الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  خبايا الصورة السينمائية    
فيلم "أرغو" السياسية تعود مجددا لجائزة الأوسكار

  سليمان الحقيوي   

منذ أن قام الممثل الأمريكي "بين أفليك" بإخراج فيلم "البلدة The town " أضاف صفة المخرج الجيد إلى رصيده الفني بعدما عرفه الجمهور كممثل جيد، والواقع أنه رغم اتفاقنا مع هذا الحكم، فلا يجب أن يغيب عن بالنا تمتع هذا الممثل/المخرج بدهاء فني كبير، يجعله يختار القصص التي تشكل مادة أفلامه بعناية كبيرة، والدليل على صحة هذا الكلام  فيلمه الجديد أرغو/ Argo.
     يتضح أن "بين افليك" عازم على القدوم في مسيرة إخراجية كبرى، فبعدما تحدث عنه الجمهور كثيرا في فيلمه "البلدة"  الذي يدور حول سرقة الابناك، اطمئن على شعبيته لدى الجمهور، وهاهو الان يغير الوجهة صوب النقاد بفيلم جديد عنوانه" أرغوArgo"، وفي كلا العملين يشتغل أفليك أمام الكاميرا وخلفها، كممثل ومخرج، مع تميز كبير في العملين معا، فالمجد الذي بدأ يراكمه على صعيد التمثيل والإخراج من خلال هذين العملين يفوق ما راكمه خلال سنين، ربما لأن سلطة الإخراج منحته الدور الأنسب لميولاته الفنية.
    ما يميز تجربة "بين افليك" هو ذكاءه الملاحظ على مستوى اختيار قصص أفلامه ففيلم "أرغو" يشكل الآن حديث النقاد، ولا زال يحقق الثناء أينما عُرض، وتدور قصته حول أحد أكبر أزمات الرهائن في تاريخ علاقات إيران والولايات المتحدة، حيث اقتحم حوالي 500 طالب إيراني سفارتها في إيران، وقاموا باحتجاز الرهائن داخلها، فهرب ستة أمريكيين من السفارة والتجئوا إلى بيت السفير الكندي، وظلوا مختبئين هناك، وفي هذا الوقت كانت وزارة الخارجية الأمريكية تدرس أفضل خيار ممكن لأعادتهم _سالمين_ إلى الديار في ظل توتر العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ومن ضمن الحلول التي اقتُرحت ترحيلهم بواسطة الدراجات النارية عن طريق الجبال، لكن  العميل "توني ميندز/بين أفليك" _الذي جاء لتقديم المساعدة بحكم معرفته بالوسط الإيراني_ سيقدم اقتراحا يتمثل في إخراج هؤلاء المحتجزين عن طريق اختلاق قصة مزيفة تتمثل في انتمائهم إلى طاقم تصوير فيلم سينمائي خيالي عنوانه "أرغو" على الأراضي الإيرانية، وسينال هذا الاقتراح الموافقة، بل وستوكل مهمة إخراج الرهائن لصاحب الفكرة "توني ميندز"، فيقوم بالالتجاء إلى أصحاب الاختصاص في هوليود التي تربطها علاقة ممتازة مع وكالة المخابرات الأمريكية، حيث ستتم الاستعانة  بـ"جون تشامبرز" ماكيير فيلم "كوكب القردة" الذي فاز عنه بجائزة الأوسكار، وبعد مجموعة من الإعدادات ستتم المهمة وفق المخطط لها، وسيتمكن العميل مينديز من إعادة الرهائن إلى الديار.
 إن اختيار "بين افليك" الاشتغال على هذه القصة الواقعية كان اختيارا موفقا، فيكفي صداها الكبير عند المشاهد الأمريكي، الذي يفتخر بسينماه دائما، لذلك سيشاهد بحفاوة كبيرة فيلما سينمائيا بطوليا يته فيه تحرير الرهائن بواسطة خدعة سينمائية. وهذه القصة وإن كانت مقتبسة عن أحداث واقية فهي لا تحكي الأحداث كما رواها "ميندز" حيث يقول  بلسانه:"الفيلم لا يحكي الأحداث كما جرت، لكنه يقترب منها كثيرا، وهناك أشياء حدثت لا يمكنني الحديث عنها"، لكن الإشكال هنا هو ارتباط حادثة الرهائن بمجموعة من المواقف السياسية، فقد اتضح _كما نتذكر عن هذا الحادث_أن وراء إطلاق سراح الرهائن كان هناك اتفاقات تسليح لفائدة إيران (وهناك تفاصيل كثيرة حول هذا الموضوع يعرفها الذين يتذكرون هذه الواقعة الشهيرة)، وهذا الأمر كاف لكي يجعل الفيلم في نظر البعض غير موفق مهما قدمه من جهد إبداعي، لأن دائرة التلقي لمثل هذه الأعمال تتسع كثيرا، فتختلف معها المطالب بحسب تعدد زوايا النظر، وهذه الفرضية الأخيرة ستعنينا نحن أكثر من غيرنا لأن المسألة تتعلق بقضية نعلم جميعا خلفياتها السياسية.
    وعلى جانب آخر فهذا العمل يتميز بقدر كبير من الفنية والجودة، فــ"بين أفليك" وطاقمه كما أسلفنا  نجحا أولا في التعبير عن الفترة التي يتناولها الفيلم بما يشمله ذلك من ديكور وملابس ومؤثرات بصرية، ومكان وماكياج، وهذه كانت أكبر عقبة تواجه فريق العمل على اعتبار الاشتغال على قصة في مكان/ايران غير مألوف لديهم بالقدر الكافي في ظل استحالة خيار التصوير في إيران كمكان حقيقي وواقعي، كما نجح المخرج كثيرا في اختيار شخصيات الفيلم وإدارتها ومن ضمن ذلك  لعبه دور البطولة، فقد ظهر بخلاف مانعرفه عنه أكثر اتزان  وحاول إخفاء قلقه وخوفه عن الرهائن طيلة أحداث الفيلم وهذه التفاصيل الفنية الدقيقة من صعب أن يصل إليها إلا الممثل البارع. أما الاحداث فقد جعلت أمر التجسيد معقدا فعندما يتعلق الأمر بقصة واقعية، فهي تفرض توفُّر مجموعة من العناصر كمواصفات الائتلاف بين الشخصية الحقيقة والشخصية في الفيلم ودراسة الدور بشكل أعمق حتى يتنفي كل فرق بينها وبين مرجعها الواقعي لأن المتلقي يتعامل مع هذه القصة ومثيلاتها برصيد معرفي تاريخي مسبق، الامر الذي يفرض على المخرج عدم تغييب عامل التشويق عن كل أحداث الفيلم بما في ذلك الاحداث الثانوية أيضا، لذلك سيواجه  السيناريست "كريس تيريو" متاعب كبيرة في عمله تمثلت في  إضافة التفاصيل المتدِّخلة في الأداء، وهو أمر نجح فيه كثيرا، رغم عدم عنايته بتصعيد ايقاع الحوار في بعض الفترات المهمة من الفيلم.
      إن قصة فيلم "أرغو" لا يمكن أن تخضع لمقياس الوفاء للأحداث التاريخية، ولا لمنطق التعبير عنها، لأنه يجب أن يتوفر التوافق على هذه الأحداث أولا وهذه مسألة مستحيلة، والقصة _بغض النظر عن طريقة عرضها للأحداث_فهي تختزل بشكل كبير تاريخ علاقة إيران والولايات المتحدة، لكن ما يؤكد عدم خروج هذا العمل عن الرواية الكاذبة لأحداث التاريخ هو بداية الفيلم التي هي عبارة عن مقدمة منفصلة عن الفيلم دورها  وضع المشاهد في سياق الأحداث، فموقعها السابق  للأحداث يؤطر عملية المشاهدة ويوجهها، فهي وثيقة وثائقية منفصلة عن الفيلم_وإن كانت تابعة له_والتصوير الوثائقي كما يعلم الجميع يتمتع بمصداقية كبيرة، لذلك فبعض الأفلام السينمائية وخصوصا التي تتناول قضايا الصراعات والحروب تعمد إلى هذا التقنية، لكي تقذف بالمتلقي إلى الجانب الذي تريده، ومقدمة فيلم أرغو لا تخرج عن هذا السياق، حيث تعرض أحداث عن تاريخ مملكة إيران وأن الغرب ذهب إليها لاستخراج النفط من أجل شعبها !! وغير ذلك من الكلام الذي يُجمل وجه أمريكا.
   وبعيدا عن الأحداث فهذا العمل حقق نجاحا متكاملا، فبعد المداخيل الكبيرة، داخل الولايات المتحدة جاء ثناء النقاد الذين أشادوا به، ومخرج الفيلم كان يعلم من البداية أن عمله من طينة الأفلام التي تفوز بالأوسكار، وبالفعل فقد فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم في حفل توزيع جوائز الاوسكار هذه السنة، رغم المنافسة الشديدة من فيلم "لينكولن"، وفيلم "حياة باي"، والأمر اللافت في هذه الدورة الاخيرة هو إعلان زوجة الرئيس الامريكي "ميشيل أوباما" عن فوز فيلم أرغو ولم تكن لتقدم على ذلك لولا أن الامر يعتبر إنتصارا سينمائيا لبلد لا يتوانى عن إستثمار الفن السابع في حروبه الاعلامية. لقد كان بين أفليك يفصح دائما عن رغبته في إخراج عمل يفتخر به، والواضح أنه الآن يحقق حلمه، ويحقق لأمريكا نصرا سينمائيا جديدا، ويتأكد مع كل ذلك عشق هذا البلد للسينما التاريخ المزيف.

سليمان الحقيوي