الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  خبايا الصورة السينمائية    
إخراج كلاسيكي وانتصار للسرد، فيلم "المصلح، الخياط، الجندي، الجاسوس"


  سليمان الحقيوي   

بعض الأعمال الجيدة تفرض عليك -أثناء تلقيها- اهتماما كبيرا، واستعدادا نفسيا ملائما لنوعيتها، واستنفارا لأقصى أداء ممكن للحواس من أجل مسايرة الكم الجمالي الذي تعد به. ومثل هذه الأفلام -التي لا نصادفها دائما- تفرض كذلك إيقاعها على المتلقي وتقذف به وهو غير مدرك نحو عوالمها المتشابكة وفيلم (المصلح، الخياط، الجندي، الجاسوس) من دون شك هو واحد من هذه الأعمال.
     شخصيا أجلت مشاهدة فيلم " المصلح، الخياط، الجندي، الجاسوس" مرات عديدة، على الرغم من رغبة ملحة لمشاهدته، لكن دائما كان هناك إحساس بعدم الاطمئنان يخيم علي، لأن قابلية التلقي لم تكن تتلاءم مع حجم وقيمة العمل، وظل الحال كذلك إلى أن توفرت ظروف ملائمة لعملية المشاهدة. منذ البداية يتضح المسار الجمالي للقصة وتظهر وجوه سينمائية كبيرة فنحس أكثر بأن المتعة صارت مضمونة بوجود "غاري أولدمان" و"كولين فيرث" ومارك سترونغ" و"جون هارث"، الذين لا تحس معهم بتلك الرتابة التي قد تظلل بعض مشاهد الفيلم، وكل هؤلاء لديهم تاريخ سينمائي حافل جعل المخرج يفضلهم عن غيرهم.
    وتبدأ المكاشفة الفنية انطلاقا من غرابة العنوان فهو غير مألوف إطلاقا، والمخرج كان يعلم أنه سيكون مستفزا للمشاهد، لذلك فضل الاحتفاظ بعنوان النص الأصلي وهو رواية بنفس الاسم للكاتب الانجليزي "جون لوكاريه / jonh le carée التي تعود إلى أربعة عقود، وتدور حول الحرب الباردة، وقصة الفيلم لم تخرج كثيرا عن النص، حيث سيعود بنا بدوره إلى سبعينيات القرن الماضي حيث عاش العالم حربا باردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وقصة الفيلم تبدأ بفشل مهمة تسليم معلومات في الأراضي الهنغارية، وهو ما جعل رئيس مكتب الاستخبارات السري البريطاني، "كونتول" الذي جسده المبدع الكبير "جون هارث" يحس بوجود جاسوس بين نوابه الخمسة (عليهم يدل عنوان الفيلم المتكون من خمس كلمات)، وسيضطر إلى إعادة جورج سمايلي/غاري أولدمان بعد تقاعده ليكشف عن هذا الجاسوس الموجود بينهم ، وسمايلي هذا هو عميل قليل الكلام يظهر بتجاعيد تعلو جبينه دلالة على السنوات التي قضاها في هذا العمل وهو يمتلك ذكاء كبيرا وحنكة في تتبع خيوط التحقيقات. تشتبك الأحداث بطريقة معقدة جدا، وننتقل في الأمكنة بين اسطنبول وبودابيست، فيتتبع سمايلي علاقات زملائه، إلى أن يصل إلى تنفيذ مهمة الكشف عن الجاسوس. و هذا العمل وإن كان في الظاهر فيلما عن الجاسوسية فهو أيضا يطرح قضايا أخرى تتعلق بالصداقات والولاء في تلك الأوقات الصعبة والمظلمة، وتمس من بعيد أيضا ما عاشه المنتمون إلى تلك المهن منة خوف واضطراب من أجل حماية بلدانهم.
     الفيلم _دون شك_ يعتبر من أفضل الأعمال التي قُدمت حول موضوع الجاسوسية، مع أن مقارنته بإحدى تلك الأفلام ستكون ظالمة له، كونه يتميز بإيقاع رتيب وبطيء جدا، لذلك طرحتُ منذ البداية مسألة الاستعداد الجيد الذي يليق بقصة هذا العمل، هذه الرتابة ليست شيئا سلبيا هنا، بل هي مدخل أساسي لفهم الفيلم، لذلك سنجد المخرج" توماس الفردسون"  يختار طريقة إخراج تقليدية، أو قل، أن القصة تفرض طريقة كلاسيكية، غير أن هذا العمل يبدو أنسب لمزاج وشخصية المخرج الذي يبدو منتصرا للمدرسة القديمة، وغير آبه لإغراءات هوليود فهو يفضل أن يتريث كثيرا قبل أن يقبل العمل _بشروط خاصة_ على قصة ما، ربما هي مبالغة من مخرج لم يحقق بعد مجدا سينمائيا، لكن الأمر أقرب إلى احترام مزاج فني صعب. ومسايرة لهذا المزاج سيقنع الفردسون منتجي عمله بطريقة التعبير عن الفترة التي يتناولها  الفيلم، فأراد أن _ليس فقط_ ينقل لنا عقد السبعينات ولكن أن يعود بنا نحن إلى ذلك التاريخ، وهذا ما عبرت عنه لاحقا المنتجة "روبن سولوفو"، التي قالت أيضا أن الاستعانة بهذا المخرج بدا رهانا غريبا في البداية، وعلينا أن نعترف بأن هذا المخرج المتطلب فنيا نجح في هذه التجربة، ربما لأن هذا العمل هو أقرب إلى طبعه وأن شخصية سمايلي هي نسخة عنه، وبذلك سيكون هذا العمل بالإضافة إلى عمله السابق:Let the right one in  نجاحين يضمنان له مكانا بين كبار المخرجين، وبالتبعية تبريرا لأسلوبه الغريب.
وكما علمتنا السينما فإن الفيلم الجيد يكون نتيجة نص وسيناريو جيدين، وسيناريو هذا العمل من كتابة كل من بريدج أوكنور"و"بيتر ستوغان"، اللذان لم  يحيدا كثيرا عن نص الرواية، لكن الاشتغال عن نص بإيقاع مماثل أمر شاق جدا ويفرض كاتبا متمرسا ليس فقط في الكتابة ولكن في قصص مشابهة لهذه، والسيناريو كان من النقط القوية في هذا العمل، خصوصا إضافة الكاتبين باقتراح من كاتب الرواية مشاهد استرجاع ساهمت في الربط بين الأحداث، وربط الحلقات المفقودة.
لقد كان طاقم العمل وخصوصا في جانب الأداء، منبع الإثارة في الفيلم، فمن لا يعجب بفكرة أن يشاهد فيلما يلتقي فيه "غاري أولدمان" الذي ترشح لجائزة الأوسكار عن هذا العمل و"كولين فيرث"، الذي فاز بجائزة الأوسكار عن فيلمه خطاب الملك و "توم هاردي" الذي ترشح لذات الجائزة في أكثر من مناسبة...،وهؤلاء جميعا كانوا أنسب اختيار لقصة مرهقة كثيرا، بالإضافة إلى اختيار المخرج بشكل مبالغ التركيز على اللقطات المقطعية على الوجه، ما يعني أنك كممثل مكشوف أمام المتفرج بما تقوله وكيف تقوله، ويحدثنا غاري أولدمان بشكل طريف عن اختيار المخرج ابقاء الكاميرا مركزة على الوجوه كثرا " أنه اندهش كثيرا حينما حافظ المخرج على هذا الاختيار في مشهد كان عدو سمايلي يقترب منه، والأمر هنا يقتضي تحويل الكاميرا إلى هذا القادم وليس إبقاءها على وجه سمايلي، وهذا ما دفع أولدمان أثناء التصوير أن يقول للمخرج :"هل تحب أن تأخذ المشهد من زوايا أخرى فرد عليه المخرج ولماذا !!"، ففضل الإعلان عن قدوم العدو بمؤثرات أخرى، وهذه الطريقة تطلبت _ولاشك_ وجود طاقم كالذي شاهدناه في الفيلم.
    وعلى جانب آخر فهذا العمل هو أول فيلم ناطق بالانجليزية للمخرج السويدي الفردسون، وهو إنتاج فرنسي ألماني بريطاني مشترك، حيث أنتجته الشركة البريطانية Working Title films، بتمويل من الشركة الفرنسيةFranc’studio Canal ، بميزانية تقدر ب21 مليون دولار أمريكي، والنتيجة كانت فيلما يحقق النجاح لدى النقاد والجمهور وأرباح فاقت بأضعاف كثيرة ميزانية الإنتاج، كما رُشح لثلاث جوائز اوسكار لسنة 2012، بطاقم عمل أغلبه أوروبي، وهو ما يعني أن هوليود حاليا، ليست هي المنتج الوحيد للسينما الجيدة، فهذه التجربة بالإضافة إلى تجارب أخرى سابقة تدل على أن السينما الأوروبية  قد تعود إلى لعب دورها الريادي مستقبلا.

سليمان الحقيوي