الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  نقد    
الحياة أشلاء..على قارعة إبداع فيلمي يلامس الروح و الجسد

  ملصق فيلم   

المخرج "حكيم بلعباس" مخرج من نوع آخر. له رؤية للحياة. يحاول من خلال أشرطته  أن يظهرها لنا  بشكل جميل ومبدع رغم قساوة الموضوع أحيانا. شريط"أشلاء"، شريط حائز على الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة في دورته 12، بين 21و29 من شهر يناير 2011. شريط جريء و تكمن جرءته في تناول عائلته كموضوع . عائلة مغربية بكل عاداتها و تقاليدها و تناقضاتها و حياتها البسيطة بدون أن يحاول أن يجمل. في تلقائية الشريط تكمن قوته الإبداعية. فهو شريط يحمل ثقافة محلية وكونية. بأبعادها الشعبية و الثقافية والتاريخية. الشريط عبارة عن أشلاء متناثرة لكن تحمل بين طياتها وحدة الموضوع. الذي هو الإنسان العادي و المنسي و المهمش. كيف يعيش هذا الإنسان مع واقعه و يتلاشى تدريجيا مع الزمن. كاميرا المخرج كانت قريبة من جسد الإنسان و ما يفعله به الزمن من تقاسيم وحفريات. الكاميرا تقف بشكل دقيق و مطول على الوجوه المليئة بالحزن والتفكير و البؤس و تترك لها حرية الكلام أو الصمت. كالرجل الذي لفظه الزمن و خانه جسده و لم يعد يقوى على الحركة. من خلال الحوار العفوي، نفهم بأنه كان صاحبة بنية قوية و حضور جميل بين سكان الحي، لكن فعل الزمن كان أقوى و توارى عن الأنظار بشكل تدريجي حتى استحال جزءا من الأرض التي يستلقي فوقها. الزمن هو بطل الفيلم. يفتتح الشريط بحوار مع أبيه الذي فقد الرغبة في الحياة و يتمنى الموت حتى يرتاح. حوار أمام الكاميرا بكل تلقائية و رغبة الأب في النهاية الحتمية. نسمع صوت المخرج من وراء الكاميرا لكي يعطي بعدا آخر للحوار مع أبيه. يتشعب الشريط مع أحداث عائلية أخرى كلها تبحث عن معنى الحياة و الموت من خلال أسئلة عادية تطرح على أ ناس بسطاء حتى الأطفال و كيف يرون الحياة و ماذا هناك بعد الموت. و خلال هذه المحطات، يكون الأب حاضرا بشكل قوي بحيث نرى تدهور صحته تدريجيا مع الزمن و كيف أنه لم يعد ذاك الرجل الذي شاهدناه في البداية. أعطى المخرج لفيلمه بعدا إنسانية حتى لا يعتبر فقط سيرة ذاتية، رغم أن ذات المخرج تكون دائما حاضرة من خلال رؤيته و تحليله للأشياء. لكن المخرج هنا أخذ حياة عائلته منذ عشق السينما و هاجر للعيش في أمريكا و جعل من شخوصها الفعليين موضوعا بكل تلقائيتهم و طبيعتهم. هناك تداخل غير مرئي بين الذاتي و الآخر. هذا البعد الإنساني يكمن في  لقائه مع أسرة بربرية كانت قد فقدت ابنا لها و اختفى و هي تدعي باختطافه.... تجمع الكل حول الكاميرا كأنهم كانوا ينتظرون من يسمع شكواهم و يعطيهم إحساسا بالأهمية. وبدأت الحكاية المرة تروى من فم الأب الضعيف البنية قوي الذاكرة و النفس. و استرسل الحديث عن الابن الغائب ..حضرت الأم المقهورة، اتجهت نحوها الكاميرا وتوقفت عند ملامحها الواهنة التي أثقلها الزمن و رسم على خدودها تجاعيد الزمن الغابر. لم تتكلم الأم إلا بضع كلمات بصوت خافت ثم صمتت و ظلت عينيها تواصلان الحديث. التوقف عند ملامح الأم أعطى للحظة قوة كبيرة ومغزى عميق من نقل مشاعر أم أنهك الحزن و الانتظار كاهلها في انتظار شفق في الأفق يبزغ من بين براثين الظلام. و هي رسالة قوية للجهات المسئولة و المعنية. كاميرا "حكيم بلعباس" تغوص بين ثنايا أ ناس على الهامش، يموتون يوميا بشكل تدريجيي في صمت مخيف و لا ينتبه إليهم احد. رجل مسن مع زوجته في بيت قصديري تهاطلت عليه الأمطار، يرتدي لباسا رثة يقوم ليتوضأ رغم خيانة جسده له. حركات بطيئة و أليمة، تقترب الكاميرا من جسده النحيل و نرى فعل الزمن و آثاره عليه، تتحرك الكاميرا إلى داخل غرفة مظلمة لا تتوفر بها شروط حياة كريمة. تجلس في الوسط امرأة مسنة لا تتكلم جسدها ينطق عبر لقطة مكبرة.
نعود بين الفينة و الأخرى إلى عائلة المخرج لنعيش لحظات مبتهجة نوعا ما مع احتفال. كأنه يقول لنا هناك الموت والحياة.  هناك الحزن و الفرح...هل هذا قدر أم أنه من فعل الإنسان؟ و خلال هذه الحفل العائلي، نرى الأب أصبح غير قادر على مغادرة البيت. جسده بدأ يتلاشى. كيف يمكن محاصرة الزمن؟ أسئلة وجودية يطرحها الشريط و يحاول أن يفهم أو يطرح مجرد سؤال حتى على الأطفال. ماذا هناك بعد الموت؟ حضر الموت في بيت المخرج بدفن والده. النهاية التي كان يتمناه في بداية الشريط. و ينتهي الشريط بلقاء الابن أي المخرج مع والده و هو يودعه للسفر إلى أمريكا. لحظة فراق كانت قاسية جعلت من المخرج أن يطول الوقوف عندها. كأنه وداع من نوع آخر.
سيناريو الشريط عبارة عن أشلاء متناسقة. صعب أن تجمع أشلاء و تجعل منها موضوعا متكاملا و معبرا. و هنا تكمن قوة المخرج الإبداعية. ركز على كل ما هو عادي و مهمش في حياتنا العادية. أناس يعيشون بيننا و لا نعيرهم أي اهتمام فقط ينتمون إلى هذا العالم. حياة تمشي بسرعة شديدة و أحيانا مملة حتى يفعل الزمن فعله دون أن ندري أو ندري و لا نريد أن ندرك ذلك. هناك الموت اليومي و هناك الحياة و هناك السؤال السهل الصعب على الإدراك حول ماهية الوجود. هل يجب أن نطرح السؤال أم نترك الحياة تمشي على طبيعتها حتى لا نتعب. شريط جميل رغم رائحة الموت المنبعثة منه. لكنه حقيقة عن واقع مجتمع حاضر بيننا بكل أفراحه و أحزانه. بكل فقره و غناه....الكاميرا كانت توثق للزمن و تقف عنده و تترك الحرية للآخر في الكلام أو الصمت...الآخر هو الذي فرض صيرورة الأحداث التي يعيشها. وجاء المونتاج الذي جعل من الشريط تحفة فنية رغم بساطته و رغم تراكم الأحداث و اختلاف زمن وقوعها وسبب وقوعها. لأن رؤية الفنان جعلته يعطينا عملا فنيا مختلفا من حيث الموضوع و الكتابة الفيلمية والإخراج...

أمينة شرادي