الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  نقد    
الخريطة السينمائية للمتوسط:الانشغالات والأبعاد الجمالية



 جرى  افتتاح الدورة الثامنة لمهرجان الفيلم القصير المتوسطي بطنجة، بمشاركة 19 دولة، قدمت 53 فيلما في المسابقة الرسمية و43 فيلم ضمن بانوراما عن الأفلام المغربية القصيرة، في البداية تم تقديم لجنة التحكيم، وقال رئيسها عبد اللطيف اللعبي أن الثقافة بالنسبة له ضرورة وهو على استعداد للمساهمة في كل نشاط... على مشارف السبعين مازال اللعبي يفيض حيوية... ينتج ويتخذ مواقف...
بعد ذلك، جرى عرض شريط الافتتاح وهو فيلم وثائقي قصير بعنوان "طنجة مدينة دولية" أنتج سنة 1946 من إخراج أندري زووبادا Zwobada.  على امتداد ربع ساعة حاول المخرج أن يعطي صورة موثقة عن طنجة كمدينة مفتوحة... يتجلى فيها الحضور الدولي على مستويات عدة.... حيث نجد البريد من دول مختلفة، الطيران من شركات متعددة، العملات تصرف بحرية، الأديان متعايشة، العمران مزدهر... في منتصف القرن العشرين...
ينتهي الفيلم بتساؤل قلق حول مستقبل المدينة وإلى أين ستكون وجهتها... إلى الشمال أم إلى الجنوب؟
بعد ثلثي قرن، لازال السؤال قائما، خاصة في عصر ازدادت فيه الهويات حساسية، وصار كل حدث عابر قابلا ليشعل نارا لا تبقي ولا تذر... ففي شمال طنجة، أوروبا تفقد ثقتها بنفسها، يسيطر عليها الرعب فيصعد اليمين المتشدد واثقا... يهدد بتحويل حياة المهاجرين إلى جحيم... يمين مسعور يجعل من الطماطم قضية وطنية تستحق الحرب...
 وعلى جنوب طنجة، يوجد انقسام شديد في المجتمعات بين الحداثة والتقليد... ينظر إلى الحداثة كمرادف للتعري... بينما الحداثة مفهوم شامل، يعني سياسيا فصل السلط وفكريا حرية البحث واقتصاديا المحاسبة والتدبير المعقلن...  مفهوم صنع نهضة الغرب... مفهوم بلعته الأسلمة الذهنية السائدة، وأقصد بالأسلمة الذهنية تدينا لفظيا... ولي تدينا بالعمل للنهوض بالمجتمع...
أفكر في هذا وأنا أطل على البحر من نافذة مغارة هرقل، ارى البحر الذي يفترض أن يكون، حسب إدغار موران بحيرة سلام تجمع أكثر مما تفرق...
 رغم القلق فطنجة اليوم، بداية القرن الواحد والعشرين، مدينة ناهضة، العمارات تكبر كل يوم، ميناء المتوسط يعيد لها وزنها الدولي... ومهرجان الفيلم القصير سيسمح بإطلالة على مشتل السينما المتوسطية، لتقديم الاتجاهات الفنية الناشئة وتحسس أين وصل سؤال هويات المدن في المنطقة. 
هذا المقال هو تفريغ للكراس الذي ملأته في الظلام، العين على الشاشة واليد تكتب على الورقة، عن عشرات الأفلام التي شاهدتها في مهرجان الفيلم القصير المتوسطي بطنجة 2010، والذي سمح بإطلالة على طبوغرافية المجتمعات المتوسطية.
 طبعا تتولى وسائل الإعلام يوميا تقديم تضاريس الخريطة السوسيواقتصادية لدول المتوسط، حيث أخبار غزة تحفر ونجاد يخطب في بيروت، مشاكل التوريث في مصر والتمديد الأبدي في تونس... ومحاكمة الأكراد في ديار بكر واعتصامات يائسة في بلد أرسطو وشبيبة مندفعة تحرق وتكسر في فرنسا فتمهد لساركوزي الطريق للفوز بولاية ثانية لأنه وحده القادر، حسب لفظه، على ضبط الحثالة التي تخيف التيار المركزي في المجتمع... وصراع الهويات على ضفاف بحيرة تتجمع حولها كل الأديان... وقد كان فيلم الافتتاح "طنجة مدينة دولية" مختوما بسؤال: أين ستتجه طنجة شمالا أم جنوبا؟
كان ذلك السؤال تعبيرا عن قلق هويات المدن، ولتكملة هذه الصورة، يحاول هذا المقال تقديم الاتجاهات الفنية الناشئة في مشتل االسينما المتوسطية عبر استعراض طبوغرافية المتوسط سينمائيا من خلال افلام المسابقة الرسمية، على صعيدي التيمات المتناولة في الأفلام والأشكال الجمالية الموظفة.
بداية، ولتدقيق تصور المقاربة، فإن مفهومي للفيلم القصير هو نفس مفهومي للقصة القصيرة، إنه تقطير للتجربة الإنسانية، التقاط للكثيف والدال في حيز زمني مضغوط. 
وعندما أقبل على مشاهدة فيلم قصير أطرح افتراضين:
-    ان يكون هناك بحث، جمالي او موضوعاتي أو هما معا.
-    أن يكون ذلك البحث موفقا، أن يكون بحثا مثمرا، مدهشا، يحمل لمسة تعكس وجهة نظر.
وتحقق افتراض واحد على الأقل في جل الأفلام المعروضة... وتحقق الافتراضان في نصفها، دون هذا تكون "المشاهدة معاناة"، كما قالت المخرجة فريدة بليزيد عضوة لجنة التحكيم في تصريح لها. حين يتحقق الافتراضان، فالفرجة تجلب البهجة.... لم أشاهد الأفلام فقط، بل راقبت أصحابها أيضا، أختبر نظرية فرانسوا تروفو "كل فيلم يشبه مخرجه"، أخمن حجم سعة خيال المخرج من مرونة تصرفاته... أتعقب لقطات شهيرة من أفلام عظيمة سبق لي مشاهدتها... لأعرف المخرج الذي يشاهد أفلاما كثيرة ويلاحظ من ذاك الذي لا يفعل...
لنقم بجولة على زورق فينيقي في رحلة سينمائية متوسطية تنطلق من طنجة لتعود إليها، رحلة تأمل، ولهذا سوابق، فقد خضع المتوسط لتأمل الكثيرين، أشهرهم مؤرخ الحوليات فيرناند بروديل، ثم إداغار موران، وأخيرا عبد الله العروي وهو يحاضر في الرباط بداية نونبر 2010 عن تأملات مونتيسكيو في تاريخ الرومان الذين طبعوا المتوسط بحكمهم وعمرانهم، لهذا اختار العروي مونتيسكيو الذي هاجم عصر لويس الرابع عشر، وقدر جهود وارث سره لويس الخامس عشر لتضميد الجراح التي خلفها حكم سابقه الطويل جدا... مونيسكيو الذي ساند الإصلاح من فوق... هل يدافع العروي عن الملك الجديد ضد معاصريه الذين لن يروا إنجازاته؟
هل يحتاج العروي كل هذه اللفة ليقول لنا موقفه مما يجري في مغرب محمد السادس؟ 
 زورقنا الفينيقي غير مسلح كالروماني، يخرج من نافذة مغارة هرقل، يتجه شمالا، يعبر مضيق جبل طارق المحروس بالكاميرات لصد المهاجرين... تستقبلنا البرتغال بفيلم "بالجانب" لبازيل داكونا عن إطفائي يعيش عزلة رهيبة في أمسياته، يعشق جارته من خلف الجدار في أوقات فراغه، لذا يقضي وقته يضع أذنه على الجدار يسترق السمع... يتابع تقلبات العلاقة بين الجارة وحبيبها... عنف وحب... ذات مرة تسلل إلى الشقة، دخل تحت السرير ليتلصص... أدرك أن الجارة تحب منحوتات الحمام... بدأ ينحت لها واحدة حديدية... كان في بحث مرهق عن التواصل... تواصل معوج، يتم عبر الجدار لا عبر الباب... حين يطرق الباب يضع أمامه وردا ويختفي... ثم يعود لخلف الجدار سعيدا... كان اختيار الممثل جد موفق، يوحي وجهه الأملس الأصفر كأنه جثة.
حين تعرضت الجارة للعنف تدخل الإطفائي وقتل صديقها... وحده العنف عبَر الجدار...
 في أفلام طنجة، ستتكرر تيمة الجدار كثيرا... جدران سميكة من العزلة تقوي البعد عن الآخر... عزلة تشمل حتى الحفلات كما في فيلم "الزفاف الأخير" لخورخي تسابو تزوكولو من أسبانيا عن لقاء أصدقاء قدامى ما عاد شيء يجمعهم، فيلم من صور جيدة وسيطرة تقنية تقدم قصة مشوشة، عاشق يحضر عرس حبيبته وهي تتزوج آخر، طريقة حكي دون لمسة دهشة... أشاهد وأبحث عن أفلام ذات أسلوب في تقديم موضوعها... الموضوع دون أسلوب لا قيمة له، يقول أندري بازان أن الأسلوب بالنسبة للموضوع يساوي ما تمثله الطاقة بالنسبة للمادة... الحرارة هي التي تشكل الذهب الخام ليصير قرطا يتدلى على نحر...
في الفيلم الأسباني الثاني "روديا" للمخرج خوانخو خيمينيز  عن الهوس بنجوم كرة القدم، يبحث البطل عن صورة تنقص في البومه... لا يجدها ليشتريها... يبحث عن اللاعب وقد كبر وصار سائق طاكسي، لم يعد نجما، يأخذه للملعب ويصوره ثم يضع الصورة في مكانها.... تغمره سعادة هائلة... نقف على حدوتة أخرى أضحكت الجمهور للحظة، كانت في فيلم "جدة قابلة للنفخ" لتيلمو إسنال، ففي رحلة استجمام لابد من شخص يرعى الأطفال ليتفرغ الزوجان للخلوة والغرام... أخرج الرجل جدة مثالية بلاستيكية نفخها كالعجلة وسلمها ولديه... وخلا لزوجته... عندما أكثرت الجدة الملاحظات أفرغها من الهواء ووضعها في صندوق السيارة...
هل هذا هو المكان المناسب لكبار السن في المجتمعات الحديثة؟
لنتبع الزورق: 
من فرنسا جاءت أفلام مخيبة، فيلم "ثمانية ونصف" للوران تيسيي يتناول الحياة الصعبة لعمال مؤقتين هامشيين... يعيشون صراعا على خيارات ضيقة ومذلة... هذه ثمار "يجب أن تعمل أكثر لتكسب أكثر" حسب شعار ساركوزي الانتخابي، الشاب يعمل أكثر ولكن كسبه يذهب لكراء السكن... زميله يغامر في تجارة المخدرات... فيلم يكتفي بتصوير الواقع بدل أن يرقى للفن.
في فيلم "كالزون" لفانسون دوس ريس، نتعرف على زعيم عصابة في مطعم إيطالي يطلب طبق كالزون، يفاجأ بأنه بلا بيض، يرسل رجاله لإرغام الدجاجة على وضع بيضة فورا... بعد جهود مضنية يفترض أنها كوميدية لإضحاكنا وضعت الدجاجة بيضة... حين شاهدت صديقة زعيم العصابة مح البيضة طلبت أومليط.
يظهر هنا سحر تصوير حدوته anecdote. تبدو أثناء كتابتها مسلية وأثناء تصويرها رائعة... عندما ينتهي المونتاج تصبح باهتة، لأن تصوير حدوثة في 10 دقائق مضجر. 
الحدثوثة لا تتطور، الحكاية أفضل، تتشعب احداثها وتفسيراتها، كما في الفيلم الإيطالي "آخر أيامي في الحرب" لماطيو طونديني عن فلاح وقع بين جنود ألمان وأمريكان في نهاية الحرب العالمية الثانية، يحكي لحفيده ماذا جرى، لقد حاول النجاة ببمصالحة الأعداء بطعامه وخمره فاتهم بالخيانة، شعر بالخوف... لكنه استرد شجاعته وصار ينتقد ويدافع عن نفسه... ثم جاءت شابة جميلة تحمل وردا... قدمت وردة للفلاح واخرجته من بين البنادق المصوبة لبعضها... بقي الجنود لتصفية الحساب فيما بينهم...
يفرح الحفيد للنهاية السعيدة، حينها يخبرنا الجد بحقيقة ما جرى... لقد أدمت أعقاب البنادق جمجمته ولعلع الرصاص... يقدم الجد صيغتين للحكاية عن نفس الحدث، حكاية تعطي للجد دورا مشرفا لكي لا تحبط الحفيد الذي لن يعرف أبدا هدا الوجه البشع من سيرة جده... وحكاية للتاريخ، بحقيقتها المرة والدموية... يشعر المتفرج بالبهجة حين يجد أن للفيلم معنى. 
جرى اختيار موقع التصوير بعناية، في قمم جبلية... تشبه اللقطات بداية فيلم سبارتاكوس لستانلي كوبريك...
لم أشاهد فيلم "إي بيكس" لبيتار بوزيتش من سلوفينيا وقد كانت أصداؤه جيدة، لكن شاهدت "نزهة" لداليبور ماتيانيتش من كرواتيا، فيه الكثير من القبل، تليها مناظر طبيعية من شاحنة تسير ثم كثير من القبل... ثرثرة بصرية... مخرج يعاني ليملأ الصورة... يتسبب في إيقاع رتيب وصور غير متماسكة... الفيلم الآخر افضل، يحكي "كعكة بالشوكولا" لدورويتا فوسيتس عن أرملة تفقد زوجها بينما كانت تعد له كيك، كانت متعتها أن يتذوق ما تعده، يبدو انها تفكر هكذا "أنا اطبخ إذن أنا موجودة". مات الزوج.
لمن ستطبخ الآن؟ ستموت من العزلة... تفكر في الانتحار، تعلق لنفسها مشنقة، تضع فيها رقبتها فتسقط أرضا... مازالت حية... تراقب مشردا من النافذة، إنه لص يدخل ليسرق فيجد الكيك ويأكله، فصارت تعد كيك يوميا ويتسلل هو للمطبخ ويأكل... حين تجد الصحن فارغا تفرح ... تعتبر تناوله للشوكولاطة مصدر إشباع نفسي، وجدت لصا يؤنسها، وجدت مع من تتواصل... حظها أفضل من الجدة في " نصف ساعة للجدة" ليوري بافلوفيتش، فيلم مدته 17 دقيقة عن عزلة جدة في قرية ريفية على الطريق، فجأة يزروها ابنها وحفيدها... جاءا ليأخذا منها شيئا ويبكيانها ثم يرجعا للمدينة...
 من البانيا جاء فيلم "نحس في ثانية" جنتيان كوسي، وفيه جرت حادثة، صورها شاب في ثانية بهاتفه المحمول، حين وصلت وسائل الإعلام المحترفة تجاوزها الحدث، صار الشاب الذي يملك الوثيقة خائقا... عليه ضغط... صارت الصور قنبلة في يد حاملها... وقد بين الفيلم التحول الذي صنعته التكنولوجيا في حياة البشر... صار التواصل، الذي هو سلاح احتكره الأقوياء في كل مراحل الحياة البشرية، صار هذا السلاح شائعا... يمكن أن يستخدمه شخص بالصدفة لإحداث أثر مهول... أشهر مثال تصوير رد ساركوزي على المواطن الذي رفض مصافحته في المعرض الفلاحي... casse toi pauvre con.
تميز الفيلم بمهارة جيدة في استخدام الكاميرا لالتقاط التوتر... لكن الكتابة تعاني من نقص في المعلومات السردية، وهذا ما جعل الفيلم يمر في صمت...
من اليونان جاءت أكثر الأفلام عمقا، في "ميسيسينا" لصوفيا إيكسارشو شاب مريض يظن أنه يستطيع أن يحب... يعالج في مستشفى قذر... يتسلل ويتبع فتاة وحين يداهمه الألم يختفي... حين تتبعه وتكتشف حقيقته تجلس قربه... يسيطر عليها قلق عميق يعدي المتفرج... في فيلم "مازالت القطط تسقط فوق رأسي" لديميترا نيكولوبولو، نرى موظفة من الأزمنة الحديثة، عزباء نشيطة تسكن وحدها... تأتيها قطة في شقة أشبه بالقفص... تلد القطة أربعة... تنزعج الموظفة العزباء... تلقي القطط مع الأوساخ... ثم تظهر القطة تطالب بأبنائها... تنطلق الموظفة في حملة لاسترداد القطط... وحينها تعيش أمومة في مسار مائل... تأتي والدتها وتوبخها لأن رجلا لن يأتي إليهامع وجود صغار القطط... في الفيلم نبرة من استلاب شارلي شابلن في رائعة "الأزمنة الحديثة". 
 تحفة المهرجان كانت فيلم "يمين يسار"  للمخرجين أرجريسجي رمانديس وستافروس رابتيس، رجل في شقة ضيقة، يزعجه الضجيج لدى جاره من جهة اليمين، يطرق بابه بأدب ليطلب بقليل من الهدوء ليتمكن من النوم. يصفق الجار في وجهه قبل أن ينهي الجملة الوحيدة في الفيلم. يعود الرجل إلى شقته، يستلقي لينام، ثم يأتيه الضجيج من جاره الشمالي، خاصة وأن الجدران في الشقق الحديثة رقيقة يعبرها الضجيج بكثافة... يطرق الرجل الباب، تخرج جارته، يكرر الجملة وتكرر سلوك الجار الأول، يعود الرجل لشقته فيجد الباب قد انغلق... يجلس في الممر الطويل... تعطف عليه جارته... تدخله وتعطيه كرسيا لينام عليه... لا يتبادلان كلمة واحدة... يبقيان على مسافة... جاران تفصلهما مسافة ضوئية... ينام الرجل... تستخدم الجارة الشمالية المكنة الكهربائية... لكن الرجل لايستقظ... واضخ أن الوحدة هي سبب أرقه لا الضجيج فيلم لغة سينمائية قوية، بصمت يمسك المتفرج... بعد نهاية الفيلم سألت المخرج:
-    لماذا يعبر الضجيج الجدران ولا يعبرها الحب؟
-    بسبب العجز عن التواصل.
طبعا، في ظل الاستلاب، نادرُ ذاك الذي يبذل جهدا لاحتراق العزلة والتواصل الفعلي مع الآخر... في الندوة الصحفية حظي فيلم "يمين يسار" بالجزء الأكبر من التعليقات والأسئلة... 

وكذلك كان الشأن بالنسبة للأفلام التركية، وقد جاء جلها من جنوب شرق البلاد... حيث يهيمن صمت وعزلة في فضاء خرب وقاس... يحكي فيلم "ثلج" لإرول مينتاس عن جدة تلتقطها الكاميرا في لقطة عامة وتبدو صغيرة في الخلاء المحيط بها، فقدت ابنها وتمشي في الحقول... تمشي، تبحث... في "أصوات" لفيليز إيسيك بولوت نلتقي بقرويين فقراء يسكنون ملجأ قرب سجن في ديار بكر عام 1980، أصوات سجن ينغص حياة القرويين... خلفية صوتية للحياة... لجرح تركيا "صقيع ديار بكر" حيث العزلة والتمرد وصعوبة العيش... لتصيور الطبيعة في الفيلم بعد وثائقي مع القطع بنظرات شخصية بئيسة تعطي الطبيعة بعدا دراميا...
حين ستلتقي هذه المهارات الفنية بعائدات نجاح مسلسلات مهند ونور ستتقدم السينما التركية... الجارة الجنوبية لتركيا متفوقة في المسلسلات أيضا، لكن للأسف لم أشاهد الفليم السوري "شوية وقت "لماهر صليبي. وبما أنه لا وقت لنرسوا في وطن زورقنا،  يبدو أن أحفاد الفينيقيين ليسوا بخير، بخلاف ما توحي به ابتسامات هيفاء ونانسي، عن "وشم بالعين" قالت مخرجته يمني عيتاني إنها ستقدم شخصياتها دون بؤس sans misérabilisme ... في الفيلم نتابع رحلة شاب بئيس تعرض لعنف مزدوج، يتنقل بين فضاءات خربة... نرى متاريس باب التبانة ووشم الرصاص على الجدارن... واضح أن المكان هو البطل في الفيلم... فيلم من ثلاثين دقيقة، كثير من اللقطات كان يمكن تقليصها دون أن تتقلص كمية المعلومات التي يقدمها السرد، وبذلك يتقلص الملل...
ماذا بعد لبنان؟ هذا هو ما ستتعلمونه مع فيلم "الدرس الأول" لعرين عمري، وهي ممثلة انتقلت للإخراج. تغادر وطنها لتستقر في باريس، ولكي تتواصل تلتحق بمؤسسة لتعلم الفرنسية، وفي الدرس الأول تسأل المدرسة المتعلمين من دول مختلفة عن البلدان التي جاؤوا منها، يصل دور بطلة الفيلم فتقول إنها جاءت من فلسطين، وتقوم إلى السبورة لتحدد على الخريطة موقع البلد... لكن متعلما يحتج ويسانده أمريكي لأن الموقع على الخريطة اسمه إسرائيل... يشتد الجدل في الفصل، وهنا تتعقد طبوغرافية المتوسط حين تخالف الخريطة اللغة في مسألة جوهرية: تحديد الوطن.
في مصر المشكل في السكن لا في الوطن، ففي "باب الخروج" ليوسف ناصر يريد شاب وشابة الاحتفال بذكرى حبهما في خلوة...
"أين يا مطار أثينا؟"
كما تساءل محمود درويش ذات قصيدة باسم اللاجئين.
واضح أن المخرج المصري مشغول بأزمة السكن، وهو يعكس محنة الشبان في بحثهم عن مكان للخلوة لممارسة الجنس قبل الزواج الذي يتأخر كثيرا... يتسللان لبيت أحد الأقارب وبعد خلوة بريئة يفقدان المفتاح... يريدون الخروج... كيف؟ بدأ الفيلم بفكرة وحيدة القرن وانتهى بها، لم يطور بذرة الحكي لتصير وردة... حتى الفيلم المصري الآخر ينتهي بتشريد شابة... ويعتبر ذلك أنه "الدنيا لما بتهذر"... فيلم لأسامة عشم صالح الذي أراد أن يحكي فبدأ يتفلسف... حين صعد المنصة لتقديم فيلمه، يشرح لنا طويلا... يبدو أن المخرج غير الواثق من فيلمه يحاول تبريره في التقديم.... وهو على أي أفضل من ليبيا التي لم تشارك لأن الأخ القائد صديق برسكوني لم ينتبه للسينما الإيطالية، وأنا واثق أن العقيد سيكون مخرجا جيدا، بدليل مهاراته الاستعراضية وكاستينغ حارساته وديكور خيمته وطرافة تنديداته وحواراته... لكن يبدو أن عدوى التنديد قد انتقلت إلى المخرج التونسي الشاب وليد مطر فجاء بفيلم "تنديد" عن جمهور يتابع في مقهى مقابلة في كرة القدم، حين تنتهي المباراة يعيشون مباراتهم الكلامية، جدل ومهاترة... صاحب المقهى يريد زبناء يدفعون ثمن ما يشربون... زبناء يتابعون حربا جديدة على قناة الجزيرة، ينددون بالعدوان الإسرائيلي بحماس، مع ارتفاع درجات التعبئة الذاتية يقررون تغيير اسم المقهى من "ألأولمبي" إلى مقهى "المقاومة"... ينددون بكل الأشياء إلا بالازبال التي تحيط بالمقهى، لا يرونها...
بني السيناريو على فكرة سياسية ساخرة، لمواطن يعيش انفصاما... يتعايش مع الأزبال عن قدميه... ولكنه مهووس بالتنديد...
و"هوس" لأمين شيبوب هو الفيلم التونسي الثاني، وفيه نتعرف على شاب يستأجر شقة حديثا، يعمل في مركز اتصالات، يبيع سلعا لزبناء لا يرى وجوههم، يتملقهم بمهارة تجلب له رضى مشغله... صار مدربا على النفاق... حين يرجع لشقته ينزع قناع الشمع الباسم من على وجهه ويغرق في عزلته... يفر من ضغط حياة المدن والاستلاب الذي يعيشه بتأمل زر أحمر عثر عليه تحت لوحة في الشقة... يفكر في الضغط على الزر ويعيش كل الاحتمالات... يفترض أن تنفجر قنبلة أو ينهمر عليه شلال من النقود ليواجه به متطلبات الحياة اليويمة... ومن فرط هوسه بالزر الأحمر العجيب جاءه صاحب الشقة يطلب سومة الكراء... فيلم صور عزلة الفرد واستلابه تحت ضغط سرعة إيقاع الحياة اليومية الذي يجرفه...
 ضغط يدفع بطل الفيلم الجزائري "العابر الأخير" للانتحار، فيلم مفكك عن شخص يشاهد صور نجمة في إعلانات معلقة على الجدران... يدخل صالة ويغني أمام كراسي فارغة...يقفز من جرف... يقع ميتا... في المناقشة، تدخل المخرج مؤنس خمار مطولا ليشرح لنا، إنه يعرف ما يريد، لكن ما حصل عليه بعد التصوير كان مشوشا... اكتشفت أن المخرج المتكلف يكون فيلمه كذلك، مخرج لا يدرك السياق الذي جاء منه. 
لا يحتاج المثقفون الجزائريون للانتحار، لديهم من يذبحهم من الوريد إلى الوريد، لذا صرخت آمال كاتب بفيلمها "لن نموت"، يبدأ بمكالمة هاتفية تضعنا في السياق من اللقطة الأولى، نعرف بعودة الصحفي من افغانستان، حيلة سردية قدمت الحيثيات بشكل موجز ومهدت لتصوير حبيبة الصحفي متوترة تنتظر... لتطفئ شوقها لحبيبها... ليبدأ الاحتفال لابد من شرب كأس يبث الحرارة في الدورة الدموية، لكن لا يوجد مفتاح للقارورة، يتسلل الصحفي بين شقق العمارة يبحث عن مفتاح... ما كان يُعثر عليه بسهولة في جزائر الاشتراكية صار نادرا في سنوات الحرب الأهلية... يمر الصحفي على جيرانه لنكتشف عمق جزائر أواسط التسعينات... ثم نرى العمارة من الخارج... ومعها يلتقط السرد أجواء الخوف باقتصاد... يدوي الرصاص...  أفكر في اغتيال المثقفين الجزائريين عبد القادر علولة والطاهر جاووت ويوسف سبتي... بدونهم، بقيت الحبيبة وحيدة والقارورة مغلقة...
 حتى الحدود المغربية الجزائرية مغلقة، لذا تذهب الطماطم المغربية إلى مرسيليا ثم تعود لوهران... لذا سيبحر زورقنا في المياه الدولية ليعود لنقطة الانطلاق: طنجة حيث عرض الفيلم المغربي الأول "ندوب" لمهدي الطاهري عن طبيب نفسي يستغل ضحاياه، فيلم عن شخصين في غرفة بحوار هزيل، مع أن التصوير في فضاءات مغلقة يقتضي حوارات قوية لماحة لتعوض محدودية ما يرى...
الممثلة كانت ممتازة في أدائها - لدور مريضة مزعومة - تطلب مشاعر متقلبة، قطعت قضيب الدكتور ووضعته في بلاستيك ورفعته إلى أعلى... لم يخطر الجمهور ببال المخرج حين كان يكتب... لقد بحث عن إحداث الدهشة فجنى التقزز.
صحيح أن حرية المبدع مقدسة، لكن هل يستطيع أن يتجاهل السياق السوسيولوجي الذي يتحرك فيه؟ 
نتيجة هذا التجاهل يعطي مخرجون متشوقون للشهرة الناطقين باسم التيار المحافظ في المجتمع المغربي فرصة للتسديد على السينما... مخرجون لا يرون أبعاد ما يفعلون.
الدليل؟
"حين شاهدت الفيلم في طنجة عرفت لماذا صورته"، هذا ما اقر به مهدي الطاهري لبرنامج صورة على القناة الثانية 16-10-2010.
 الفيلم المغربي الثاني كان الروح التائهة لجيهان البحار يحكي عن فنان يعاني أزمة إلهام، وبما انه رسام فقد جعلت المخرجة شخصيات لوحاته تتحاور لتكشف له أزمته، يجد راحته في قتل أبيه، لكن والده حي... يقرر ان يزوره ليجدد صلته بجذوره... هكذا وجدت الروح التائهة سبيلها... بفضل استخدام شخصيات اللوحات كرسوم متحركة، أخرجت البحار سؤال الإبداع من جمجمة الفنان وعرضته بصريا... الملاحظ أن الكثير من الأفلام المغربية تتناول هذا الموضوع. لماذا يجد الفنان المغربي صعوبة في ابتكار الجديد؟ يبدو أنها ازمة خيال. أزمة ثقافة، كثيرون ممن التقيتهم في مهرجان طنجة لا يطالعون حتى خمسة كتب في السنة. لذا فإن الافلام المغربية القصيرة، رغم جودة الصورة، لا تمنح إحساس العمق الدلالي الذي ميز الأفلام التركية واليونانية. 
 الفيلم الثالث "المنحوتة" ليونس الركاب، يبدأ بلقطات القبيلة الشرسة تطارد شابة حامل بسبب قصة حب مجهولة... تلجأ الشابة إلى بيت رسام معزول وسط الغابة... في لحظة المخاض تأتيها امرأة وتشرف على ولادتها... تكبر الطفلة... وتجد لدى الرسام منحوتة عزيزة... لقد قتلت الشابة بعد الولادة... صنع لها الرسام منحوتة يذكره بأيام حبه... يتلمسها مثل بجماليون مع حبيبته من الرخام... بينما يغرق الرسام في الذكريات تتولى المرأة التي أشرفت على الولادة تربية الطفلة... للتوضيح يستخدم يونس الركاب الفلاش باك ليفسر الحاضر بالماضي، تتقدم الأحداث، وفي اللحظة المناسبة تدرج لقطة فلاش باك لتفسر لتدفع الحدث، فلاش باك جيد رتق شرخ الزمن، يدفع الأحداث إلى الأمام بدل أن يكسر خطية السرد... هذا فيلم يحترم البنة السردية للقصة الموباسانية Maupassant، لا نكتشف الحقيقة إلا في السطر الأخير... وبذلك يبقى التشويق على أشده... كل فيلم يشبه كخرجه...
الفيلم الرابع "حياة قصيرة" لعادل الفاضلي عن حياة شخص منحوس مدتها 40 سنة في أكثر من عشرة أمكنة عبر فلاش باك في 16 دقيقة، تم استخدام راوي لرتق القفزات في الزمن... حين يسكت الراوي يرتفع الكثير من الصراخ... راوي لا يضيف بل يفسر ما نراه لأن الصور لا تفسر نفسها...
هذا مشوش، لكن الجانب التقني للفيلم قوي جدا... فالرواي يتحدث بنبر متميز، المؤثرات الصوتية متقنة... الإضاءة المتحركة وتصوير المطر وصدمة حادثة سير يظهر أن الفاضلي قد استهدف بالدرجة الأولى استعراض قدراته التقنية في الإخراج... ماذا لو حصل عادل الفاضلي على سيناريو عميق ووظف فيه مهاراته؟ 
 الفيلم الخامس "أبيض وأسود"، يطابق اسمه لونيه، عن سيدة أعمال تتعطل سيارتها في الطريق فيجرها بغل إلى كراج ميكانيكي لتصليحها. في اللقاء يتضح أن السيدة الثرية تحت ضغط الزمن لتصل إلى موعد مهم... بينما الميكانيكي لا يعد الزمن. إنه لقاء بين البرجوازية والبروليتارية المغربية، الأولى تعد الزمن بالدقائق والساعات، بينما الثانية تعد ب "النهار طويل". يتحرك الميكانيكي ببطء فتغريه المرأة بمضاعفة أجره...
في هذا اللقاء الكوميدي بين عالمين ومنظومتين قيميتين، تظهر التناقضات، فسيارة المدام رقمية، وزوجها يهدد بتطليقها إن لم تصل في الوقت... بينما الميكانيكي لم يدخل العصر الرقمي بعد، يعلن انه يخاف السيارات الإلكترونية... يطلب أخذ أجرته فقط، بينما المدام كانت تفتش حاجاته وتسرق ما يناسبها... نجح الميكانيكي في ترقيع سيارة كولف جديدة من قطع سيارة كولف قديمة... صفق الجمهور الذي تعاطف مع الميكانيكي....
جمهور كثير، فقد كانت قاعة سينما روكسي تمتلئ عن آخرها تحت وفوق عندما يعرض فيلم مغربي، كانت الأفلام القصيرة المغربية في موقع مشرف، لجيل جديد من المخرجين الشبان، سيتربون في المهنة.
 واضح أن الجمهور يتفاعل بقوة مع الأفلام التي تقدم قصة، بغض النظر عن موقع الكاميرا. القصة هي عماد أي فيلم يتحدى الملل، في كتاب "كيف تكون مخرجا عظيما؟" لكين دانسايجر  DANCYGER يتردد فعل حكى وسرد في كل صفحة تقريبا... والسرد هو متوالية أحداث متتابعة سببيا... حين لا يتمكن المخرج من هذه التقنية التي تضمن له سردا متماسكا واضحا يتطور، حين يشعر أن صوره مفككة، مهما كانت جماليتها، يلجأ إما لراوي ثرثار ليشرح لنا ما نراه، السرد الشفهي ليس لغة سينمائية... 
أو يلجأ للتجريب، ولأنه لم يضبط الوحدات الثلاث للسرد، وحدة الحدث والزمن والمكان، لب شعرية أرسطو، فإنه يسمي ما يفعله تجريبا من أول فيلم... التجريب بقواعد السرد أصعب من السرد الخطي... فكيف يجرب من لم يسيطر على السرد الخطي أولا؟
للتاريخ، لم يبدأ بابلو بيكاسو التكعيبية حتى أتقن الرسم على الطريقة الكلاسيكية... خطوة خطوة.
الملجأ الثالث للمخرج الذي لا يملك قصة يصورها هي تصوير الحدوثة، طبعا تملك الأحدوثة anecdote قوة وطرافة، سخرية وتأثير على المتفرج، لكونها محكومة بالصدفة والإيجاز الشديد - وهذه نقطة قوتها التي تسحر أي كاتب سيناريو يجد صعوبة في تأليف حبكة بنفسه – فإنه يصعب تطوير الأحدوثة سرديا لأن هذا التطوير ينزع عنها نقطة القوة حين تمطط وحين يجتهد الكاتب لشرح المقدمات المنطقية لتلك الصدفة... حين يفشل التطوير، تكون النتيجة هي سيناريو بفكرة وحيدة القرن، تعطي فيلم أشبه بنكتة تروى في ربع ساعة. شرح الأحدوثة أو النكتة يقتلها بدل ان يثمر بنية سردية سردية للفيلم القصير. وهذا خطر يتهدد كل سيناريست يستسلم للفكرة الأولى التي خطرت له، يكتبها، كما هي. أفضل فيلم جسد هذا الوضع هو "جدة قابلة للنفخ". (أنظر les formes brèves d’ALAIN MONTANDON p99).
 القصة القصيرة أصلح للسيناريو من الأحدوثة، بل القصة القصيرة أنسب كمنطلق حتى للفيلم الطويل، يقول آرثر سي كلارك، مؤلف القصة القصيرة "الحارس"، والتي حولها ستانلي كوبريك إلى فيلم "أوديسا الفضاء 2001"، يقول:
 "القصة القصيرة المؤلفة بإتقان ستكون مادة جيدة لفيلم روائي طويل، خصوصا أن الروايات الطويلة تفقد الكثير من مضمونها أغلب الأحيان عندما تقتبس لعمل سينمائي" سيرة كوبريك ص328.
هذا على الصعيد الجمالي، أما على صعيد التيمات، فقد رأيت القلق في الأفلام من خلال عشرة مشانق تنصب وأكثر من 40 سيجارة تشعل والكثير من المزابل والبول على الجدران... مدن وسخة... فضاءات تنذر بالخطر... عنف لفظي سخرية متبادلة...جدران رقيقة يعبرها الضجيج بسهولة، لكن لا يجتازها الحب... عزلة رهيبة  للرجال والنساء في أفلام شمال المتوسط، في الجنوب المتوسط توجد جماعات بشرية شابة، لكن ليس هناك تواصل... الفردانية تطغى والاستلاب يتقدم... 
يتضح أنه إذا كانت الطبوغرافية التي تقدمها وسائل الإعلام للمتوسط تقتصر على زورق يترنح وبرقع يتوسع ويمين يتقوى فإن الطبوغرافية السينمائية، التي يقدمها المخرجون الشبان أعمق وأشمل. 

محمد بنعزيز