الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  نقد    
الحوار في الفيلم السينمائي بين المبنى والمعنى



  ملصق فيلم "الحبل" لألفريد هيتشكوك   

وظيفة الحوار في الفيلم السينمائي تتجاوز نقل المعلومات أو تواصل شخصيات الفيلم وربط العلاقات، الى التعبير عن النوايا والمشاعر والأحاسيس،  خصوصا عندما تعجز الصورة عن إيصال ذلك، وإلا فهذه الأخيرة خير وأعبر من ألف خطاب. بيد أن هناك حوار وحوار و بالتالي يحق لنا ، من ناحية المحتوى والفاعلية، أن نتساءل : أية حوارات ننشدها في الفيلم السينمائي؟.
افترض أن هناك مشهدا (    ) يشتمل على جندي يحضر ويقدم لامرأة رسالة تحتوي على أخبار مأساوية خاصة بمقتل ابنها في المعركة، فإذا انهارت هذه الأم وقد سيطر الصراخ أو النشيج عليها، استجابة لهذه الأخبار السيئة، فإن الجمهور سيتحرر بطريقة ما من الانفعال، فهي بهذا السلوك إنما تقوم برد الفعل الطبيعي الصحي الخاص بهذه المصيبة التي ألمت بها.  لكنها، من ناحية أخرى، إذا قامت، بدلا من ذلك، بالتحديق ذاهلة في الفراغ، ثم قامت بدعوة الجندي حامل الرسالة للدخول الى البيت لتناول قدح من الشاي فإن قدر أكبر من التوتر والاهتمام سيتولد لدى الجمهور، وسيتم الاعجاب بهذه المرأة لقدرتها على الاحتفاظ برباطة جأشها، وستحظى هذه المرأة، نتيجة لذلك، بتعاطف أكبر لموقفها هذا، وعلاوة على ذلك فإن شعورا ما بعدم الراحة سيتولد لدى الجمهور، ويرتبط هذا الشعور بإدراك ما بأنه في أي لحظة سيبلغ تعبير هذه المرأة عن حزنها مداه وتنفجر معبرة عنه . 1))
ندرك، من خلال هذا المشهد أهمية الثالوث : الحوار، الأداء / الممثل، و المتفرج، وهو منهج لي ستراسبرغ Lee Stasberg و بالتالي نتفهم جيدا لماذا استعانت السينما في بدايتها بخريجي المسرح. و نعتقد جازمين، على الأقل من وجهة نظرنا، أن روعة وعمق الحوار يرجع  أساسا الى الإيمان بهذا المنهج وإدراك فاعليته الفنية  خصوصا إذا علمنا أن الفيلم محصلة بنية مجموعة عناصر متماسكة ومكملة بعضها البعض، الحوار جزء منها، أحيانا يكون هو "بطل" الفيلم بخلقه الأفعال الدرامية ومساهمته في تصاعدها دون أن يحس المتفرج بذلك، مثال فيلم (الحبل) La corde  للمخرج ألفريد هيتشكوك Alfred hitchcock الذي صور فقط في مكان واحد.
نعود الى مشهدنا السابق ونفترض الحوار التالي :
الجندي
أنا آسف سيدتي، إب ، إبنك توفي في المعركة
المرأة (محدقة في الجندي)
آه كانت رحلتك متعبة، تفضل لتشرب قدح من الشاي وتستريح

جواب المرأة في هذا المقطع الحواري، هو ما تحتاجه أفلامنا، جواب من نوع الحوارات المستفزة والغير المتوقعة التي تثير فضول المشاهد، الذي ليس آلة كسولة، وتدفعه لطرح التساؤلات والبحث عن الإجابات و مشاركة الشخصيات انفعالاتهم واحاسيسهم، حوارات Questionnaire  الخالية من لمسة الأنسنة والخاضعة فقط للامنطق التناوب الآلي على تناول الكلمة تفرغ الفيلم من روحه الإبداعية وتعجل ملل المشاهد والنأي بنفسه عن طقس فرجته.
ما أحوجنا لحوارات أفلام جون لوك كودار Jean Luc Godard التي تنهل من الإشكالات الوجودية وتساؤلات الإنسان وقضاياه اليومية، والمعبر عنها بلغة عادية وطبيعية، حوارات ابنة بيئتها بأسلوب أحيانا ساخر، وأحيانا أخرى بطريقة جدية تدعونا، نحن المشاهدون، إلى وقفات للتأمل ومراجعة قناعاتنا في اتجاه تأكيدها أو خلخلتها. أليست السينما جنس تعبيري تحدث من الأثر،مثلما تحدثه الأجناس التعبيرية الأخرى؟.
الحوارات الجيدة تحترم بناء وسلطة الشخصيات الفيلمية وتأخذ بعين الاعتبار تكوينها السيكولوجي والفيسيولوجي، غير أنه من المستحسن في بعض الأوقات، عندما يفرض ذلك سياق الحدث الدرامي، خلخلة تلك السلطة، إنه الاستثناء والطريقة غير المألوفة من أجل تكسير قاعدة "كل مألوف معروف" ، ونموذج الخادمة  دنفر Danvers في فيلم ريبيكا Rebecca  للمخرج ألفريد هيتشكوك Alfred Hitchcock خير مثال حي على ما نقوله.
القليل من "التأتأة" في الحوار جميل، حيث الكلمات المكررة فيه تتجاوز الوظيفة التوكيدية لتشكل فونيمات صوتية مثل لازمة الغناء بإيقاعات ونبرات مختلفة، كما أن  التوقف دون اكماله بمثابة أحجية على المتلقي أن يفك لغزها، صراعه (الحوار) من خلال تقاطعه وتداخله يحسم في الجولة الأخيرة أي في اللحظة التي ينطق فيها أحد الشخصيات في الحوار بآخر عبارته أو كلمته التي تفرض رأيا أو تدعما موقفا، من المفروض أن تكون حوارات ذات حمولات فكرية وإنسانية لاتسبح محاذاة الشاطئ بسطحيتها وإنشائيتها الفجة بل تغوص في أعماق التردد والإرتباك و التوتر، وبالتالي تخلق التأثير والتأثر وتدفع المشاهد الى التماهي مع الشخصيات.
شيفرة الحوار الجيد : الدقة، الإيجاز، الحرص فقط على قول ما لا تقوله الصورة وعدم كشف أحداث الفيلم من أجل خلق التشويق وتطميع المشاهد واستثارة فضوله، إنه وحدة متكاملة يستلم بعضه البعض ويعترف به، فعلى كاتبه أن يضمن تماسكه وإلا تناثر عقد حلقاته، مستخدما امكانياته التخييلية في ايجاد تلك الروابط المتعددة والمختلفة التي ليست قوالب جاهزة بل تفرضها سياقات الحوار و خلفيات الكاتب الإبداعية في توظيفها فنيا وجماليا.
تتعدد في الفيلم لغات الخطاب، الصورة نفسها خطاب مليء بالرموز والدلالات، وإذا سلمنا بدور الحوار كلغة تتوسل التعبير بالجمل والكلمات، والكلمة فجرت حروب وغيرت مجرى أحداث تاريخية، فلا يجب إغفال الحركات التي يتم تضمينها بين قوسين أمام الشخصية المتحدثة في نص الحوار، وسواء كانت حركات ايحائية أو توكيدية فلا يجب أن تشرح مبنى الكلام بل  تخلق المعنى وتضيف الجديد.   
أسوق، تعميما للفائدة، مقتطف من حوار فيلم حنة وأخواتها للمخرج وودي آلن woody Alen، أتوجه به الى القارئ النموذجي بعبارة امبيرطو ايكو، كي يتأمله ويلاحظ توفق خضوعه لمعايير كتابة الحوار التي سردناها سابقا. 
ميكي (يشير بيديه، وينظر الى أعلى نحو الدكتور سميث خارج الاطار)
أليس هناك ما أستطيع القيام به ؟ منشطات أو هرمونات ؟
دكتور سميث (خارج الاطار)
أخشى أن لايكون هناك شيء
ميكي
حسنا علي أن آخذ رأيا آخر
حنة (تستدير نحو ميكي)
هذا هو الرأي الثاني
ميكي (يرفع أكتافه)
حسنا، إذا رأي ثالث
دكتور سميث
أنا أدرك أن هذه صدمة.  من تجربتي أن العديد من الزيجات الحسنة تصبح
غير ثابتة وتتحطم بعدم القدرة على التعامل مع مثل هذه المشكلة. أرجو أن لا
تتضايقان كثيرا بسببها، ممكن للإنسان يتبنى طفلا، وهنالك وسائل عديدة
غير طبيعية للتخصيب
ميكي (يشير بيديه موضحا)
أنا أشعر بالمهانة، ولا أدري ما أقول أعني….
حنة (مقاطعة، تمسح عينيها بمنديل ورقي)
هل من المحتمل أن تكون قد خربت نفسك بطريقة ما ؟
ميكي (ينفعل)
كيف لي أن أهدم نفسي ؟ ماذا تعنين بخربت نفسي ؟
حنة (مقاطعة)
لا أدري، ربما ممارسة العادة السرية بكثرة ؟
ميكي
هيي هل ستبدئين في الطرق على هواياتي ؟ يا الهي
ربما، ربما نستطيع أن نتبنى طفلا، قال انه بإمكانك تبني واحد….
حنة (مقاطعة)
حسنا، ما رأيك في التخصيب الصناعي ؟
ميكي
عن ماذا تتكلمين ؟
حنة (مقاطعة)
هل تعلم، حيث أنا، أنا أخصب عن طريق متبرع
ميكي
ماذا من قبيل غ….. غريب !
حنة
مجم… تريد طفلا مجم… مجمدا، هل هذه فكرتك
حنه (مقاطعة)
فكر به فقط، هذا كل ما أطلبه. (2)

هل بعض كلمات الحوار متقطعة، غير مكتملة ومكررة، لأنها منفعلة ومتهكمة ؟ أم العكس هو الحاصل . عبارات وجمل لا تسمي الأشياء بمسمياتها ولا تمارس هواية الكشف والفضح، طريق من يعوزه الزاد التخييلي في ايجاد أكثرمن معنى لنفس الشيء  (ليس في نص الحوار كلمة أو جملة تقول أن ميكي عقيم، بل تجد احالات من قبيل أليس هناك ما أستطيع القيام به ؟ منشطات، هرمونات، أنا أشعر بالمهانة، ربما ممارسة العادة السرية بكثرة الخ.). حوار مشحون عاطفيا ومؤثر لم تنته مدة صلاحية طرحه بل يبني لبنات آفاق صروح درامية قادمة : هل سيقبل ميكي بالتخصيب الاصطناعي ؟ أم سترضخ حنة لوجهة نظره بتبني طفل ؟
جميلة هي الحوارات الكاذبة في صدقها والصادقة في كذبها، ومبدعة هي الحوارات التافهة التي تعبر عن موقف تافه.

الهوامش
(1) سيكوليجية فنون الأداء، عالم المعرفة ص 134
(2) مجلة نزوى العمانية العدد 74، ترجمة الحوار مها لطفي
حكيم يحيى