من قارئ لآخر والخيال عامل مساعد في هاته العملية، أما الفيلم فهو يقدم صورته الثابة وهي غير قابلة للفهم المتعدد- لا نتحدث هنا عن إمكانات التأويل المتعددة للمعنى_ بل عن صورة الأمكنة والشخصيات فالفيلم يقدم التصور الأوحد، الذي يصنعه المخرج وفقا للتصور الذي يراه مناسبا، بالاضافة إلى أن عملية الوصف تكون أكثر متعة عند القراءة، أما هذا الوصف فيتحول إلى أمكنة وأزمة أمام المتفرج تملك غناها البصري الذي لا يشبه الغنى اللغوي السردي.
     لقد جرت العادة أن يحاكم المخرج الذي يختار الاشتغال على أحد النصوص الرواية المشهورة من واقع وفاء عمله لأحداث العمل المقتبس عنه، لكن هذا منطق يحمل الكثير من الظلم وقد  ذكرنا بعض الاسباب التي تجعل الوفاء أمرا صعبا، ومن هنا فالنظر إلى  هذا العمل لن  يكون من هذا المدخل إطلاقا، بل سيكون مدخلنا إلى هذا العمل من جوانب أخرى. صحيح أن فيلم غاتسبي محظوظ بشكل كبير، لأنه استفاذ من عناصر جذابة كتواجد ليوناردو ديكابريو ضمن طاقم التمثيل، كما استفاد أيضا من حسن التسويق، وتبقى شهرة النص أكبر عامل في نجاحه، لكن علينا أن نُقر بان هذا النجاح هو نجاح مزيف في بعض الجوانب خصوصا الجوانب التقنية.
     يظهر جليا تفوق هذا العمل على الأعمال السابقة في تصوير الفضاءات المكانية المهمة داخل الرواية، خصوصا في التركيز على مصادر الثروة غير المشروعة لغاتسبي وغيره من الأغنياء في تلك الفترة التي شهدت صعودا كبيرا لطبقة الأغنياء، لكن بدا واضحا أن المخرج كان يرفع رهان نقل المكان لذلك كان اهتمامه زائد بمنزل غاتسبي واقامة الحفلات الصاخبة...، وقد اوقعه اختياره في مأزق فني كبير حين أصبحت الأمكنة تتحدث بدل الشخصيات التي لم يوفر لها المخرج المساحة اللازمة للكشف عن دواخلها، فبدا الفرح والبهجة طاغيا ولكنه كان فرحا مزيفا، كما ظهر المخرج في بعض المشاهد غير متحكم في شخصياته او أنه لم يكن يقدم المساعدات اللازمة في بعض الأوقات التي تحتاج إلى إدارة شخصية منه، فالاهتمام بالمكان جاء على حساب جوانب أخرى كانت أكثر أهمية.
الشخصية التي جاءت على قدر التوقعات هي شخصية غاتسبي، باداء ليوناردو ديكابروي، فقد استطاع احياء ذاكرة الجمهور عند أدائه لدوره فبدا في بعض الأحيان وكأنه الشخصية التي قرأناها في الرواية، رغم أن أداءه في بعض المشاهد كان أقوى من مشاهد أخرى، طبعا نجاح هذا الممثل يعود إلى جهده الشخصي لان المخرج لم يُظهر أي عناية بالشخصيات ولا بحضورها، أما (نيك كاراواي/ توبي ماكواير) الذي تجري الأحداث على لسانه (والذي انتقل للعيش في منزل صغير بالقرب من قصر غاتسبي، فالتقى به، وتعرف عليه من خلال دعواته إلى الحفلات التي كان يقيمها، لأن  غاتسبي كان  يريد من نيك دعوة ديزي ليتمكن من لقائها،) فقد وضع المخرج أمامه عقبة فنية كبيرة فهذه الشخصية هي السارد الاوحد للأحداث، وهو امر معتاد في الكتابات الروائية، لكن المخرج ومعه السيناريست خلقا فوضى سردية ففي بعض الاحداث يروي نيك الأحداث ويعرضها المخرج أمامنا بالتفصيل، فينزع القيمة عن السارد ويجعله تائها بين الأحداث التي يرويها، فلم يكن بإمكانه التميز بأدائه رغم مجهوده الكبير، ولو ان المخرج سلك مسلكا مختلف في التعبير عن  الأحداث، لأعطى الفرصة لتوبي في البروز بشكل أفضل لأنه ممثل بارع ويمثلك مسيرة تشهد على ذلك.
     كما برز الصوت  كعنصر مشوش في الفيلم، السبب دائما راجع إلى الاستعراضات الصاخبة التي غالى الفيلم في تصويرها، ومن مظاهر المغالاة اختيار المخرج التعبير عن المشاهد الصاخبة بموسيقى لا تتلائم أبدا مع تلك الفترة، فكيف ستعبر موسيقى مغني الراب الامريكي (جاي زي) عن فترة الثلاثينيات !!! أمر ليس له تفسير فني إطلاقا. والحقيقة أن هذه السقطة الفنية ليست الاولى لرومان فقد سبق أن فعل نفس الشيء في فيلم "مولان روج" الذي يتردد صداه  الموسيقي كثيرا في هذا الفيلم.
      ومهما يكن من  امر، فقد حقق هذا العمل نصيبه من النجاح، واقبل عليه الجمهور دون الالتفات إلى هناته الكثيرة، لأن سحر النص الروائي كان يسيطر على مخيلة الناس أكثر من أحداث الفيلم. ورغم ان المخرج بدل مجهودات جبارة إلا أنه لم يوظف مجهوداته بالشكل الأمثل. وتبقى بذلك رواية غاتسي العظيم، أعظم من كل الأعمال السينمائية التي تناولتها.

سليمان الحقوي