الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  نقد    
سؤال الإبداع في الفلم القصير: (200 درهم نموذجا)*

يمكن الانطلاق، بخصوص الفلم القصير في علاقته بسؤال الإبداع، من ملاحظتين أساسيتين : الملاحظة الأولى تتعلق بأهمية الحرية في مجال الإبداع بوصفها شرطا أساسيا من شروط الفن وبما يتيحه الفلم القصير من مجال أوسع وفسحة أكبر لممارسة التعبير الفني الحر بمنأى عن إكراهات ثالوث الإنتاج والتوزيع والاستغلال الذي يحكم شروط انتاج الفلم الطويل . أما الملاحظة الثانية فتتعلق بتحديد جنس الفلم القصير في علاقته بالفلم الطويل من خلال مماثلته بجنس القصة القصيرة في علاقتها بالرواية في مجال الأدب ، وذلك باستحضار خاصيات الاختزال والإضمار والتعبير عن موقف في كل منهما، مع التنبيه إلى الفارق الجوهري بينهما والمتمثل في كون القِصر في القصة القصيرة فضائي يحسب بالصفحات ، والقصر في الفيلم القصير زماني يحسب بالدقائق والثواني، وهو ما يسوغ لنا التشديد على هذا البعد الزمني المحدد لجنس الفلم القصير مما يدعو إلى افتراض - كما ذهب الى ذلك العديد من المنظرين والمبدعين السينمائيين - أن خصوصية السينما تتمثل في كونها أقدر الفنون على تجسيد الزمان والإمساك به بكل أبعاده النفسية والاجتماعية والوجودية ... إن خاصية الاختزال والإضمار في الفلم القصير هاته، هي ميزته الإبداعية التي يسعى من خلالها إلى تكثيف اللحظة التاريخية بكل أبعادها الإنسانية ونقلها طازجة فوارة للمشاهد مليئة بالإيحاءات والدلالات العميقة التي تستكنه الوجود الإنساني في جوهره الكوني وتقدمه مادة فنية قابلة للقراءة المفتوحة والمتعددة الأبعاد. يمكن إبراز جوانب الإبداع في الفلم القصير من خلال شريط "200 درهم " انطلاقا من عنوان الفلم باعتباره أولى العتبات التي يمكن أن نلج منها إلى عوالم الفلم في علاقتها باللقطة الافتتاحية للشريط حيث تلتقط الكامرة الورقة النقدية عنوان الفلم "200درهم" وهي تحلق في السماء ليعثر عليها الطفل الراعي بطل الشريط عالقة بالأشواك ويتجه بها راكضا من شدة الفرح من المرعى إلى القرية تاركا وراءه قطيع الأغنام ليحدث بذلك للتو انعطافا في مسار المحكي الفلمي فتصبح بذلك ورقة المائتي درهم تضطلع داخل الشريط بدور الشخصية باعتبارها المحرك الرئيس للمحكي الفلمي والموجه الأساس لأحداث القصة بما ستحدثه من دينامية وحراك داخل القرية االهادئة والمستسلمة لحالتها السكونية . تبدو الورقة النقدية الزرقاء الناصعة في اللقطة الافتتاحية للشريط هابطة من السماء الزرقاء الصافية اللون في حالة تماثل بارز بينها وبين السماء كما لو أنها مقتطعة منها، وذلك حتى تستمد الأولى من الثانية دلالتها الرمزية ( بوصف السماء رمزا للمقدس ) . هكذا تهبط ورقة المائتي درهم الى عالم الأرض لتدنس حينما ستسقط بين يدي العم السكير الذي سيمزقها لحظة افتضاح أمر محاولة سطوه عليها من يد الطفل من لدن أم هذا الأخير والتي ستنعته بعد التأكد من فعلته بالسكير، وحينما سيعمل بعد ذلك على سرقتها من الضريح الذي استأمنه الطفل عليها، ثم حينما سيبتاع بها قنينة خمر ليشربها ويٓهُمَّ ثملا بتدنيس المسجد محاولا إقامة الصلاة فيه وهو سكران . أما بخصوص الشخصيات الأخرى فالملاحظ أنها محكومة بعلاقة التقابل . وهو تقابل يقوم بين كل من الجد الذي يمثل الاستكانة والخنوع بعد تجربة هجرة محبطة وبين الطفل الذي يمثل الطموح والعزيمة والإصرار على الذهاب في ذلك إلى أبعد الحدود من جهة ثانية. ثم التقابل الثاني الذي يقوم بين العم السكير الذي يمثل الانهيار والسقوط والنزوع إلى تدمير الذات وبين الفقيه كحارس للقيم والمقدسات والممثل للطهر والفضيلة من جهة أخرى . في حين يركن البقال، الذي يبيع الخمر لسكان القرية المحافظة في قنينات المشروبات الغازية، في منزلة بين المنزلتين بوصفه رمزا للازدواجية والنفاق الاجتماعي ، أما الأم فتجسد الهامش والمعاناة اليوميه و غياب الاعتراف الاجتماعي بما تقوم به من أدوار كان من المفروض أن يقوم بها الرجل داخل مجتمع ذكوري تكون السلطة فيه دائماً للرجل الذي يكتفي، هنا في الشريط، بلعب الورق وتزجية الوقت وهدر الزمان، وهي شخصية جاءت لتعضد دور شخصية البقال بغية تجسيد هذه الازدواجية العميقة في المجتمع والتي يبدو أن المخرجة قد سعت كدأبها إلى أن تكشف عنها وتضع عليها الأصبع في هذا الشريط . صحيح أن شخصية الأم هنا تعضد دور شخصية البقال لكنها تختلف عنها من حيث السلب والإيجاب . هذا التقابل هو نفسه ما يحكم الفضاء السينمائي المؤطر للمحكي الفلمي في هذا الشريط حيث التقابل الرئيس بين فضاءين عامين: فضاء خارجي مفتوح و ناصع هو فضاء الطريق السيار من الجهة الأولى، وفضاء داخلي مغلق ومعتم هو فضاء القرية من الجهة الأخرى، هذاالفضاء الأخير نجد داخله هو بدوره فضاءات خاصة يقوم التقابل فيها بين المسجد و الضريح كمكانين للعبادة والتقديس من جهة و الدكان كمكان لبيع المحرمات وللكذب والتدليس من الجهة الثانية . أما الحدث الرئيس في الشريط فهو حلم الطفل بالهجرة إلى المدينة الكبيرة موضوع الحلم الكبير (الدار البيضاء) هذا الحلم الذي سيجهض من طرف العم "السكير" الذي فقد كل مقومات الشخصية السوية وصار يشكل خطرا محدقا بالمارة بالطريق السيار كفضاء يمثل المكان المحاذي للزمن الآخر، زمن المدينة (المدينة في الشريط لا تحضر كمكان بل كحلم ووجهة متخيله بديلة و مستقبلية ) وكأن الزمان لا يتحقق إلا من خلال مبارحة المكان والانفلات من شرنقته الآسرة، هكذا يتجسد مكان الطريق السيار في بعده الحركي (اللامكاني) باعتباره مكان عبور وباعتبار الحركة والسير الناشئين عن هذا العبور عمليتان ترومان مبارحة المكان وبالتالي نفيه ما دام يذوب في مجرى سيرورتها، إنه المكان الذي ما يفتأ ينبرح ليتحول إلى محض زمان يتدفق ويجري بلا هوادة، فالزمان هو المكان وقد تناثر بفعل الحركة التي أحالته إلى نقع وغبار تُخلِّفه خطى عجلته الدائرة ، وكأن الزمان لا يقف مستويا إلا على أنقاض المكان بل إنه -أي الزمان- هو المخلص الوحيد من المكان باعتبار هذا الأخير آسرا للأول وكابحا لانسيابه وسيولته . ومن ثمة فلن يتحقق خلاص الطفل من واقعه المزري ( أو مما يمكن أن ننعثه بِ"الزمن البهيمي " الموجود خارج دائرة الوعي الإنساني و الذي يُستشف معناه من الحوار البليغ الذي دار بين الطفل الراعي وقطيع غنمه في اللقطة الافتتاحية للشريط حيث يرفض الطفل الراعي، محدثا قطيع غنمه، رفضا باثا أن يقضي باقي مراحل حياته في رعي الأغنام وحراستها وهي تجتر وتلوك الطعام ويحلم بدل ذلك بمستقبل أفضل، مع التوكيد على دلالة الاجترار وإيحاءاتها السوسيوثقافية ) إلا من خلال التمرد على المكان وهجره ( التيمة الأساسية في الشريط هي تيمة الهجرة ) أي عندما يستحيل المكان بالنسبة إليه إلى مجرد ذكرى تنتمي للماضي فيتأتى له بالتالي أن يصنع زمنه الخاص، إنه الزمن الذي يجسده إيقاع الأغنية المشرعة على الحلم والمستقبل التي اختتم بها الشريط والتي تنقل لنا نشوة استعادة الطفل الحالم لزمانه الهارب وهو يدندن معها إيذانا بمعانقته لزمانه الشخصي وكينونته الهاربة التي كانت مندثرة في دثار الحلم والرغبة العالقين في إسار المستقبل المنشود، وهو على متن الحافلة التي أخلف معها الموعد في المرة الأولى حين ضيع المائتي درهم لتعود إليه مرة ثانية بفعل حركة متهورة من نفس اليد التي سرقتها منه حين أصابت بقطعة حجر ضخمة سيارة أجرة لتزيغها عن اتجاهها إلى جانب الطريق السيار وينفتح بذلك الباب لتطير من داخلها ورقة مائتي درهم بنفس مواصفات الورقة المسروقة في المرة الأولى لتعيدنا بذلك إلى نفس النقطة الزمانية الصفر التي بدأ منها الشريط وكأن شيئا لم يحدث خلال كل الشهور التي مرت حسب التنويه المكتوب الوارد في الشريط وكأن الزمان لم يبرح مكانه وظل جاثما في نفس نقطة البدء ... على أن تكرار نفس اللحظة التاريخية سيصاحبه للتو لدى الطفل البطل وعي بالزمان وبديناميته حيث لم يعد هناك مجال للتردد والانتظار وتفقد المكان، فالزمان لا ينتظر إذ لم يكن هناك من خيار إلا امتطاء عجلة هذا الزمان التي لا تكف عن الدوران . هكذا يلفت الشريط الانتباه إلى هذه العلاقة الجدلية بين المكان والزمان عبر الإنسان حيث يستحيل المكان إلى زمان من خلال وعي هذا الإنسان بوجوده وبديناميته وفعله وبعدما يتحول هذا المكان إلى مجرد ذكرى تختزنها الذاكرة وتنتعش من خلالها، إذ ما إن تدور عجلة الحافلة حتى يتجسد لنا زمن جديد تطبعه الحركة والفعل والدينامية المنتشية بالظفر بتلابيب الزمان، تاركة نقع خطاها يمحو آثار مكان القرية الدارسة حاملا منها مجرد الذكرى وكأن العبور إلى المدينة بكل ما تحمله من معاني التحضر والتمدن والحداثة يمر عبر امتلاك الزمان ومعانقته وعدم إخلاف الموعد معه. وإذا عرفنا أن الأمر هنا لا يعدو هنا أن يكون متعلقاً بعمل إبداعي تخييلي سينمائي جاز لنا أن نقول إن الطريق إلى الحداثة يمر عبر الفن والسينما تحديدا.

* المداخلة التي ساهمت بها في المائدة المستديرة التي نظمها نادي التواصل ببرشيد في موضوع :الفلم القصير وسؤال الإبداع . بتاريخ 15 ماي 2014
محمد عبدالفتاح حسان