الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  بين قوسين    
في الصورة :
حوار أم حرب الصور؟ "قراءة في إنتاج واستهلاك الصورة"


"بعد الإشهار والدعاية السياسية ،البورنوغرافية والعنف التلفزي فتحا الطريق أمام الامتثال للدناءة التلفزية" بول فيريلو لابد من الإقرار،أن تشكيل خطاب نقدي حول الصورة، كآلية من آليات الإعلام والتواصل،أمر في غاية الصعوبة لما يتطلبه من سعة المعرفة ودقة الملاحظة،وكذا القدرة على الربط بين المجالات المتعددة التي تساهم في إغناء البحث وتأصيله.ولهذا فلا أزعم الإحاطة التامة بتشعبات الصورة وإيحاءاتها اليومية أو الميدانية. 1 باتت الصورة اليوم،وأكثر من أي وقت مضى،تشكل إحدى الدعائم الأساسية لقيام ديانة وثنية موضوعها المتعة واللذة الدنيوية؛وبهذه الصفة فقد شكلت،وبمساعدة تقنيات متطورة أخرى،منظومة هامة في المجتمع الإنساني.
إن هذه الصنمية الجديدة أضحت وجها من أوجه الحداثة ترتبط بها وتشكل قناتا ناجعة لإرساء قواعدها.وبما أن للصورة تأثيرا قويا على الأحاسيس والمشاعر،فبواسطتها يضعف الإدراك أو يتقوى حسب طرق استقبال المخيلة للعلامات،وحسب درجة سيطرة هذه الأوهام\المحبوبة على الحياة اليومية.
نظرا للأهمية القصوى التي أصبحت تحتلها وسائل الإعلام في عالمنا المعاصر،وأمام الغزو الثقافي وما يحمله من عنف رمزي ضد أشكال عديدة من الثقافات الوطنية،فقد صار موضوع الصورة،كحامل لقيم جديدة ولأنماط غير معهودة من الفرجة،يطرح علينا أكثر من تساؤل.
مع ظهور العولمة ومحو الحدود بين الدول،تقوم التقانة اليوم ومن يسخرها بتمرير تصورات ثقافية ترصد لها كل هذه الإمكانيات المادية والبشرية لتعبر عن غلبة أصحاب الدوائر المالية والسياسية،سواء أكانت محتضنة من طرف أجهزة الدولة أو جهات يبرر وجودها فلسفة الخوصصة والتجارة العالمية.ولنا في تبادل المصالح بين أعتى قلاع الرأسمال وبعض المحسوبين على رجالات البحث العلمي خير دليل على خدمة البحث لصالح هاته الداوئر وإستفادتهم من السلطة والمال.
هذا ما حصل في منظمة الصحة العالمية عندما إستقال أحد المسؤولين جراء كشف سيدة للعلاقة الوطيدة بين الهواتف النقالة وأمراض السرطان.
يعيد هذا بالطبع طرح قضايا مصيرية تهم مستقبل الإنسان كقضية الذات وعلاقتها بالهوية، ثم مسألة حرية التعبير والمؤسسات الديموقراطية.لسنا من أولئك الذين يعتبرون مثلا أن ثقافة حقوق الإنسان ثقافة غربية ودخيلة علينا،أو أن الحق في المعرفة والانفتاح على الآخر يخالف خصوصياتنا القومية.
هناك من يحاول الركوب على مثل هذه المقولات لتمرير سلوك هجين يكرس،بوعي أو بدون وعي،واقع التبعية والانبهار بالآخر من منطلق هش لا يخدم قضايانا. 2
من المؤكد أن وسائل الاتصال والميديالوجيا عموما أصبحت اليوم بمثابة نافذة على العالم برمته.ومن المنطقي أنه من دون مناعة فكرية وثقافية،فإن المشاهد في دولة الرعايا كمستهلك سلبي،سيعيد إنتاج ما سوف يستقبله من رموز بشكل مشوه سواء داخل محيطه الصغير أو محيطه الكبير.
التلفزة مثلا لا تطلعنا عن نواياها لأنها مسخرة من طرف أدوات وقنوات،وأيديولوجيات.وهي تعتبر نفسها دائما في خدمة الشعب وتتكلم باسمه،بل باسم كل الجماعات.لقد تطبعنا على الإحساس بالألفة تجاه هذا الجهاز،بل أصبحنا نفتقده ونشعر بفراغ من نوع خاص عندما نغيب عنه قليلا.ومن هنا،ألا يمكن اعتبار استهلاكه نوعا من الإدمان على مخدر؟
لذا،فبالإضافة للذات معينة تتملك الإنسان،يمكن الإشارة للذة عينية تتحقق بفعل المشاهدة والتفرج.ويبدو لي أن هذه اللذة قد أخذت مكانة أشمل وأوسع داخل سلوكنا الاجتماعي والثقافي،وليس من الغريب أن يتحول الإنسان في نهاية المطاف إلى حيوان متفرج لا يعبأ بما يدور حوله. علينا أن ندرك ما يتضمنه هذا السلوك من عواقب وخيمة على نسبة مشاركته في معيشه اليومي المباشر.وليس أدل على هذا من حجم الفظاعة التي تنقلها قنوات العالم بشكل تقني وبارد عن كل أشكال التقتيل والدمار في هولوكوست غزة وقيامات موزعة هنا وهناك.
3
إن الوضع المأزوم للمشاهدة لا ينحصر في خلق نوع من الفصام بين الذوات وسلطتها،ولكنه يعمق عزلة المشاهد من خلال مجموعة من الثنائيات المتناقضة.
نسوق هنا على سبيل المثال:استلهام الواقع وتغييبه،مخاطبة الإنسان وتشييئه،عزل المشاهد ودفعه للانفتاح على العالم،ثم تقريبه من العالم واغترابه عن محيطه الأقرب.وأخيرا وليس آخرا،تسطيح العمق وتعميق السطح مع استحضار الكلام وتغييب التواصل.فهل ما نشاهده على التلفاز هو الحقيقة كمعطى جاهز،أو وجها من أوجهها التي يتم انتقاؤها وتجميلها في دهاليز الاستوديوهات كما تمليه الضرورات السياسية؟
لذا،هل يجب أن نثق في هذا الكم الهائل من الصور، أم نسحب منه الثقة؟وكم يلزمنا من الوقت كي نبلور أسئلة في مستوى التحدى؟ وماذا عن أطفالنا كجيل صاعد؟ أفلا يصبحون أطفال ماكينة من الصور التي تغذي مخيلتهم وتكبلها في نفس الوقت .وهل هم أبناؤنا فقط لأن عوالم الفيديو والبلاي ستايشن ببساطة تعلمهم وتشاركهم أوقاتهم،لا بل تفتي عليهم ما يتوجب فعله وما يتوجب تركه مستعيضة عن نظم أخلافية وقيمية باتت مهددة بفعل الإدمان والحيزيين الزمني والمكاني الذي تحتله ؟
من خلال عملية تداول الصور ومعالجة المعلومات يتم إحكام السيطرة بعد تحديد معتقداتنا ومواقفنا.وتصبح وسائل الاتصال في النهاية آلية تاريخية في مسلسل التضليل الاجتماعي والقهر السياسي.
باستخدام هذه الأساطير الجديدة سيتم تطويع الجماهير بخلق القابلية لتقبل التفاسير المبررة للوضع القائم.ويضطلع الجهاز الإعلامي في خضم هذا التعارك والتجاذب بدور فعال في عملية التنشئة الاجتماعية لحشد التأييد الشعبي للتضليل.وأمام استئساد الثقافة السلعية ونشوء مجتمع الفرجة وصحافة التسلية على حد تعبير هيرمان هيسه،فقد أصبح التفكير في الصورة أمرا مستعجلا.وانتقلت هذه الثقافة من النخبوية ومجتمع الصفوة إلى الجماهيرية.
نظرا لاكتساح الصورة مساحات أوسع من انشغالاتنا وطرق معرفتنا،وتداخل الحقول التي تتناولها فقد أمست بمثابة نظام توتاليتاري يستأسد يبسط نفوذه على الجميع.ومن هنا،فالصورة كموضوع للتفكير،يجب أن لا يسقط في الدغمائية الضيقة حتى يتحول إلى مشجب نعلق عليه كل إحباطاتنا،بل يظل قابلا لتعدد القراءات واختلاف المرامي
. 4
صحيح أن العالم أصبح قرية صغيرة،إلا أن التحديات التي ولدتها الطفرة الإلكترونية الأخيرة أمست كبيرة وفي حاجة لأكثر من وقفة تأمل.
بتنا نحس بوعي أو بدونه استحالة التخلي أو العيش من دون إنترنت مثلا.ومما لاشك فيه، أن مستوى النقد لحضارة الصورة يختلف باختلاف درجة الوعي بمظاهر وتجليات سوق المتعة في الأنظمة السياسية والاقتصادية.
إذا كانت بعض الأصوات قد سبقتنا إلى التشكيك في قيم الرفاهية ونزعات التملك،وخصوصا في نقد المجتمع الاستهلاكي وأصولياته،فإن جر مسألة الصورة إلى بؤرة الضوء قد يسعفنا على الأقل في إثارة النقاش،وتخصيص بعض الوقت لفهم ظاهرة الميديالوجيا في أبعادها الرمزية وفي توظيفاتها السوسيوثقافية. بتنا أيضا ننام ونفيق على عبارات طنانة تستهلك بشكل يومي، وكأنها حبات الأسبرين لتسكين ألم ما. إنها تحتل واجهات الصحف المحسوبة على الصنف الملتزم أو صحف الرصيف، وتتصدر مقدمة الأخبار عن ضرورة التعايش وأهمية الحوار ، والقبول بالاختلاف. ومن جهة أخرى، نبذ العنف والإرهاب، وخلق فرص لحوار الحضارات والأديان من دون تمييز ديني أو طائفي.
ما نقصده عند الحديث عن صدام الثقافات ،هو حصول مواجهات معنوية بين فكر وفكر آخر، بين ثقافة وأخرى، بين نظرة للوجود وأخرى، بين مصالح وأخرى.ساحات هذه النزاعات، هي العقول والقلوب بتوجيهها وتنميطها، وخلق لديها استجابة فورية عند ظهور مؤثرات أو أحداث، يربط فيها ،على طريقة المذهب السلوكي لنظرية بافلوف، بين خصائص وقيم، وبين جماعات عرقية، أو ذات لون مختلف عنا.
5
إذا كنا في الماضي نصارع الآخر بقوة السلاح والموت في مكان وزمان محددين،ونحاول النيل منه جسديا وترابيا باحتلال أرضه، والتنكيل بنسائه، وتدمير معالمه ومعارفه المادية على شكل غزوات وحروب،وإذا كان تداول الأخبار يتم شفهيا ولو من خلال إلقاء قصائد الهجاء والذم للنيل من كرامة الآخر وعرضه، أو من خلال تجمعات أو حلقات بشرية يخطب فيها البلغاء والشعراء فمما لا شك أن نقل هذه الأخبار، وأنماط العيش والتقاليد نشطت مع حركة التجارة وخصوصا القوافل الرحالة ، ولو أنها في غالبيتها ظلت تتغذى على الإشاعات لبعد الأمكنة، وندرة الأخبار، وبطء نقلها وانتقالها.
مع ظهور الكتابة واختراع المطابع،ومختبرات التصوير التقليدي والرقمي ، ظهرت أشكال جديدة في حرب الدعاية.ترى هل من الضروري الحاجة لصورة مشوهة عن الآخر؟ بل أصلا، ونقولها بكل صراحة، لعدو مفترض ينسينا همومنا كمشجب نعلق عليه إخفاقنا؟هل نحن في حاجة لهذا الهدم المتعمد والمستمر لصورة الآخر، حتى نحس برغد العيش ونعمة التفوق؟ وحتى وإن لم يوجد، ابتدعناه في متخيلنا ابتداعا ؟
الصور التي ننتجها عن ذواتنا، ونروجها في سوق الأفكار والثقافات، أو يروج لها وكلاء عنا من دون وكالة، هي المتحدث بإسمنا، والحامل لمعطيات ما عن طرق عيشنا، وأنماط تفكيرنا. إن من ينوب عنا في تشكيل رؤية الآخر ومواقفه عندما نغيب، أو نغيب ماديا عن المشاركة في الحوار والحديث،ولا نتواجد فعليا وجسديا، ،هو ذاك الانطباع الشكلي والنيئ الذي ارتسم في الأذهان عن ثقافتنا وسلوكياتنا،والذي يصبح رمزيا يخترق الحواجز والأزمنة بعد عبور المعلومة للقارات بعد الأوطان .
الكل بات يسعى لتحسين صورته حتى يستحسنها الناظر، لدرجة أصبح للصورة تأثيرا قويا ونافذا أكثر من المصور أو موضوع الصورة ذاتها.ويتم من أجل ذلك صرف ملايين الدولارات، وتخصيص مئات العقول. وما دامت الإمكانيات متاحة ومنفتحة، بفتح حدود السماوات والبيوت والعقول.
لقد سارع كل مجرم أو قاتل، وإن كان مسؤولا عن حكومة ما، أو عن تجمع ديني يميني متطرف يرأس مؤسسة إعلامية، أو يملك شركة إنتاج ، لتحصيل الخديعة والوهم بخلط الأوراق في جهاز استقبالنا لفك شفرات العالم، قصد التمويه علينا بين الأصل والنسخة،بين الحقيقة والأسطورة كما أشار لذلك بودريار من خلال تأملاته في مواصفات المجتمع الاستهلاكي،أو كما برز ذلك من خلال الممارسات الشبه كهنوتية التي تمارسها جماعة الساينتولوجيا وغسلها لأدمغة مرتاديها بل إبتزازهم إجتماعيا وماليا .
وهنا لا نتحدث عن مكونات ثقافة هذه الفئة أو تلك،أو عن ومدى قوتها واحتوائها على عناصر إيجابية.إننا ننطلق عن قناعة أن لكل ثقافات الشعوب، الحق في التعبير عن الرأي، مع قبول الرأي المختلف بدون إدعاء لامتلاك حقيقة ما، أو أية دغمائية متعصبة.

عز الدين الوافي