الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  نقد    
الألفية الثالثة والتحولات الجمالية في السينما..

الزمن السينمائي :

تعد السينما، بمصطلحات الجماليات، خبرتنا المكثفة عن الزمن. هنا، أيضا، تغير الأدائية الطريقة التي يتفاعل بها الزمان، والمكان، والوسط في السينما. وحتى الآن، فإن المشاهدين المهتمين يشعرون بالراحة أكثر مع الفكرة المؤمنة عن الزمن المشتت والمخلخل الذي وظفته ما بعد الحداثة. ونحن، في التفكير المؤمن بالواحدية، نعتقد أن الدلالات المكانية ـ سواء العلامات أو آثارها ـ ذات أصول إلهية، بمعنى أنها تتكاثر تدريجيًا بلا حسيب أو رقيب بكل الطرق والوسائل، وإن الزمن الذي يتكشف فيه هذا التكاثر لا يمتلك فرصا كثيرة لتطوير أبعاد ملحمية ممتدة وطويلة .
يقطع الزمن في أنظمة ما بعد الحداثة الربوبية بفعل المكان إلى شرائح أو مكعبات، كما في الاختلاف المرجأ عند دريدا، أو إنه يزال من التسلسل الزمني ويدخلن internalized، كما في زمن برغسون (الذي يرتبط بالقدرة على الاندماج مع خيال خلاق فقط). أما النظرية ما بعد الحداثية الأكثر عبقرية وإنتاجا عن الزمن السينمائي فهي التي طورها جيل دولوز في كتابيه عن السينما , والتي كانت أكثر كرمًا في موقفها تجاه التسلسل الزمني ـ إنه يعتبر أن (الحركة-الصورة) الملحمية لسينما ما قبل الحرب (الزمن ـ الصورة) لسينما ما بعد الحداثة مختلفتان بقدر ما هما متساويتان . ومن الواضح أن دولوز يتعاطف مع البيرغسونية الجديدة (الزمن ـ صورة) الذي يشظي النظام الحسي ـ الحركي من الداخل   ويتسبب في ضعضعة الزمن . ويبدو أن معارضة دولوز التي ترتكز على أرضية المعاملة الصارمة والدقيقة لثمانين عاما من الإبداع السينمائي، تتركنا في أسر ما بعد تاريخي نموذجي. كلا النوعين من السينما يمكنه الاستمرار في إنتاج (زمن ـ صورة)غير منظمة على غرار تلك التي كانت في السبعينيات والثمانينيات أو أنها يمكن أن تعود أنماط الحس ـ الحركة القديمة التي سادت قبل الحرب أو، حتى أسوأ من ذلك، حين تكرر توظيف الزمن السينمائي المتسلسل تاريخيًا والعابر بنظام و الذي كان دائما ركيزة أساسية في الأفلام الشعبية. والسؤال كيف يمكن للسينمائيين خلق زمن سينمائي لا يعتمد على المونتاج المسلسل للصور الحسية ـ الحركية أو المنفصلة أو الزمنية؟
تكمن الإجابة، مرة أخرى، في تأطير الزمن بطريقة غريبة عن ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. أي التركيز على خلق حضور ـ بمعنى أن تفعل شيئا اعتبره النقد الأبستمولوجي الدريدي للزمن مستحيلا و عده المفهوم الدولوزي – البيرغستوني المعياري للزمن بعيدا عن التشويق. ولكن كيف يعمل ذلك؟ ولا بد أن نوضح منذ البداية , أننا لا نتعامل مع محاولة ساذجة لخلق حضور ابتدائي. ولا توجد طريقة تجعل مرتادي السينما الحداثيين يصعقون أو يخدعون أو يتزلفون من أجل خلط الواقع بتمثيله السينمائي.
ولا تحاول السينما الأدائية إقناعنا بأن طريقة تمثيلها للواقع أكثر واقعية وأصالة من أية مدرسة أو اتجاه سابق. وبدلا من ذلك فإن السينما الأدائية تعمل من خلال تأطير ومقابلة نوعين من الزمن : الزمن الشخصي أو الإنساني و الزمن المؤمن أو المؤلفي (نسبة إلى المؤلف). ولنكن أكثر تحديدا ونقول إن الفيلم الأدائي، بتوظيفه الوسائل القسرية المعتادة يجبر المشاهدين على تقبل شريحة معينة من الزمن بوصفها وحدة أو (قطعة)، بينما في الوقت نفسه يزودهم بمنظور زمني يتجاوز تلك الوحدة الزمنية، والصيغة ذات الصلة هنا ليست أبستمولوجية أو انعكاسية، ولكنها وجودية وبديهية : إنها الشعور بأن تكون حاضرًا في إطار زمن متفوق على سابقه بطريقة ما. و المثال الأكثر جذرية على ذلك هو فيلم (السفينة الروسية) لألكسندر سوكوروف، والذي يتألف من سبع وثمانين دقيقة كاملة دون قطع أو قص. يعرضنا الفيلم أثناء مشاهدته لزمنين : الأول هو الزمن الحقيقي للمصور لأنه يتحرك ببطء من خلال متحف الأرميتاج في سان بطرسبرغ، والثاني هو الزمن المنظم للمخرج لأنه يضع سلسلة كاملة من الشخصيات التاريخية و المشاهد من ماضي القيصرية الروسية في طريق الكاميرا العابرة. فمن ناحية، نحن نغرق مع المصور في الحاضر السينمائي المتوافق تماما مع الزمن الحقيقي للإجراء السينمائي (لم يكن هناك تحرير، وبالتالي أية وسيلة لتقصير أو تسريع الزمن الحقيقي). و من ناحية أخرى، فإن الإخراج المسرحي mise en scene يجعلنا نتواجه مع شخصيات لا يمكن تفسيرها إلا بوصفها رموزَ زمنٍ متجاوز يتحرك متحررا من التعاقب الزمني : بطرس العظيم، كاترين العظيمة، بوشكين، نيكولاس الثاني، وخليط من شخصيات أخرى أخذت من التاريخ الروسي وظهرت كلها خلال ثمان وسبعين دقيقة. وتسمح لنا محصلة تأثير (التي سوف أناقشها بمزيد من التفصيل في الفصل الثالث) الزمن اليومي الحقيقي بالمشاركة في خبرة ما فوق تاريخية متعالية. ومفتاح هذه الخبرة الزمنية هنا هو التجاور الكلي بين الزمن المؤمن والبشري بدلا من تسلسل زمن لا يحصى أو إطارات مشبعة بالحركة التي تشكل أساس اللغة السينمائية الدولوزية. وغني عن القول، أيضًا، أن هناك فائدة صغيرة جدا من تفكيك العرض غير الواقعي للشخصيات التاريخية في زمن حقيقي، لأنه حتى المشاهد الساذج لن يجد مشكلة في فهم أنها حيلة لمرة واحدة ـ أداة اصطناعية، و جمالية. لا تحاول  (السفينة الروسية) إقناعنا بالحجج المعرفية؛ إنها تحاول حين تواجهنا بالأداء الزمني أن تجعلنا نعتقد أنه ليس لدينا وسيلة لتجنب ـ فكرة أننا لن نرى الفيلم على الإطلاق. يقدم فيلم الجمال الأمريكي المبدأ ذاته في توظيف الزمن وإن بصورة أقل جذرية. ينقل الفيلم نفس الأداة الأساسية الموظفة في السفينة الروسية موظفا وسائل سينمائية أكثر تقليدية. وبالتالي فإن لقطة المشهد بعين الطائر في الجمال الأمريكي، حيث ليستر برنهام يقدم لنا " الحي الذي أسكن فيه. هذا شارعي. هذه... حياتي" تبدو للوهلة الأولى أكثر من مجرد أداة هوليودية عتيقة. ولكنها تشير أيضًا إلى منظور ليستر العبر زمني المتجاوز، الذي لم يكن بمقدورنا فهمه إلا بعد أن غادرنا، تماما كما فعل ليستر، إطار الزمن اليومي لخط القصة عند نهاية الفيلم. إلى جانب منحنا إطارا يفضل التحرر من التسلسل الزمني على الزمن اليومي، ويشجعنا الفيلم أيضًا، مع ليستر و ريكي، إلى جعل بعض الأشياء التي تجسد التفوق والتجاوز حاضرة ـ وعلى الأخص أنجيلا (في رؤى ليستر الإيروتيكية بالحركة البطيئة)وكيس البلاستيك الأبيض أو الطائر الميت (في أشرطة فيديو ريكي الواقعية). ولأول وهلة لا يبدو هذا التكثيف للتسلسل الزمني أكثر من أداة مألوفة سينمائيًا، ولكنه بمصطلحات الأدائية يشير إلى وحدة الزمن الاستاتيكي المؤطر وإلى الزمن المتجاوز الذي يشارك فيه ليستر المؤله ـ وهو بذلك يحدد معالم اتفاق أساسي بين الإطار الداخلي والخارجي ,و بين الرؤية الداخلية والخبرة الخارقة. وعلى العكس، فإن الزمن اليومي في الجمال الأمريكي مؤطر بطريقة تمكن الشخصيات من تجاوز ذلك الزمن وبدوره فإن فعل التجاوز هذا يمنح قاعدة عاطفية للتماهي مع تلك الشخصيات. وفي الفصل الثالث الذي يعالج السينما الأدائية، سأتناول بمزيد من التفصيل الطرق المختلفة التي توظفها الأفلام لإجبارنا نحن والشخصيات على اختبار التجاوز بوصفه تحولا نوعيا في الترسيم المكاني والتقطيع الزماني.

هامش:
*من كتابي (نهاية ما بعد الحداثة : مقالات في الأدائية وتطبيقات في السرد والسينما والفن ).
راؤول إيشلمان ترجمة أماني أبو رحمة*