الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  السينما العالمية    
«ميدياس» لأندريا بالاورو.. إيقاع الجفاف

  لقطة من فيلم «ميدياس»   

يروي فيلم «ميدياس» (إنتاج أميركي إيطالي مكسيكي مشترك، 2013) لأندريا بالاورو (مواليد العام 1982)، الفائز بجائزة الإخراج في الدورة الـ13 (29 تشرين الثاني ـ 7 كانون الأول 2013) لـ«المهرجان الدولي للفيلم بمراكش»، حكاية أسرة فلاحية مؤلّفة من الوالد إينيس الملتزم مسيحياً، والعامل في مزرعته، والمتسلّط والدؤوب، وكريستينا الخرساء الصمّاء، والدة 5 أطفال. تظهر العائلة في البداية سعيدة. لكنها تفقد سعادتها لاحقاً، شاهرة تمزّقاتها الأسرية بسبب الجفاف، وعدم هطول المطر. تخون كريستينا زوجها. تقع العائلة كلّها تحت تأثير الجفاف العاطفي، والبيئوي، والاجتماعي. هناك ملاحظة حول المنشأ البيولوجي للأطفال: 4 منهم ذوو بشرة بيضاء وملامح أوروبية، والإبن الأكبر ذو ملامح آسيوية وشعر أسود. يسود جفاف الطبيعة على شخصيات الفيلم، موجّهاً عوالمها نحو الخيانة الزوجية، والمشاجرة، والتسلّط الأبوي.
عندما يسقط المطر في نهاية الفيلم، تمشي كريستينا تحته بين الحقول متّجهة إلى أمام. المطر وكريستينا الصماء البكماء والخائنة (انتباه رائع في السيناريو، حيث كريستينا تحديداً تحت المطر وليس الأب أو أحد أبنائه مثلاً)، يقدّمان تأويلات كثيرة تزيد الفيلم مرونة في التقصّي والاختلاف. يتعلّق الأمر بمفاهيم الحتمية والحداثة، الإنسان ومصدر التغيير: هل التغيير نتيجة تبعية الإنسان للطبيعة والمجتمع ؟ أو هو سعيّ واستعداد وقدرة، تتصل بالمحيط وتخضع له، أي أن التغيير سيرورة وعلاقة؟ هنا، علاقة وجود، تداول ومعايشة، فعل وردّ فعل. لا توجد نتيجة حتمية مُقدرة. الحداثة عكس الحتمية والتقدير. يشتغل الفيلم على رموز كثيرة: تضمحل السعادة بسبب الجفاف، بينما المطر يُعرّي تناقضات العائلة، وهشاشة تماسكها. كريستينا (كاتالينا ساندينو مورينو) تخون زوجها إينيس (بريان ف. أوبيرن)، المتعصّب دينياً، مع عامل محطة البنزين. الزوج يبدأ الصلاة عند كل وجبة طعام، ويزور المقبرة. مشاهد عاطفية قاسية: يترك الأب كلب أحد أبنائه ضالاً، ويجبر ابنته المراهقة على مسح مكياج وجهها. بالإضافة إلى مشهد مُحيِّر يُشبه اللغز: عندما يريد ممارسة الجنس مع زوجته، وهي ترفض ذلك، يقول لها: أنا زوجك. يقود هذا المشهد إلى سرّ العلاقة بينهما، مُفسّراً سبب كون الإبن البكر ذي أصول آسيوية.
ليس معقولاً أن تقوم زوجة صماء وبكماء بتربية أسرة كبيرة الحجم، ثم تخون زوجها من دون أسباب مبرّرة. الجفاف أحد مرادفات الصمم والخرس، أي وجود غير طبيعي من ناحية البيئة والتأهيل البشري. رمزية الرتابة هي الأخرى عامل مهم في الفيلم، درامياً وفنياً. أولاً، هناك الإيقاع البطيء للأب، الذي أجاد الممثل تصويره في حركته اليومية، وملابسه، وتعابير جسده، وعلاقته بأبقار مزرعته. انقلب إيقاعه الرتيب عندما حلق لحيته طمعاً بتغيير حياته وأسرته. يزور مع أبنائه ـ من دون زوجته ـ أباه المريض. تتفق الرتابة مع إيقاع الريف المُملّ، حيث لا توجد مراكز ترفيه، ولا تغييرات جذرية مستمرة. تواطأت الكاميرا مع الإيقاع الرتيب في تصوير الواقع الحياتي للعائلة، مُركِّزة على أدق التفاصيل التي تصوّر رجلاً ريفياً: أصابع يديه الملوّثة بالروث والتراب، وحذاء المزارع المتين، تفاصيل وجهه الصارمة عندما يشتدّ الجفاف، ومنظر الرضيع يتقلّب في فراشه.
فيلم «ميدياس» خير تعبير عن السينما الواعية رموزها درامياً وتقنياً. سيناريو متقشّف بالحوار، (اشترك المخرج بكتابته مع أورلاندو تيرادو)، ومساحة واسعة للرموز التي تقول دلالاتها، وحركة الكاميرا، والإضاءة، والموسيقى. وعلى الرغم من الإيقاع الرتيب في الريف وندرة الحوار، لم يقع الفيلم في الجمود والملل. كل شيء فيه محسوب بدقّة درامية وفنية. المطر هو السبب والمنقذ معاً من دون سواه. ماذا ستكون نتيجة الفيلم وما ستوؤل إليه رموزه لو جاء التغيير من طرف شيء آخر غير المطر، نقيض الجفاف؟

علي البزّاز