الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  نقد    
سينما الهجرة و سينما المهاجرين و علاقتهما بالسينما الجزائرية

عرفت السينما في الجزائر انتعاشا جليا مع بداية القرن الواحد و العشرين من حيث الإنتاج ، و لكن ظلت مشكلة التوزيع قائمة نظرا لندرة قاعات العرض ، وكان الخيار الأمثل مساعدة السينمائيين في الإبداع في المرحلة الأولى لبلوغ درجة أعلى من حيث القيمة الفنية ، و ظهرت وجوه سينمائية جديدة أثبتت قدرة فائقة في التحكم في الإخراج و أخرى دون ذلك. بعد أزمة تسيير القطاع التي شلت الإبداع السينمائي و السينمائيين ، اختار الكثير منهم البحث عن آفاق جديدة خارج البلاد ، فكانت هجرة البعض قسرية و بعضهم اختارها طواعية ، و بعد بروز مؤشرات الانتعاش مع العقد الأول من القرن الواحد و العشرين ، عاد معظم أولئك السينمائيين إلى الديار ، في محاولة لبعث السينما الجزائرية من جديد ، مع أن الكثير منهم استطاع أن يثبت جدارته على المستوى الأوروبي ، و دفع هذا بالكثير من السينمائيين المهاجرين ذوي الأصول الجزائرية إلى الاقتراب من منابع أصولهم للمساهمة في الإبداع السينمائي ، بطريقتهم الخاصة الجامعة بين بيئتهم الغربية و ربطها بمجتمعهم الأصلي ، مما أنتج فكرا هجينا في كثير من الأحيان ، فنقد المجتمع الجزائري نابع من مقارنة خاطئة  بينه و بين المجتمعات الغربية التي ينحدر منها السينمائي المهاجر، و لذا واجهت الكثير من الأفلام رفضا صارخا من النقاد الجزائريين و المشاهدين ، لاحتوائها على أفكار صادمة ، و هذا لا يعني انتفاء التقييم الفني لدى المشاهد الجزائري ، و إنما هو تأكيد على اختلاف الرؤى بين المجتمع الغربي و الجزائري ، و تحدث الصدمة حين يحمل السينمائي الجزائري فكر الآخر و يتبناه و يفرضه على المشاهد الجزائري .
 و كان الدافع في بعض الأحيان قويا لإبداء الرأي و تحديد موقف  السينمائي الجزائري المهاجر فيما مرت به البلاد من أزمات ، و هكذا صور مرزاق علواش " العالم الآخر "2001، فكانت الأحداث تروى بمنظور البطلة الفرنسية القادمة إلى الجزائر للبحث عن خطيبها ، فالمنظور الثنائي جعل التحليل يميل إلى الذاتية أكثر ، مما يجعل المشاهد يتيه في فهم الظواهر السياسية و مدى تعالقها مع أبطال الفيلم .
و يحاول مرزاق علواش الاقتراب أكثر من المجتمع الجزائري و هو يعيش المنفى الإرادي ، فالاهتمام بمصير و مستقبل المدينة التي أنجبته و البلد الذي عاش ماضيه في كنفه ظل يسكنه ،فتوالت الأفلام متتابعة ، و منها " باب الواب " 2005 و " حراقة " 2009 و " نورمال –عادي "2011  و " التائب " 2012 و أخيرا " سطوح " 2013 ،و هي أفلام تحاول رصد حاضر المجتمع الجزائري ، و محاولة لنقد مظاهره السلبية الخفية .
و يعود عكاشة تويتة صاحب " المضحى بهم " 1983 و " صرخة الرجال " 1991 إلى الجزائر لتناول ظاهرة الإرهاب في المجتمع الجزائري ،و لكنه كان أكثر ذكاء حين اعتمد على روايات ثلاث للأديب الجزائري ياسمينة خضراء ، فكانت "موريتوري " هي عنوان الفيلم2007 ، و لكن المخرج مثل الكاتب يعمقان من فوضى تحليل الظاهرة حين يربطانها بمصير محافظ شرطة و الخلافات الدفينة بين صناع القرار في البلاد ، و يظل الفيلم من أروع الأعمال السينمائية المصورة لمرحلة الإرهاب في الجزائر ، مع تصنيفه طبعا ضمن الأفلام البوليسية .
و يبقى كمال دهان المهاجر ببلجيكا في فضاء مواضيع الهجرة و متاعب المهاجرين في بيئتهم المستقبلة ، و صراعهم و مقاومتهم للأفكار المسبقة القابعة في الضمائر ، لذلك يبقى المهاجر في خانة ما أسماه المخرج " المشبوهون " 2003 ، بالرغم من كفاءاتهم العالية مثلما حدث لبطل الفيلم الذي يعرض إختراعه المبهر  في ألمانيا و في النهاية يعود إلى الجزائر.
في حين يركز رشيد بن حاج المقيم بإيطاليا على حنينه للوطن مع فيلمه " عطور الجزائر " 2010 ، من خلال ما تكتشفه بطلته كريمة الباريسية من مناظر مثيرة بعد عودتها للجزائر لزيارة والدها ، و قد تمكن رشيد بن حاج من تصوير فيلم قبله " الخبز الحافي " 2005  المقتبس من رواية محمد شكري.
و لكن المخرج الجزائري الأكثر شهرة على المستوى الأوروبي كان بلا شك رشيد بوشارب الذي مثل فرنسا في كثير من المهرجانات العالمية ، و لكنه اختار وطنه الأصلي الجزائر في نسبة فيلمه " خارج عن القانون " 2010 ، و مع أن الفيلم إنتاج مشترك مع شركات إنتاج فرنسية إلا أن المخرج هو الوحيد الذي يحدد نسبة الفيلم إلى البلد الذي يختاره ،مع الحفاظ على قانون الاشتراك الإنتاجي .
إن مسيرة رشيد بوشارب تبدأ بفيلم " شاب " 1991 ، و هو تكرار لموضوع العودة إلى الوطن الأصلي عند المغتربين الجزائريين تتخلله قصة  عاطفية مثيرة ، و لم يتمكن رشيد بوشارب آنذاك من التجديد في الشكل و المضمون فالبطل في النهاية يسعى إلى العودة إلى بلد الغربة رافضا بذلك العيش في وطنه ، ثم توالت الأعمال " العصا الحمراء " 1985 بشكل تصاعدي ينم عن نضج فكري واضح لدى المخرج ، و محاولة منه للتعرض إلى المسائل الحساسة و العالقة و هكذا أثار فيلمه " غبار الحياة " 1995 نقاشا حادا في الأوساط الصحفية الفرنسية ، نظرا لطرحه العلاقة التاريخية بين المهاجرين العرب و الفضاء الفرنسي ، ثم انتقل إلى المواضيع ذات البعد الإنساني و منها قضية استعباد الأفارقة بأمريكا بفيلم "السنغال الصغيرة " 2001 ، ثم حاول رشيد بوشارب رصد الأفكار العالقة في أذهان الغربيين عن حقيقة الإرهاب الدولي من خلال " نهر لندن " 2005.
 و لكن يبدو أن رشيد بوشارب ظل مشغولا بتاريخ مزعج ، تاريخ يربط فرنسا الحديثة بماضي مستعمراتها القديمة ، و منها الجزائر و المغرب و تونس أي بشمال إفريقيا ، فكان موضوع المجندين العرب و الأفارقة في الجيش الفرنسي أساس قصة فيلم " بلديون " 2006 ،و نفض به المخرج الغبار عن ماض أريد له النسيان ، لتبقى التهم أبدا موجهة إلى المهاجرين المغاربة في سياقها الاجتماعي و السياسي ، و رفع الفيلم غبار النسيان عن أجيال دافعت عن فرنسا ، و لقيت مصيرا بائسا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية . .
كان نجاح فيلم " بلديون " دافعا قويا للمخرج للخوض في المسائل الأكثر أهمية ، و منها علاقات و صراعات المناضلين الجزائريين في الحركة الوطنية داخل فرنسا ، و مساهماتهم في تحرير وطنهم قبل و أثناء اندلاع حرب التحرير الجزائرية .
هذه العودة إلى تاريخ الثورة التحريرية ، بينت أن الراهن الجزائري لا زال مرتبطا بماض لم ينل حظه من التحليل التاريخي الموضوعي ، بعرض مختلف الرؤى حتى المتناقضة منها لفهم الحدث التاريخي ، فكانت الأحادية تسيطر على الجانبين الجزائري و الفرنسي ، و كل منهما ينظر إلى التاريخ بمنظار خاص ، و لعل السينمائيين المغتربين هم الذين حاولوا الجمع بين الرأيين على غرار ما قام به عكاشة تويتة مع " المضحى بهم " 1983 أو مهدي شارف بفيلمه " خراطيش غولواز"  
الذي صور علاقات فئات كثيرة في المجتمع الجزائري أثناء حرب التحرير و قبيل الاستقلال .
على خطى رشيد بوشارب و مهدي شارف نجد عبد الكريم بهلول و هو مهاجر مثلهما في فرنسا يحفر في تاريخ ظل منسيا في تراكم الأحداث بعد استقلال البلاد ، فالراهن آنذاك تحول إلى ماض مجهول ، أحداث مهمة عرفها المجتمع الجزائري في الستينيات من القرن العشرين تلقفها عبد الكريم بهلول ليصنع منها قصة "اغتيال الشمس " 2004 ، ثم عرج على فترة السبعينيات مع فيلمه " السفر إلى العاصمة " في محاولة لإعادة بناء الماضي.
و يصر بعض السينمائيين الجدد ممن يعيشون في أوروبا أو كندا على العيش داخل وطنهم الأصلي عبر أعمالهم الخيالية ، بالرغم من غربتهم بأجسادهم ، و بالرغم أيضا من انعدام تجارة و صناعة سينمائية واضحة المعالم داخل الجزائر ، و مع ذلك فإنهم يقتحمون مجال الإنتاج المشترك لضمان توزيع أفلامهم في القاعات السينمائية الأوروبية ، و لكن مواضيعهم ذات صلة مباشرة بالمجتمع الجزائري ، و هذا ما يجعل تلك الأفلام تتسم بالجرأة في معالجة الأحداث و تصوير الأوضاع الراهنة للمجتمع الجزائري  و من المخرجين الأكثر جرأة  نذير مخناش بأفلامه الثلاثة " حريم السيدة عصمان " 1999 و بعده " تحيا الجزائر " 2004ثم " دليس بالوما " 2007 ، وهي أفلام صدمت المشاهد الجزائري نظرا لميل المخرج إلى الفئات الشاذة من المجتمع ، و حرية المخرج المطلقة في تصوير المشاهد السينمائية المثيرة ، و لعل فيلمه الأخير أكثر جرأة " وداعا مروكو " 2013 ، الذي اتخذ الفضاء المغربي مركزا لأحداث أبطاله .
و على خطى مخناش يسير لياس سالم ، بحيث يعطى أهمية للمواضيع الواقعية بداية مع فيلمه القصير " بنات العم " 2003 ، ثم مع فيلمه الخيالي الطويل " مسخرة " 2009 ، و لكن تناوله للأحداث بطابع الكوميديا الاجتماعية التي عهدناها عند محمود زموري ، مع فارق بسيط هو أن لياس سالم يركز على مواضيع ذات الصلة المباشرة بالمجتمع الجزائري عكس محمود زموري الذي يربط بين عالم المغتربين و علاقتهم بأوطانهم الأصلية ، وهناك مخرج جزائري مغترب يفضل المعالجة الكوميدية على الطريقة الزمورية و هو جمال بن صالح مع فيلمه " حدث ذات مرة بالواد " 2005 .
و يمكن القول إن جميع السينمائيين الجزائريين المغتربين لم يستطيعوا تجاوز أزمة الانتماء ، فمعظم مواضيعهم تصور معاناتهم في البلدان المستقبلة ، و بخاصة الأجيال الأخيرة المولودة في أوروبا ، و هذا ما جسده المخرج ناصر بختي في فيلمه الخيالي " ظلال الليل " إذ يختار سويسرا موقع أحداث فيلمه ، و لكن التماثل في الأحداث بين ما يعانيه المغتربون يشبه إلى حد بعيد ما يحدث في فرنسا أو إيطايا أو بلجيكا.
و بعيدا عن أوروبا يلقى مهدي بن بو بكر المقيم في كندا نفس مصير المغتربين الجزائريين بأوروبا ، و هذا ما يجسده فيلمه الأول القصير "مولوتوف " إذ يصطدم بطل فيلمه بمواقف مشينة نابعة عن تمييز عنصري صارخ في مجتمع كندي جديد و لكنه عالق بالأفكار السلبية .
و لم يحد المخرج الجزائري رابح زيماش عامر المغترب في فرنسا عمن سبقه من المخرجين المقيمين في نفس البلد ، فقد تناول في فيلمه " بلاد رقم واحد " عودة المهاجرين إلى الجزائر ، و كانت الطريقة وثائقية أقرب إلى سينما الحقيقة . و على العموم تبقى التيمة المسيطرة على أعمال السينمائيين المغتربين تصوير حالة القلق الناجمة عن المقارنة الدائمة بين البيئة الفرنسية و نقيضها في الجزائر ، مما ينتج عنه موقف الرفض الدفين للمجتمع الأصلي و إظهار عيوبه ، و بهذا يقع كثير من السينمائيين المغتربين في ورطة الإنتقاد المجاني للواقع الجزائري ، و يفقدون القدرة على التحليل خارج تأثير الفكر الغربي ، فيصبح النقد موجها ، فهو في حقيقته نابع من مقارنة عقيمة بين مجتمعين مختلفين و ثقافتين متباينتين .
و يختار محمد سوداني المغترب بسويسرا اكتشاف خبايا وطنه في عمقها الفضائي ، فالصحراء الجزائرية في شساعتها ليست جامدة مثلما يبدو للكثيرين ، فهي تحوي من عجائب و غرائب الأشياء ما يبهر كل زائر لها ، و بطبيعة الحال يختار محمد سوداني شخصيات أجنبية وتحديدا سويسرية تقيم و تثمن مظاهر الحياة الصحراوية في تلك الغرابة و اللامعتاد ،
و كأن فيلم " هاتف عمومي " يلمح أن أهل البلد سيبقون أبدا عاجزين عن إدراك تميزهم و تفردهم ، و لن تلاحظها إلا العيون الأجنبية .
و من المخرجين السينمائيين المقيمين في الجزائر الذين استعانوا بالمنتجين الأوروبيين في محاولة لتجاوز السوق الجزائرية و فتح أفاق جديدة للفيلم الجزائري بالخارج نجد السينمائي طارق تقية ، و لكنه في مبادراته الفنية ينقل صورا واقعية و تحليلا عميقا لظاهرة خطيرة و غامضة يعيشها الشباب، إنها ظاهرة الهجرة السياسية في أبعادها المتباينة و المتداخلة ، ففي البداية يحاول إعطاء تفسير خاص عبر هواجس و أماني مجموعة من الشباب الجزائري يطمحون إلى مغادرة البلاد للوصول إلى السواحل الجنوبية لأوروبا " روما و لا أنتما " 2006 .
يحاول طارق تقية الغوص في حالة التصحر النفسي لأبطال فيلمه ، و تماهيهما مع الفضاء المكاني الذي يعيشان فيه ، فبالرغم من وجودهما في العاصمة إلا أن المخرج تعمد اختيار الأماكن الرامزة للخواء و الفراغ مما يؤثر سلبا على الأبطال ، و يبقى هاجس تغيير الجو و المكان ضرورة ملحة ، و ليس فكرة عابرة .
ثم يحاول طارق تقية من جديد تشريح ظاهرة الهجرة القسرية في بعدها القاري من خلال إظهار حالة المهاجرين الأفارقة المارين عبر الحدود الجزائرية لبلوغ الحدود المغربية ثم الأوروبية ، ففي فيلمه الثاني" داخل البلاد " 2008 ، يلفت الانتباه إلى معاناة أولئك المهاجرين الأفارقة الذين يقطعون ألاف الكيلومترات و أضعافها من العراقيل لبلوغ شواطئ البحر الأبيض المتوسط للخوض مرة نهائية في رحلات قوارب الموت .
و يبقى طارق تقية من المخرجين الجدد الذي أثبتوا قدرة كبيرة في التحكم في توجيه الممثلين ، تقنيات صناعة الأفلام .
و يمكن القول إن جميع السينمائيين الجزائريين المغتربين لم يستطيعوا تجاوز أزمة الانتماء ، فمعظم مواضيعهم تصور معاناتهم في البلدان المستقبلة ، و بخاصة الأجيال الأخيرة المولودة في أوروبا..

بغداد أحمد-الجزائر