الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  خبايا الصورة السينمائية    
فيلم منتصف مارس،السياسة العميقة لأمريكا


  سليمان الحقيوي   

يعد الممثل الامريكي "جورج كلوني" أحد المشاهير المساندين للرئيس الامريكي "باراك أوباما"، وهو لا يبدي أي تحفظ في دعمه؛ فيكفي أن يعلن في إحدى خرجاته الإعلامية عن هذا الدعم لكي يؤثر على عدد كبير من الأمريكيين، وبالتالي توجيه اختياراتهم السياسية، كما أنه يعقد لقاءات اعلامية لجمع تبرعات تدعم الحملة الانتخابية لترشيح "باراك أوباما" لولاية ثانية.
     إن هذه الميولات السياسية قد تدفع البعض إلى الاعتقاد بأن للرجل أطماع سياسية مستقبلية، وهذا أمر ينفيه "كلوني" نفسه في مناسبات عديدة، حيث يؤكد، أن هدفه من دعم "اوباما" يعود أساسا إلى اقتناعه ببرنامجه السياسي،  وكذلك النتائج التي تحققت خلال فترته الرئاسية الأولى، مما يجعلنا نطمئن إلى أن المسافة الكبيرة بين السياسة  وجورج كوني لن تتغير أبدا، ولكن بطل ثلاثية " ocean’s"لم يحافظ على ذات المسافة مع السياسة فنيا، حيث سنلاحظ لديه ميلا ملحوظا لأفلام السياسة؛ فقد كتب وأخرج فيلم  (good night and good luck/ ليلة سعيدة وحظ سعيد)  سنة 2005 ، وعاد بنا من خلاله إلى فترة مظلمة من التاريخ الأمريكي وهي فترة الصراع مع الشيوعية،  ثم سيعود سنة 2011 ليمارس عشقه لسينما السياسية،  بإخراج فيلم  سلم السلطة /the ides of march ، وهذا العنوان له مدلول عميق قصده المخرج، فهو يدل في التقويم الروماني على تاريخ 15 مارس، وهو تاريخ يرتبط بحدث الخيانة العظمى التي تعرض لها  "يوليوس قيصر" حيث تم اغتياله في 15 مارس سنة 44 ق.م، فكان استحضار هذا التاريخ استحضارا لمفهوم الخيانة؛ التي سنجد امتدادا لها في هذا العمل؛ من خلال خيانة الشخصيات لبعضها البعض، أو خيانة الرئيس لمبادئه... والملاحظ أن "جورج كلوني" قد اتجه إلى هذه النوعية من الأفلام بعدما بدأ منذ مدة ينتقل تدريجيا إلى العمل خلف الكاميرا، حيث يعتبر فيلم "سلم السلطة " رابع عمل له كمخرج، وكلا العملين المذكورين يقعان داخل هذه المرحلة، مما يعني أن الأمر يتعلق باختيارات شخصية محضة، لكن إشتغاله بالإخراج لم يُنسِه شغفه الأول بالتمثيل؛ فأخذ لنفسه دورا في الفيلم بجانب قيامة بعملية الإخراج والكتابة أيضا.
      يحكي هذا العمل عن حملة الرئاسة الامريكية للرئيس "موريس/كلوني"، الذي يخوض الانتخابات الرئاسية عن الحزب الديمقراطي، ويحمل مشروعا جديدا يهدف إلى إحداث ثورة صناعية جديدة تستغني عن النفط كمصدر للطاقة، حيث يدير "ستيفن مايرز/ رايان غوسلنغ"هذه الحملة باحترافية كبيرة مستفيدا من ذكائه الكبير في توجيه الإعلام وإيمانه العميق بمبادئ ومثالية المرشح الذي يعمل لحسابه، ولذلك سيتحمل عناء تسويق كل أفكاره وقولبتها لتتلاءم مع فهم المواطنين، ومع اشتداد ضراوة الحملة يقع " ستيفن مايرز " ضحية مآمرة يدبرها مدير حملة المرشح المنافس، وعندها ستنقلب أحداث الفيلم كليا، فطريقة الإيقاع به ستجعله يغير فهمه السابق للسياسة، فكل شيء فيها معروض للبيع، وسيكتشف زيف المرشح الذي كان متحمسا له في البداية، ويقتنع بعد ذلك بحجم  الفساد السياسي في بلاده.
    جورج كلوني لم يعط لنفسه دور البطولة، لكنه انسجم كثيرا مع دور المرشح الرئاسي "موريس"، وسيعمل على اقناع فريق عمله في الحملة قبل أن يقنع الناخبين بمبادئه !!، ورغم هذا الظهور القليل فقد أمتع الجمهور بآداءه الرائع، أما "رايان غوسلنغ" فقد كان من نقط القوة في هذا العمل؛ فقد أظهر إمكانات كبيرة، خصوصا وأن القصة تتمحور حوله، لذلك سنجده يجسد الانعطافات المتعددة في القصة بانفعالات تراعي درجة المقامات الآدائية، وستكون ملامحه خير معبر عن ذلك كلما اقتربت منه الكاميرا، ونفس الحكم ينسحب على طاقم التمثيل في هذا في هذا العمل.
     وبالإضافة إلى الأداء فقد تميز العمل أيضا بإخراج متقن، فــ"جورج كلوني" استفاد كثيرا من عمله كممثل؛ لذلك سيترك الحرية للممثلين في آدائهم، مع الاستغناء عن الحوارات الطويلة المملة، والتركيز على ملامح الممثلين بلقطات مقطعية كبيرة، تساهم في اقترابنا من أحاسيسهم وانفعالاتهم، وما يزيد من اهتمام المخرج بأداء ممثليه، اعتماده على موسيقى تصويرية كخلفية للحورات ومؤثتة لها، لا ترتفع لتحجب عنا الأصوات بل تسايرها في تناغم معبر، أما الألوان فقد كانت طبيعية شفافة مع إضاءة قوية في بعض الفترات، حيث تجعل المنظر مكشوفا أمام المتفرج، ولم يعمد المخرج إلى التركيز على الحبكة كمنعطف حاد، بل بنى الأحداث باتجاه العقدة تصاعديا وبسلاسة تساير ايقاع الفيلم.
    لقد بدأ العمل بلقطة قريبة من داخل قاعة الخطابات الرسيمة للمرشحين، وتجولت الكاميرا كثيرا في الكواليس، لتوجه انتباه الجمهور إلى مضمون الفيلم..فيتأكد في الأخير بأن كل ما يدور في هذه القاعة هو مجرد لعبة، وأن عملية اختيار الحاكم لا تمر كما نعتقد، وكل ممارس للسياسة لا بد أن ينجر إلى ألاعيبها، لقد كانت عمليات الابتزاز تحرك الشخصيات من كل جانب، بل جعلها المخرج لغة تحاور وتواصل تضاهي كل لغة أخرى في هذا العمل. عرض الفيلم جاء في مرحة مهمة من حيث اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكة، ومن شاهده سيغير -دون شك-فهمه للسباق الرئاسة في أمريكا، وسيعيد النظر في خطابات المرشحين المبنية على الزيف، فالمخرج ركز على هذه الخطابات باعتبار قوتها التأثيرية، وصورها بالمسرحية التي تهدف إلى الإيقاع بالناخبين من حيث اللعب على حبال الحماس والوطنية لديهم...
     لقد جاءت بداية الفيلم بطيئة نسبيا ليتسنى لنا الإمساك  بالخيوط والربط بينها، مع ترك النهاية مفتوحة؛ لكن الحوار الذي دار بين "موريس" و"مايرز" يؤطر هذه النهاية؛ فالمرشح سيفوز بالتأكيد، إذا سلك الطريق الذي رُسم له، بل سيضمن ولاية ثانية، وبهذا فالمخرج يؤكد على أن المرشح الذي يفوز بكرسي الرئاسة، يفوز تحت ظروف معينة؛ تتحكم فيها أطراف خارجية، وبذلك يصير الرئيس مجرد لعبة يُتحكم فيها عن بعد؛ وهذه الأشياء لم يعلن عنها جورج كلوني صراحة، ولكنها بادية واضحة تكشف عنها الأحداث، كما ركز الفيلم أيضا على الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في التلاعب بالعقول في أمريكا، فالمواطن الأمريكي لا يناقش ما يقدم له بل يقبله على أنه الحقيقة المطلقة.
        لقد كشفت خطابات موريس نظرة المرشحين الرئاسين للعرب والبلدان النفطية خصوصا، ولخص العلاقة مع هذه البلدان في الاستفادة من النفط فقط، الذي تعهد أن يعوضه بمصادر طاقة أخرى، وبالتالي قطع العلاقة مع هذه البلدان. لكن من جهة أخرى فهذا  العمل قد يبدو  متعارضا مع موقف "جورج كلوني" المساند لأوباما !! ولكنه من زاوية ثانية  يجد له العذر بهذا العمل على اعتبار الضغوط التي قد يتعرض لها الرئيس داخليا وخارجيا وهو ما يمثل تبريرا لبعض اختيارات الرئيس الأمريكي.
     الفيلم يسلط الضوء على موضوع يهم الأمريكي قبل غيره، بمعالجته لمستنقع السياسة في هذا البلد، ولكنه سكت عن الضغوط الخارجية  المتمثلة أساسا في اللوبيات الكبرى التي تحرك الاقتصاد الأمريكي باعتبار دورها الكبير في اختيار  الرئيس وفقا مصالحها، ولكن رغم ذلك فالفيلم يبقى عملا رائعا ليس فقط بجاذبية الموضوع، بل أيضا بكل الجوانب التقنية الأخرى.

سليمان الحقيوي