الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  السينما المغربية    
السينما المغربية مرة أخرى... المعالم والأعطاب

  د.عبد الرحيم الإدريسي   

تتعدد قراءات وضع السينما بالمغرب وتتعدد معها إمكانات التحليل لأجل الكشف عن الأسئلة التي راكمتها الأعمال والتجارب التي استفادت في العقد الأخير من التحولات والإصلاحات التي عرفها المغرب في مجالات متعددة*. لكن تأمل وضع السينما بالمغرب يحتاج اليوم ، أكثر من أي وقت، مضى إلى أن يكون مطلبا فكريا يؤسس لمقاربة شمولية لتسمية هذه السينما في زمننا اليوم كحالات محدودة تبدع لغتها السينمائية وفاعليتها البصرية الفيلمية والجمالية وقدرتها السياقية على الإمتاع من جهة، وكواقع محفوف بالمآزق المعرفية والأعطاب الجمالية والعوائق المادية والاجتماعية من جهة ثانية. وقد لا يكفي الإعلان عن مشروع"السينما الوطنية" فحسب، عن طريق دعمها وتقنين علاقتها بكل المكونات والوقائع المحيطة بها والمتداعية عليها بقدر ما يقتضي الأمر موقفا نقديا شموليا يتساند فيه التنظير والممارسة، ويضع إنجازه في المجال الثقافي الحيوي المشترك كمدخل معرفي يقربنا من فهم علاقتنا بهذه السينما كلما تصدينا لتحليل عمل فيلمي معين.
   لذلك يبقى واقع السينما بالمغرب موضع تساؤل على الرغم من أن ما ينجز إلى اليوم وإلى حدود الدورة الخامسة عشرة للمهرجان الوطني للفيلم، لا يسوغ تغيير الأسئلة لمستويات تأملها. هل تخطط السينما بالمغرب لاكتساب راهنيتها من خلال صيرورة تحققاتها الفيلمية. وهل هذا التحقق حاصل، فعلا، في الإنجاز الفيلمي؟ أم في صور المخرجين أم في المتابعة النقدية والإعلامية. إن السؤال السينمائي بالمغرب ينبغي أن يحيا مع "حركية" وضع السينما، لا يجامله بقراءة معممة وبسيطة، تختزل الفعل السينمائي في نمطية مكرورة تحتفي بالأجوبة بدل استشكال حال إبداع الصورة السينمائية عندنا. ولا يفارقه بتشخيص يتعالى عن شروطه ويصد مغامرات سينمائية تحاول أن تستشرف معضلات المجتمع وأحواله، فيفضي ذلك إلى اصطدام هذا التشخيص بممكنات العمل الفيلمي، وتتوتر الصلة بالثقافة السينمائية أو تخمل، ونغدو مع  التوجهين معا محاصرين للسؤال النقدي وهو يتأهب لتوسيع دائرة الإشكال من خلال تدبير حدود معرفية قابلة للتحليل والتقويم.
لاشك أن الصورة السينمائية تشغل حيزا مهما في زمننا المعاصر، كتكثيف حقيقي لنمط جديد من المعرفة الصورية، ينحو بشكل كبير لإعادة بناء الحقائق ضمن تمثيل رمزي مُشاع بقوة، وهو تمثيل موجه بغرض تسويق الصور المبهرة لذاتها، وخلق اكتفاء كامل بها لدى متلقيها. فيُصبح كل شيء مُدركاً من خلال الصورة التي تمثله، مُكتفية بقدرتها الهائلة على التلاعب والإبهار، ومُحتكرة الواقع وموظفة له حسب موقع تعبيرها عنه. ومن ثم فهي تتوسط علاقتنا به، وعلاقتنا ببعض وبالأشياء والأفكار التي تُسوقها، وتستولي عليها، مشوشة على أي تمييز قد نحاوله لمعرفة الأصل من المحاكاة، وخالقة اغترابا دائما عن الحقائق، محققة  شرعيتها من كونها ممتعه، وكافية، ومصنوعة باحترافية مقنعة. فالصورة السينمائية ليست استنساخا حرفيا لواقع مرئي محدد، بل هي كشف له وبناء جمالي لسياقه. فما يأتي إلى العين هو " نظرة تنظر" إلى الأفعال و الأشياء لا الأفعال والأشياء ذاتها، لأننا من خلالها " نرى ثقافة  تلك العيون وقصدياتها. بذلك لا يكون ما نراه في عمل سينمائي ما صورا محبوكة فيلميا فقط، بل طاقة لامرئية وقوة تعبيرية خالقة للآثار الدلالية والجمالية في الفيلم و قدرة موحية تمعن في فرض سياقها القيمي على المشاهد الذي يتسم تشبعه البصري والسينمائي، في الغالب، بالعشوائية والنقص في الفاعلية المعرفية والجمالية.
إن مصدر قوة السينما يكمن في أنها "كون" ذو تشكل مزدوج، مرئي ولا مرئي، مفتوح على اللغات قاطبة، وأن احتلال الصورة السينمائية للطاقة البصرية مهّدت لاختراق المتخيل العام و والقيم الدينية  والثقافية، وصولاً إلى هيمنة رسائلها المخبوءة على الوعي، ما جعل لها مهمة سرّية تنفذ من البصر إلى البصيرة.. وتتخطى المجال التداولي للمجتمع، حتى أصبحت مضخّة معرفية وقيمية مكتظّة بالأيقونات والدلالات والإيحاءات الموجهة لفعل الرؤية.
   وبما أننا محاطون بهيمنة شاملة للصورة السينمائية، يتكثر حضورها في سياق حركية سينمائية واضحة على المستوى الوطني، فإن سينمانا صارت حريصة على استكمال إنجازها الذي يعرف، إلى اليوم، تطورا واتساعا مهمين أثبتا أن للسينمائيين المغاربة قدرة خلاقة على إبداع الصورة والإسهام من خلاله في بناء ثقافة سينمائية مغربية تنهل من هويتها الوطنية وقيمها الرحبة. لقد أضحت السينما المغربية تعيش في العشر سنوات الأخيرة مجموعة من التحولات نتيجة تظافر عوامل مرتبطة، أولا، بالتطور الحاصل في كم الإنتاج المدعوم من دولة "تخطط" لمشروع  سياسة سينمائية وتنتظر أن يلتقط إشاراتها الفيلمُ المغربي ، وثانيا، بتنوع الفضاءات المعيشة للمخرجين المغاربة واختلاف تكويناتهم ، حيث يفترض أن يمكنهم كل ذلك من ابتداع أساليب ورؤى مختلفة في الكتابة السينمائية، ترتبط بأسئلة قوية تتشكل من جديد وتبدل أماكن تأملها لتتناسب وحيوية المجتمع وتجسدَ حساسية مغربية على مستويي رؤية الإنجاز وتخييله الفيلمي.
  إن كل إمكانية تعبيرية في الإبداع السينمائي تعكس قدرا من الدلالية بحسب قدرات المبدع و المتلقي ووسع تأمله وقدرة تذوقه، وهذا يعني أن الاختيار الجمالي الذي نقصده هنا، ليس من قبيل النظر الخالص أو التأويل الحر اللذين لا يملكان حدودا تضبطهما، بل هو دعوة إلى بحث وإدراك تكوين دلالية الإنجاز الفيلمي بوصفه تكوينا مرئيا ولا مرئيا، مجازيا كامنا ومضمرا، وترتبط معانيه بخلفية تخيلية مخصوصة، ومع ذلك يبقى مجالا متميزا للتفاعل الحيوي بين الإبداع والمشاهد، وبين لغة الصورة ولغة الحقيقة، مجالي الدلالة: الحقيقي والرمزي.  ذلك لأن المشاهد لا يدرك الصورة الفيلمية فحسب، بل يستنفر مع هذا الإدراك إدراكا إضافيا وقبليا aperception  يصبح متحكما في " فعل الرؤية" ويستثير لدى المشاهد الإطار المرجعي الذي يمثل الثقافة والمعرفة. ويتطلب هذا التفاعل كفاءة ذهنية وذوقية ترجح بعض الإمكانات الدلالية والجمالية للتكوين الفيلمي المغربي ، وتنسج تنويعاتها المتحولة بمحدداتها السياقية والنوعية الثابتة مثل سياقي العمل الفني والتداولي وتخييله وقواعده وطاقته اللغوية البصرية و المجازية والمستوى الذهني لدى المشاهد.  وهذه وجوه تشمل حدودا ضاق عنها عديد من أنواع التعبير السينمائي المغربي التي أوغلت في الانزياح عن الدلالية السياقية لترمم بشكل مصطنع "شقوق" مستنسخات مشهدية ، تصل في معظمها إلى حدود الابتذال والسطحية والضعف الفني. ولا ينتج عن تلك الحدود إلا النكوص عن صيرورة التكوين الجمالي للمغاربة والانفكاك عن مجال تداولهم الثقافي والقيمي، ولتخلق بذلك دلالات لا تُفهم إلا بالرجوع إلى عالم المخرج وشفراته والاحتكام إليهما. هذا إذا أمكن؟

     يتحدد هذا المجال الثقافي التداولي للمغاربة في مكونات وروافد تتشكل في كل ما يجعل المغاربة متقاربين فكريا في تنشئتهم الاجتماعية وفي مجموع السمات المعنوية والمادية التي توحدهم وتجعلهم كتلة بشرية متجانسة مشركة في خصائص تاريخية وحضارية ولغوية وفنية وسلوكية وحقوقية. وإن تلك الهوية المغربية تتحدد بتعدد تلك المكونات وتغتني بتنوع تلك الروافد و" آنيتها" المكتملة بوجود الآخر؛ وإن أي تعيين أحادي لها هو حتما مصادرة لحقيقة هذه الهوية من حيث هي هوية تتسع للتنوع وصيرورة البناء. إنها واقع ثقافي حَمَّالَ ثوابت ومتغيرات، يرسخ، بقوة وباستمرار، تجانسَه الداخلي، ويغني من جهة تجليه الإنساني قيمَ الانفتاح والاعتدال والحوار والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء.

  على هذا الأساس تعد الثقافة السينمائية مشروعا وطنيا يقتضي التفكير في إقامة صناعتها استثمارا جميلا وخلاقا لتلك المكونات والسمات المغربية استثمارا للهويّة والقيم وإغناء للتنوع الثقافي وترسيخا للحرية والديمقراطية. خاصة أن السينما المغربية اليوم غدت في قلب الأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية ببلادنا. كما أن حضورها لم يعد يقتصر على الجانب الوطني فحسب، بل أضحت تشارك في المهرجانات العربية والدولية ويحصل مخرجوها على الجوائز. لذلك فمن الغايات الأساس للإبداع السينمائي المغربي إعادة الاكتشاف الفني والبصري للقيم الثقافية والرمزية والتاريخية في وعي الناس ومداركهم. وأن ينشغل السينمائيون بتأسيس تجارب أو نماذج يصطفون فيها دوافعهم الجمالية والموضوعية من ذواتهم الثقافية وهويتهم الوطنية، ليهتدوا بها في مغامراتهم السينمائية ويستشرفوا صور معضلات الحياة وأحوالها في أفلام تفيد من الإنجازات العالمية ولا تخلو، أيضا، من تجريب يتطلع إلى اكتشاف الغنى الإنساني والجمالي الذي يعمر المجتمعَ المغربي وثقافتَه، ويتصدى لما يُمثّل، إلى الآن، عائقا حقيقيا أمام نهوض أي صناعة سينمائية منتظرة وهو الجانب الحرفي، فيسخر الطاقات المحلية المتخصصة في مهن السينما المختلفة وخاصة التقنية منها (التصوير، الإضاءة، الصوت، .(المونتاج... 

 إن إمعان النظر في مسألة "الخطاب السينمائي المغربي"، انطلاقا من هذا التصور، يفترض انبناءه على التلقي المقارن. والمقصود بهذا المفهوم عملية بناء تلق معرفية وثقافية للفكر السينمائي العالمي ولمدارسه الرائدة، بحيث تزدوج في هذا التلقي تداوليةُ الرؤية والمعالجة من جهة، وشموليةُ التقنية واللغة البصرية من جهة ثانية. ومما لاشك فيه أن هذا التشاكل المزدوج دافع حقيقي إلى إغناء التفكير السينمائي المغربي ودعامةْ لأن تكون أعمالنا السينمائية مسهمة في التقدير النوعي للسياق المغربي لأجل إعادة الفاعلية الثقافية والقيمية لطاقتها الجمالية، يُسلّم متلقيها سواء أكان مغربيا أو غير مغربي، بقدرتها الفنية والفكرية على جذبهما إلى عوالم كائناتها التخييلية إلى درجة التماهي أحياناً مع صورها الإنسانية المشتركة بين الناس جميعا. وبذلك تسهم  لغتها الفيلمية في محاولة تحقيق مجموعة من الغايات نجملها في ما يلي:

  - التخفيف من حجم دوائر الاغتراب الذي صنعته الهيمنة الشاملة للصور الفيلمية النمطية، يتناسل حضورها بغياب الوعي الثقافي والنقدي المضاد لها. إن من مهمات سينمانا أن تنشغل بتفعيل ذلك الوعي الذي عليه أن يسارع لكشف جانب من الإجهاز على المعنى والتاريخ والهوية، ومقاومة تنميط الذوق والإدراك  على أيدي صناع  الصورة في زمننا.  وإن هذه الغاية لن تكون بالضرورة  مكرسة لمصادرة الآخر، كما  قد  يُتصور، بل هي دفعٌ إلى محاججته فنيا طلبا لاحترام السياق التداولي الذي يحتفي ببناء المعنى والحكايات الكبرى في إطار التعدد والتشعب، مقابل هدم المعنى وتشظيه وإلغائه في سياق إيديولوجية التصدع والتقويض واللاتحدد الما بعد الحداثية. ولاشك أن هذه الغاية يصعب تحقيقها من دون مهمات ثلاث:
1- توسيع الإمكانات التعبيرية والجمالية وتنويعها، وهي إمكانات تتيحها المعرفة السينمائية والأجناس الفيلمية. 
2- التخطيط لمشروع تكوين وطني سينمائي يقوم على مفهوم الكفايات المعرفية والجمالية في إبداع الصورة والتخييل السينمائي البصري، ولا ينحصر في التلقين المهني.
3- دعم المخرجين والكتاب المبدعين وتقنيي الصورة  الذين أثبتت أعمالهم رحابة فكر وتركت بصمة جمال، سعيا إلى توسيع الفعالية الثقافية والقيمية للسينما والارتقاء بها إلى مرتبة تصبح فيها مسهمة في رسم آفاق جديدة للإنسان المغربي.

    - تقريب فاعلية الصورة المغربية في التدافع الفكري والسياسي من خلال كشف جوهر التحولات التي بدأ يتسع لها المغرب في مجالات متعددة، سياسية واجتماعية.وهذا توجه سينمائي يمكنه أن يشكل عاملا مهما في إعادة كشف التجربة المغربية في التطور الاجتماعي والسياسي وما يصاحبه من توتر وتدافع، منذ عقد من الزمن، ونقلها إلى خارج المغرب، خاصة أن هذه التحولات المختلفة تحكمها مقومات ثقافية  ووطنية راسخة مقارنة مع ما يجري في العالم العربي والإسلامي.

- تجديد الرؤية إلى الذاكرة الثقافية والتاريخ من خلال استحضار بعض أوجه هذه الذاكرة وأيقوناتها الممتدة باستقرارها و قلقها.وهو ما تحقق في بعض الأعمال مؤخرا، لأن ذلك يقوي عمق انتساب الصناعة السينمائية للمغرب، ويوثق صلة الأفلام، سواء أكانت روائية أم وثائقية، بالصيرورة التاريخية والحضارية للمغاربة، لأن الانتماء إلى السينما فعل تاريخي واع يتجدد باستمرار ويفك كل ارتباط بالبداهة والارتجال و يتجه نحو الممكن والمستقبل.

*أنتج في هذه المرحلة أكثر من 145 فيلما طويلا و300 فيلم قصير.
د.عبد الرحيم الإدريسي