الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  خبايا الصورة السينمائية    
فيلم الكلمات،احتفاء بالكتابة وأخلاقياتها في زمن سينما الاستهلاك

  سليمان الحقيوي   

 أن نجد بين ما تُنتجه السينما اليوم فيلما عن الكتابة أمر جميل، ليس لأن الفكرة غريبة، بل لأن الأمر صار نادر الحصول، بحكم عدول صناع السينما إلى الفيلم التجاري وإغراءاته، فوسط فترة يمكننا وصفها بالأغنى تقنيا وفنيا يأتي فيلم الكلمات ليلقي كثيرا من الضوء على حياة الكاتب بلذاتها ومعاناتها، ويعالج أهم ما في الكتابة وهو أخلاقياتها.
    لم أنتظر شخصيا _في هذه الفترة على الأقل_أن أشاهد فيلما يدور موضوعه عن الكتابة، لسببين الأول منهما كون الفكرة قد توارت مع سنوات الثمانينات والتسعينيات، والثاني_وهو أهم من الأول_ أن هذا الموضوع قد يبدو بمنطق السوق نشازا إذا استحضرنا ما يروج اليوم داخل قاعات السينما من أعمال سينمائية تخاطب جمهورا لا تستهويه الكتابة أكثر مما يُشاهده في أفلام أخرى. لكن فيلم الكلمات بعد عرضه، ترك انطباعا قويا لدى الجهور، بل نافس أفلاما ضخمة زامنت وقت نزوله إلى دور العرض.
    تبدأ قصة الفيلم بمشهد للكاتب "كليتون هاموند/دنيس كويد"، وهو يقرأ على الجمهور فقرات من روايته " الكلمات"، التي تدور أحداثها عن قصة كاتب شاب "روري جانسون/برادلي كوبر"، يريد اقتحام عالم الكتابة بإلحاح كبير، ورغم تفرغه التام لها فالظروف تعاكسه، وتظهر صديقته دورا/ زوي سالدانا" في دور الداعم والمشجع، وبعد أن قررا الزواج وقضاء شهر العسل بمدينة باريس تهديه هناك حقيبة اشترتها من محل لبيع القطع القديمة، وعندما عادا إلى نيويورك سيعثر صدفة على مخطوط لرواية داخل هذه المحفظة،  فيقرأها ويعجب بها كثيرا، ثم يرقنها على حاسوبه و يقرر طبعها بإلحاح من زوجته التي اعتقدت أن الرواية من إبداعه. يعرض روري روايته المنحولة على الناشر "جوزيف كتلر/زيليكو إيفانيك" فينشرها بعنوان "دموع النافذة"بعد أن أبهره أسلوبها، فتتحول هذه الرواية إلى حديث الناس وتعتلي قائمة المبيعات في الولايات المتحدة وينال عنها روري جائزة السنة في الرواية.
      يتوقف الكاتب كليتون هاموند عن الحكي، ويذهب الجمهور لفترة استراحة، فيتعرف على كاتبة شابة "دانييل/أوليفيا وايلد"، وبعد نقاش قصير يحددان فيه موعد مقابلة، يعود لقراءة مقطع آخر من رواية " الكلمات"، فنعرف بعد تشويق كبير لقاء روري بـــ"رجل عجوز/جيرمي أيرونز"، تصيد لقاء روري ليخبره بأنه صاحب الرواية التي نشرها ونال عنه كل هذه الشهرة، فنتعرف على لسان هذا العجوز على قصة ثالثة تحكي فترة شبابه عندما قدم إلى فرنسا قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وهناك سيتعرف على شابة جميلة "سلينا/نورا أرنيزيدر" ويرزق منها بطفلة تموت بعد ولادتها، فيمران بفترة متأزمة ماديا تجعل الزوجة تعود إلى بيت أسرتها في ضواحي باريس، فيحرك الحزن والفقر مشاعر الزوج ليتفرغ في أسبوع كامل لكتابة روايته التي سيرسلها إلى زوجته لكي تعود إليه، تعجب سيلينا كثيرا بالرواية وتحزم حقائبها وتعود إلى زوجها، لكنها ستنسى على متن القطار الحقيبة الأهم التي تحتوى مخطوط الرواية، فيجن جنون الزوج ويهجر زوجته. كان روري يستمع إلى قصة العجوز بحزن شديد فعرض عليه أن يصلح الخطأ ويعترف للناس بصاحب الرواية الحقيقي، لكن العجوز سيرفض فيزيد ذلك من حزن روري الذي سيعترف لزوجته بالحقيقة، فتنقلب حياته رأسا على عقب، وفي سياق هذا التداخل السردي يعترف الكاتب كليتون هاموند لدنييل أن روري سيعترف لزوجته وستهجره وسيعيش حياة قاسية وتأنيب ضمير، إلى أن يتمكن من تأليف كتاب "الكلمات" يحكي فيه حقيقة ما حدث لنكتشف أن روري هو شخصية عبر بها كليتون عن نفسه في سيرته الذاتية "الكلمات".
نلاحظ بعد هذا مشاهدة الفيلم أن هناك ترابطا حكائيا أو كما يسميه تودوروف الأدب الإسنادي الذي يهتم بعلاقات التضمين والترابط في السرد بين القصص المتوالدة عن الحكاية الإطار أو الحكاية الأم ،  فهناك بنية كبرى  هي حكاية الكاتب كليتون هاموند، (وما يتعلق بها من علاقته بالكاتبة الشابة دانييل)، وهي حكاية تؤطر حكاية روري الكاتب الذي نشر نصا ليس له، ثم هناك حكاية أخرى هي حكاية الرجل العجوز صاحب الرواية الأصلي.
    إن هذا الاختيار السردي لم يكن موفقا في عرض القصة، إذا استحضرنا الطرق السردية التقليدية، وقدرتها التعبيرية، إضافة إلى أن المخرج كان يستخدم داخل كل حكاية تقنية الاسترجاع/الفلاش باك، فظل المعنى منزلقا في فترات مهمة من الفيلم، وأبانت هذه الطريقة عن عدم تحكم المخرج في إيقاع الفيلم بشكل كاف، ربما لقصر تجربة المخرج والكاتب الأمريكي "برايان كلوغمان" إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا الفيلم هو العمل الأول له كمخرج. وباستثناء هذا الجانب المقلق، فقد كانت العناصر الفيلمية الأخرى قوية، فنسجل دقة تعبير المخرج وطاقم عمله على فضاءات الحكي المتنوعة والتقل عبرها بسلاسة كبيرة، رغم اختلاف الحقب الزمنية وتداخلها، ومواءمة التفريع الحكائي بآخر فضائي مناسب، فقد عبر العمل على كل حكايات الفيلم تعبيرا مناسبة من حيث الأمكنة والديكور، والألوان.  وما يؤكد عشق هذه المخرج لأسلوب الإيحاء هو تضمينه لقصة أخرى هي قصة الكاتب الأمريكي المشهور "أرنست همنغواي"، وهي تطابق قصة العجوز الذي فقدت زوجته سيلينا روايته على متن القطار، وهي نفس قصة همنغواي الذي فقدت زوجته كثيرا مما كتب بنفس الطريقة تقريبا، والمخرج لم يعبر عن ذلك بشكل مباشر ولكنه ترك الأمر أمامنا لاكتشافه، مع أنه أشار داخل الفيلم إلى زيارة روري وزوجته لمنزل همنغواي بباريس وهو أمر يحسب للمخرج.
     على مستوى الأداء  فيظهر حسن اختيار المخرج لممثليه وعلى رأسهم الممثل "برادلي كوبر"، فمن جهة أولى فهو ممثل مشهور وأكبر من فيلم بميزانية ستة ملاين دولار، وهذا أمر انعكس إيجابا على العمل لأن للممثل شعبية كبيرة ضمن الجاذبية للعمل، كما أن دور الكاتب مألوف لديه حيث سبق له وأن أدى دورا مشابها في فيلم "ليميتليس"، أما الممثلة زوي سالدانا فلم تقدم ذلك الآداء الملفت، أو أن السيناريو لم يوفر لها المساحة اللازمة حيث اعتمد الكاتبان "برايان كولغمان" و " لي ستيرنتال" بتعالق الحكايات أكثر من التفصيلات الحوارية والمتعلقة بظهور الشخصيات داخل الفضاء الحكائي، والأمر الذي يثير الإعجاب حقا هو اعتماد هذا الفيلم على نجوم كبار رغم هذه ميزانيته الصغيرة جدا.

سليمان الحقيوي