مما لا شك فيه أن السينما ظاهرة فنية و اجتماعية في آن واحد ، فالفن يعبر عن المجتمع و قد يؤثر فيه أيضا ، و إن أكثر الفنون ارتباطا بالواقع و المجتمع السينما ، إذ تجسد السينما العالمية حيوات شخوص خيالية لها امتداد في الواقع الذي نبع منه المخرج أو المؤلف أو كلاهما .و لهذا السبب انتسبت السينما إلى المجتمعات النابعة منها ، فيقال السينما الإيطالية أو المصرية و المغربية و السورية والجزائرية أو البرازيلية و الأرجنتينية أوالتركية ، مع أن جميع هذه الدول لم تساهم في تطوير أو اختراع الأجهزة التقنية من تصوير أو التقاط الصوت أو غيرها مما يحتاجه صناع السينما .
و مع هذا لا مناص من التفريق بين أنواع السينما حسب انتماء أصحابها ، مما يفسر حيرة النقاد في تصنيف أفلام بعض السينمائيين المغتربين ، منهم الجزائريون و المغاربة وغيرهم من الجنسيات العربية أو الإفريقية .
و يظل السينمائيون مرتبطين بمجتمعهم في منفاهم، يحاولون كلما سمحت لهم الظروف التواصل معه عبر الصورة و الخيال الروائي ، فالفن لا يحيا إلا في ظل الحرية ، و كلما ابتعد الإنسان عن وطنه كلما تمكن من رؤيته بنظرة مخالفة من تلك التي كان يراه بها حين كان يعيش في كنفه ، كما أن الأزمة التي تعيشها السينما ليست مقتصرة على بلد مثل الجزائر دون غيره من البلدان ، بل إن الأزمة تعيشها الكثير من البلدان الأوروبية ، و بخاصة ممن كان لهم باع كبير في السينما العالمية منذ بدايتها ، و إن سينما عالمية مثل السينما الإيطالية أصبح مخرجوها يشتكون من هجران المشاهدين لقاعات السينما مما أثر سلبا على نسبة ارتياد القاعات في هذا البلد .
إن هذه الظاهرة لم تسلم منها معظم الدول الغربية الرائدة في المجال السينمائي ، و ذلك لكون السينما تجارة قبل أن تكون فنا ، أي أن توزيع الأفلام يشكل شريان الصناعة السينماتوغرافية ، فإذا أصيب بخلل ستتأثر مجالات الحياة السينمائية.
السينما في حقيقتها عرض فيلم ( شريط ) خيالي على المشاهد في قاعة سينما ، و بهذا يصبح الفيلم أحد أجزاء الواقعة السينمائية ، أما إذا فصلنا الفيلم عن المشاهد و القاعة المخصصة للعرض فإنه سيغدو فيلما منفصلا عن الواقعة السينمائية ، سيصبح حينئذ رواية مصورة يحتويها الفيلم .
كما أن العرض المسرحي لن يأخذ أهميته إلا إذا عرض في قاعة أمام جمهور ، فإذا غاب الجمهور انتفى العرض ،و تكمن الخصوصية المسرحية في تلقي المتفرج و اندماجه مع العرض المسرحي في فضاء مكاني و زماني محدد ، أما إذا صورت المسرحية بتقنية اللغة السينمائية أي بعين عدسة الكاميرا بتقسيماتها المشهدية فستتحول المسرحية إلى واقعة تمثيلية تلفزيونية ، و هذا يعني أن نظام الاتصال هو المتحكم و المحدد لطبيعة العروض .
إذا كانت المسرحية تعرض في قاعة المسرح و الفيلم السينمائي في قاعة سينما بحضور المتفرجين ، فإن العرض التلفزيوني لا يشترط مشاهدا محسوسا بل افتراضيا ، لذا يصبح نظام الاتصال في المسرح هو الذي يمنح التميز المسرحي ، و نظام الاتصال في السينما يمثل ميزة العرض السينمائي ، و يتحول التلفزيون إلى نظام اتصال يضم كافة الأنظمة ، إذ يغدو العرض المسرحي تمثيلية مصورة ، و يتحول الفيلم السينمائي حين يعرض على شاشة التلفزيون إلى مجرد فيلم تلفزيوني ، و ذلك لتشابه اللغة السينمائية بين الفيلم السينمائي و التلفزيوني ، و اختلاف نظام العرض ، من قاعة متخصصة لعرض الأفلام إلى بث عن طريق شاشة التلفزيون .
و هذا النظام الجديد للبث و الاتصال له إيجابيات عديدة ، من أهمها تخليد الأعمال المسرحية و السينمائية ، و الحفاظ عليها من الضياع .
إن القنوات التلفزيونية تقوم بخدمات جليلة لكبار المخرجين المسرحيين و السينمائيين، فلا تخلو قناة من فضاء فيلمي ، كما تعرض أقدم المسرحيات و أحدثها ، فلا نفاجأ أبدا إذا عرضت علينا أفلام شارلي شابلن الصامتة و قد مر عليها قرن من الزمن ، بينما لو عرضت على قاعات السينما لا يلتفت إليها المشاهد لأنه يسير مع موضة الأفلام الجديدة حتى و إن كانت قيمتها وضيعة فنيا ، فالعرض السينمائي يقوم أساسا على مبدإ تجاري خالص ، إذ تعرض الأفلام في قاعات السينما لمدة قد تتجاوز الأسابيع ، مما يمكن المنتجين من الحصول على أموال ضخمة ناتجة عن نسب دخول قاعات السينما ، و بعد مضي فترة من الزمن يتحول الفيلم إلى مجرد عنوان في تاريخ السينما ، و لولا ما تقوم به بعض نوادي السينما أو معاهد السينما أو السينماتيك أو ما تقوم به القنوات التلفزيونية لما أعيد أي بث أي فيلم سينمائي قديم .
و هكذا يتعرف المشاهد التلفزيوني على أشهر أعمال المسرحيين و السينمائيين في تاريخ الفن الحديث أمثال أورسن ولس و جون فورد و فيدريكو فيليني و فيتوريو دوسيكاو فرنسوا تريفو و صلاح أبو سيف و يوسف شاهين و محمد لخضر حاميناو غيرهم كثير .
و يتبدى العرض التلفزيوني كنظام يختلف عن باقي الأنظمة الأخرى ، بحيث يستوعب ماضي العروض و حديثها ، سواء الأعمال الدرامية المسرحية أو السينمائية و كذلك التلفزيونية من أفلام تلفزيونية أو مسلسلات .
بعد مرور أكثر من قرن من الزمن ، و تمكن معظم الدول العربية من التقنيات السمعية البصرية ، بات من الضروري وجود مختصين و نقاد في هذه المجالات من الفنون للتقييم تارة و التقويم تارة أخرى ، سواء الإنتاج المحلي أو العربي الإقليمي أو الإنتاج الأجنبي الذي اجتاح الأسواق و البيوت .
.
و يبدو جليا للمشاهد أن معظم الأعمال السينمائية يعاد بثها عبر شاشات التلفزيون ، و بهذا يتحول الفيلم السينمائي إلى فيلم تلفزيوني نظرا لطبيعة العرض ، و قد يبدو هذا هينا لا قيمة له ، إلا أن اختلاف النظامين له أثاره السلبية على المشاهد ، و بخاصة الشباب و القاصرين منهم ، و هذه القضية أثارت نقاشا حادا في الأوساط الثقافية و السياسية في الغرب منذ الثمانينات من القرن الماضي ، و لكن يبدو أن الإعلاميين العرب لا يتابعون القضايا الشائكة و لا يلقون لها بالا ، و يكتفون في معظم الأحيان بالتحليلات السياسية الأقرب إلى الجدال منها إلى التحليل العلمي الموضوعي .
تطرح القضية على الدول العربية قاطبة ماعدا مصر التي تزاوج بين التجارة السينمائية و الفن السينمائي ، حيث تمتلك من القاعات السينمائية و الإنتاج الفيلمي السنوي ما يشجع على بقاء الحركة السينمائية مدة غير قصيرة .
أما إذا تتبعنا الحركة السينمائية في الدول العربية الأخرى مثل لبنان و تونس و المغرب و الكويت و الجزائر ، فإنها تعيش نفس الحالة من تراجع التجارة و الصناعة السينمائية فيها بالرغم من المجهودات الجبارة من طرف المشتغلين في الحقل السينمائي فيها .
إذا رجعنا إلى الجزائر ، فإن الأزمة فيها ترجع إلى مرحلة الاستقلال ، إذ كان عدد قاعات السينما 35 مم ما يقارب 330 قاعة سنة 1962 ، أما في سنة 1980 فقد أحصيت 300 قاعة إي بتناقص ملحوظ ، أما اليوم فلم يبق منها إلا العدد القليل .
و بالرغم من انتعاش السينما الجزائرية إلا أنه كان مستحيلا إنشاء حركة سينمائية تعتمد على التجارة و الصناعة بدون الاستعانة بالإنتاج الغربي و المصري و الهندي من الأفلام السينمائية ، فبإنتاج لا يتجاوز عشرة أفلام طويلة في السنة يستحيل تغطية عروض القاعات السينمائية عبر الولايات الشمالية و الجنوبية التي تتطلب ما يقارب 400 عنوان سنويا .
إذن يصبح التفكير في إحياء التجارة السينماتوغرافية في الجزائر صعبا، بالرغم من المجهودات القيمة لاستعادة قاعات السينما في المدن الكبيرة و ترميمها و إعادة تشغيلها ، غير أن المشاهد الجزائري قد مر بمرحلة طويلة جعلته يبتعد أكثر عن العروض السينمائية في القاعات ، و اعتاد على المشاهدة السهلة و المريحة ، مع تطور تكنولوجي رهيب حول تقنيات الصورة التلفزيونية ، بأحجام تصل إلى حجم الشاشة الحائطية السينمائية و ذات الأبعاد الثلاثة .
و هذا يفسر ربما ما ذهب إليه المخرج التونسي فريد بوغدير في مقال له بأنه لا وجود لسينما عربية إلا عند المغتربين من المخرجين ، الذين يجدون في الدول الغربية المستقبلة الجو المناسب المساعد على الإبداع و كثرة الإنتاج ، و قد ذكر من لبنان برهان علوية و مارون بغدادي و جوسلين صعب و رندا شهال ممن يعيشون في باريس ، و من الجزائر مرزاق علواش و براهيم تسكي في باريس أيضا ، ثم مومن السميحي و أحمد المعنوني من المغرب ، و ناصر خمير و الطيب لوحيشي و فيتوري بلهيبة من تونس و هم يعيشون في بروكسل أما محمود بن محمود و ناجية بن مبروك ممن يعيشون في لندن و كذلك الفلسطيني ميشال خليفي ، أما السوريان نبيل المالح و قيس الزبيدي فقد لجآ إلى فرنكفورت بألمانيا .فإذا كانت البيروقراطية و انعدام حرية التعبير هما السبب الظاهري في هجرة المخرجين العرب بعيدا عن ديارهم ، فإن أزمة تسيير النظام التجاري السينمائي هو السبب الحقيقي في هجرتهم .
و لكن القضية يجب أن تطرح بعمق ، و علينا أن نطرح السؤال عل أنفسنا :
هل بات ضروريا وجود صناعة و تجارة سينماتوغرافية في كل بلد من البلدان العربية ؟
ألا يجب البحث عن بديل للسينما كعرض جماهيري ؟
و يبقى الفيلم هو العامل المشترك بين الوسيلتين ، فإذا عرض في القاعات انتسب إلى السينما أما إذا عرض في شاشات التلفزيون فيتحول إلى عرض تلفزيوني .
و الفيلم لا يعدو أن يكون جزءا بسيطا من السينما أو من العرض التلفزيوني ،و هنا تكمن أهميته بالنسبة للعاملين في الحقل السينمائي من تقنيين و فنانين ، فالمنتوج النهائي عمل فني قابل للعرض سواء في السينما أو في التلفزيون ، ففي سنة 1972 أنتج التلفزيون فيلم نوة من إخراج عبد العزيز طولبي ، عرض بداية الأمر في التلفزيون ثم تحول إلى قاعات السينما نظرا لأهميته التاريخية و الفنية ، و قد تمكن لخضر حامينا من إخراج فيلمه ّ "عاصفة الرمال " ّبإنتاج التلفزيون الجزائري ، و لم يمنع الفيلم من الذيوع و الاشتهار .
و هكذا قد يجد العاملون في الحقل السينمائي متنفسا في الأعمال التلفزيونية ، و بخاصة الأفلام الروائية الطويلة دون المسلسلات الدرامية لأنها تشكل ظاهرة أخرى قد تختلف عن الفيلم الطويل .
و عكس مما يشاع من أن السينما و التلفزيون و المسرح عروض تلغي بعضها بعضا ، فإنها تشكل تنوعا لدى المشاهدين ، و لكل خصوصيته .
" هناك تكامل بين السينما و التلفزيون و المسرح و لا أحد منهم قد يلغي الآخر ...بل هي في تفاعلها و احتكاكها تساعد كلا منها على التمايز و التميز عن طريق إبراز خصائصها الذاتية و قدراتها الكامنة ".