الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  خبايا الصورة السينمائية    
رؤية فنية لقضايا المجتمع

  سليمان الحقيوي   

في السنوات الأخيرة ظهر مفهوم الأزمة المالية، وأخذ جانبا مهما من اهتمام الناس، بل وحجز مكانا مريحا ضمن ما تقدمه وسائل الإعلام من أخبار، وكما هو حال السينما _دائما_ فلم تكن لتفوت فرصة احتضان هذه الفكرة، وترويضها سينمائيا، ومن أهم الافلام التي أبرزت الوجه البشع لهذه الازمة نجد فيلم عاليا في السماء.
   الأزمة المالية أصبحت الآن واقعا يفرض التكيف معه، ونحن وإن كنا نعيش وسط هذه الازمة فالقليل منا _حقا_ من يحاول الوقوف عند تجلياتها، وكأن هناك تواطؤ عام في فهمها دون الخوض في تفاصيلها، فيلم"عاليا في السماء" يأتي  ليدفعنا إلى إعادة اكتشاف حقيقة الأزمة، بل ويحسسنا بنعمة أن يكون لدينا عمل، فالفكرة التي اشتغل عليها "جايسون ريتمان" كتابة وإخرجا هي فريدة من نوعها، وهذه الفرادة تنبع أساسا من طريقة حضور موضوع الأزمة في السيناريو، فهو لم يحاول  اقتحامه بطريقة مباشرة وشرسة بل وجد له مداخل يتقاطع فيها ما هو كوميدي بما هو درامي واجتماعي، لذلك ضمن لعمله تميزا فنيا كبيرا.
    قصة هذا العمل ترتكز حول انعكاسات الازمة الاقتصادية العالمية على سوق الشغل حيث تضطر أغلب الشركات في أمريكا إلى الاستغناء عن عدد كبير من عمالها، وما دام أمر الاستغناء أو الطرد !! أمرا معقدا وصعبا، فقد استدعى هذا ايجاد طريقة تخفف وقعه على الناس، و"وريان بنغهام/جورج كلوني" يشتغل في مؤسسة تقدم هذه الخدمة أي تسهيل عملية طرد العمال وفصلهم عن العمل، وهو يعتبر من أهم أطر هذه الشركة، لذلك سنجده دائم السفر والتنقل بين الشركات التي تستغني عن عمالها، وطبيعة هذا العمل لم تفرض على "بنغهام" السفر فقط، بل فرضت عليه التخلص من كل الأحاسيس الإنسانية، فهو غير معني بما سيسببه فصل أحدهم، أو كيف سيكون شعوره حيال ذلك، لأن الأمر في نظره هو عمل يقوم به، والشيء الوحيد الذي يقدمه هو مجرد كلام قد يساعد الانسان على تقبل واقعه الجديد..، وكاد "بنغهام" أن يجرب ذات المصير، بعدما استقدمت الشركة شابة طموحة تحمل مشروعا يغير طريقة العمل بشكل كلي، حيث ستؤدي الشركة نفس عملها السابق دونما حاجة إلى السفر، وطرد الناس بشكل مباشر، بل عن طريق اجراء مقابلات بواسطة الفيديو، الأمر نال إعجاب مدير الشركة لأنه سيقلص النفقات بشكل كبير جدا، وهو ما يعني الاستغناء عن نوع العمل الذي يقوم به "بنغهام"، الذي يعشق عمله بشكل كبير جدا فهو يستمتع بالسفر الدائم والإقامة في الفنادق الفاخرة،  وهذا ما جعله دائما التحليق ووجها معروفا لدى شركات الطائرات الأمريكية، حيث قضى من عامه الاخير 322 يوما مسافرا جوا، ولولا استقالة هذه الموظفة الشابة بسبب انتحار احدى المفصولات عن العمل لجرب "بنغهام" نفسه ما يذيقه للناس.
   الجميل في هذا الفيلم هو الولوج إلى مستوى أعمق في فهم الأزمة، والبساطة في إيصاله إلى الجمهور، ولذلك سنجد المخرج يستعين بموظفين فعليين طردوا من عملهم فعلا، وهم الذين شاركوا في الفيلم، حيث قام المخرج بنشر اعلانات في الصحف قصد التواصل مع مثل هؤلاء الناس، فكان دورهم أن ينقلوا إلى الناس نفس الكلام الذي قالوه فور تلقيهم خبير الإقالة، وتجسيد ذلك بنفس الاحاسيس الحزينة..وهذا ما يفسر البعد الواقعي الذي تميزت به  هذه المقابلات في الفليم، والمخرج لم يستعن بممثلين هم في الأصل عمال مطرودون، من أجل عامل النجاح فقط، بل كان يراهن في المقام الأول على إيصال معاناة الناس بصدق أكبر...  فلا أعتقد أن هناك عملا آخر يضاهي ما قام به "جايسون ريتمان" في نقل مخلفات الأزمة على الافراد بشكل صادق كالذي شاهدناه. وعلى كل حال فلم يكن هذا الأمر هو حسنة المخرج  الوحيدة في هذا العمل، فهو متخصص في الكوميديا الاجتماعية، والأفكار البسيطة والعميقة، فبعد فيلمين رائعين هما "جينو" و"شكرا على التدخين"، صارت هذه اللغة أكثر ارتباطا به، ونجد لها امتداد في العمل الذي نحن بصدد الحديث عنه.
     وفي جانب آخر من جانب العلاقات سنجد "بنغهام" يفشل في علاقاته العاطفية، حيث ستقوده علاقته المتحررة مع أليكس/فيرا فارميغا"، _التي تشبهه في حبه للسفر_ إلى اكتشاف معنى الارتباط ومعنى مشاركة الحياة مع الآخرين، ولكن قبل أن يفهم هذه المعاني جيدا يكتشف أنها إنسانة متزوجة، فينكص إلى حياته السابقة؛ السفر والتحرر من كل شيء. وعلى مستوى الأداء فقد بدا جورج كلوني وكأنه يمرح في هذا الدور، وهذا ما عبر عنه في إحدى الندوات عن الفيلم، ربما لأن جورج كلوني من الممثلين المحبين للمساحات الكبيرة داخل السيناريو، أضف إلى ذلك أن حياته في الفيلم هي أشبه بالحياة التي يعيشها في الواقع فهو المعروف بـ"أعزب هوليود"، لذلك كان الدور ممتعا بل ومألوفا لديه..ولكن بقدر ما كان "بينغهام" قاسيا وعديم الإحساس في عمله، بل وحتى في علاقاته العاطفية فقد عاقبه السيناريست من نفس جنس أعماله، ووضع أمامه شخصية تشبهه كثيرا هي "أليكس" التي ستتلاعب به بعدما بدأت أحاسيسه تتعلق بها.  والحكم بروعة الأداء ينطبق أيضا على الممثلة " فيرا فارميغا" المحبة لقصص الكوميديا الاجتماعية، فقد أدت دورها باتقان كبير، خصوصا في المشاهد التي تلت إكتشاف "بينغهام لحقيقة زواجها.
      أما عتبة العنوان فلا يمكن أن نقيد دلالتها بما تريميه من ظلال على حياة السفر فقط، بل جزء كبير من المعنى يجب أن ينسحب على زوايا أخرى "فعاليا في السماء" تدل منطقيا على الحرمان مما هو موجود على الأرض، حيث توجد العائلة بدفئها، والعلاقات الإنسانية وما تمثله في حياة الناس، وهي أشياء لا يؤمن بها "بينغهام"، ولم يجربها من قبل، وحتى حينما انتبه إلى هذا الفراغ فلم يستطع النجاح فيه، لأن المخرج أراد أن يقول: إن حياة بينغهام المسافر، على حساب حياته الاجتماعية.
   ومن المؤكد هنا جمالية السيناريو الذي كتبه المخرج بالاشتراك مع الكاتب "شيلدون تيرنر"، عن رواية معروفة للكاتب"والتر كيرن"، وتعود فكرة السيناريو إلى سنة 2002 حيث كان مفهوم الازمة فكرة غير مطروحة بشكلها اليوم، ولكنه انتظر إلى سنة 2009، وهي فترة يعاني فيها العالم من أزمة اقتصادية خانقة، وهذا الأمر شكل عامل ايجابيا بالنسبة لنجاح الفيلم فالإحساس بالفكرة كان كبير جدا، وتفاعل الناس مع قصة الفيلم لأنها تشكل الآن واقعهم الفعلي، لذلك وصلت مداخيل الفيلم لأكثر من 160 مليون دولار، وميزانية إنتاج تقدر بـ25 مليون دولار فقط، وهذه الأرقام هي مألوفة في فلسفة "جايسون رايتمان" فهو لا يحبذ الأفلام ذات الميزانيات المرتفعة، بل يشتغل على الافكار البسيطة والمثمرة.
لقد نجح المخرج في إبراز الوجه البشع للأزمة الاقتصادية، وكشف مجموعة الأبعاد الإنسانية في قصته، وطريقة العمل تكشف عن اشتغال صادق على موضوع الأزمة المالية وليس فقط مجرد دراما اجتماعية جذابة.

سليمان الحقيوي