الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  رأي العين    
الكتابة عن السينما

  د.نور الدين محقق   

أن تكتب عن السينما معناه أنك قد انتقلت من عشق السينما بمعنى العشق الأولي لها و المتمثل في مشاهدة الأفلام السينمائية من أجل تحقيق متعة ذاتية محضة إلى عشق ثاني لها، هو عشق إعادة كتابة ما شاهدته من أفلام سينمائية انطلاقا من معرفتك الخاصة ، سواء السينمائية منها تحديدا أو الثقافية العامة على وجه التعميم ، و وفق وجهة نطرك الشخصية المبنية طبعا على سعة الأفق المفترض و الثقافة الواسعة المحصل عليها إن توفرت ، أو على الأقل في البداية ، أي بداية الكتابة عن السينما، وفق ذوقك الشخصي الخاص .ذلك أن الكتابة عن السينما هي انتقال معرفي من لحظة الانفعال بما تراه إلى لحظة الفعل ، أي تقييم ما رأيته ، وتقديم وجهة نظر حوله ، ليس لك شخصيا و إنما للآخرين . و هنا بالضبط مكمن الصعوبة . فأن تجعل الآخرين يرون ما تراه أنت في الأفلام السينمائية التي شاهدتها ، فتلك مسألة تتطلب منك جهدا مضاعفا .جهد الفهم الأول لما شاهدته من أفلام سينمائية و جهد التحليل الذي تريد أن تخص هذه الأفلام السينمائية به .  و كل ذلك اعتمادا على القدرة على التحكم في الصور السينمائية  التي شاهدتها و الكلمات النقدية التي تستعملها و أنت تقوم بالكتابة عن السينما .طبعا تتعدد نوعية الكتابة عن السينما من كاتب للآخر وفق منظوره الشخصي و ووفق الهدف المتوخى أيضا من هذه الكتابة في حد ذاتها ،  و وفق منطلقاتها الأنطروبولوجية و الإيديولوجية و الاجتماعية و الفنية و غيرها،  و لكنها في النهاية تلتقي في أنها كلها تسعى أو تحاول على الأقل قراءة مجموعة من الصور انطلاقا واعتمادا على مجموعة من الكلمات .
  و بما أنّ السينما بالإضافة إلى كونها كتابة بالصور  و بالصوت و بكل ما يرتبط بهما ، فإنها وهي تتشكل عالما فنيا ، تتحول ، كما يقول إدغار موران ، إلى عالم سحري هو أقرب إلى عالم الحلم من أي عالم آخر .  عالم شاسع الخيال و بعيد المنال ، ولا يمكن القبض على مختلف مكوناته إلا من خلال العيش فيه من جهة و الابتعاد عنه من جهة أخرى .فنحن لا نتحدث عن الحلم إلا بعد انتهائه ، كذلك الأمر بالنسبة للأفلام السينمائية فلا يمكن الحديث عنها إلا بعد مشاهدتها  طبعا. لكن هذه المشاهدة السينمائية التي يجب أن تكون متعددة و غير واحدية ، تختلف فيما بينها حتى بالنسبة للفيلم السينمائي الواحد ، فبالأحرى لمجموعة من الأفلام السينمائية . يرجع الأمر تأكيدا إلى الظروف التي تكون محيطة بنا لحظة المشاهدة و نوعية القاعة السينمائية التي نشاهد فيها الفيلم السينمائي ، دون الحديث عن المشاهدة الأخرى التي تكون انطلاقا الأقراص المضغوطة وداخل شاشة صغرى ، هي شاشة التلفزيون أو شاشة الكمبيوتر . من هنا و تبعا لقولة  هيراقليطس من كوننا " لا يمكن أن نسبح في النهر مرتين" ، فإننا لا يمكن لنا تبعا لذلك أن نشاهد الفيلم السينمائي بنفس الرؤية مرتين  ، لأن ظروفا  أخرى تكون حاضرة في لحظة المشاهدة التي نروم تحقيقها .
 و لكن مع ذلك فإن إعادة المشاهدة هاته هي ما يمنح للرؤية النقدية  أن تتحقق بشكل أفضل ، على اعتبار أن المشاهدة الأولى ما هي إلا مشاهدة استطلاعية و تذوقية بالدرجة الأولى .و إذا كانت الصورة كما يذهب إلى ذلك رولان بارت تحمل مرجعها معها ، فإن الكتابة بدورها عن هذه الصورة تحمل خصوصية صاحبها في ثناياها ، وهو ما يجعل من الكتابة عن السينما في الواقع ما هي إلا كتابات عنها ، حتى بالنسبة للكاتب الواحد بله بالنسبة لكتاب مختلفي المشارب و الأفكار .
  تأسيسا على ما سبق ، يمكن القول بأن الكتابة عن السينما بالنسبة لي هي لحظة تأمل عميق في الحياة و هي تتحول إلى مجرد صور عابرة للوقت ، لكنها صور عميقة ودالة . الكتابة عن السينما هي بالنسبة لي أيضا ، كتابة عن الحياة  وهي تتحول إلى حلم . حلم يتطلب مني تأويلا معينا لمجرياته .لكنه تأويل يتسم باللذة ، كما يقول رولان بارت ، لذة المشاهدة أولا و لذة الكتابة عن هذه المشاهدة ثانيا . الكتابة عن السينما ما هي في العمق إلا تحويل للموضوع المشاهد إلى مادة للتحليل و المناقشة وطرح الرأي . ومن هنا تأتي قيمتها الثقافية العالية . فبغياب الكتابة عن السينما تظل السينما عبارة عن فن رائع لكنه يحتاج إلى من يحوله من جمال الصور إلى جمالية الكلمات . وحده الكاتب العاشق للسينما من يستطيع ذلك.

د.نورالدين محقق