الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  خبايا الصورة السينمائية    
أبو إبن آدم، نموذج فني بتكاليف متواضعة


  سليمان الحقيوي   

    قد يدفعنا المنجز السينمائي _الذي يتميز عموما بالغزارة_ إلى التنازل عن بعض المطالب الجمالية التي يتشكل منها سقف ذوقنا الفني، وقد ينسينا إغراقنا في مسايرة مستجدات السينما، بعضا من الأفلام الجميلة التي لا يقوم حولها صخب؛ تمر في الظل ولا ننتبه لها، ولعل أحد هذه الأعمال الفيلم الهندي أبو ابن آدم الذي انطلق من البساطة لخلق نموذج سينمائي يعلي من القيم الإنسانية النبيلة.
      إن الجميل مشروط دائما بمحدِّدات فنية، التي قد تختلف بدورها من شخص لآخر، وفي مجال الفن السينمائي _خصوصا_ تزيد صعوبة إصدار حكم الجمالي؛ سواء من حيث ندرة الأعمال التي قد ينسحب عليها هذا الحكم_مؤخرا_، أو لعدم تطابق الأحكام حول عمل سينمائي معين، لكن "فيلم أبو ابن آدم" قد لا يكون مصدرا لاختلاف الرؤى حوله، كما قد يشترك في وصفه بالجمالي المتلقي بأصنافه المختلفة سواء أكان عاديا أو متخصصا، وقد يدرك معنى هذا الكلام كل من شاهد هذا العمل الذي انطلق من قصة بسيطة وعميقة في نفس الآن؛ تدور حول زوجين يعتنقان الإسلام ويعيشان في قرية صغيرة بالهند، وبينهما هناك حياة ملئها السكينة والاحترام والحب، ويجمعهما حلم واحد هو أداء مناسك الحج.
    سيشكل هذا الحلم حجر الزاوية في هذا العمل، لأنه ليس مجرد حلم عادي بل هو الأمنية التي يعيشان عليها، فيعمل الزوجان بجهد، ويتحملان مشاق الحياة بفرح، من أجل توفير تكاليف الحج؛ فيسافر الزوج العجوز بشكل يومي إلى المدينة من أجل بيع العطور وبعض الأعشاب، أما الزوجة فتقوم ببيع الحليب، وتقضي وقتها جالسة على عتبة المنزل تنتظر عودة زوجها شاردة تارة، ومبتسمة تارة أخرى لأنها ترسم صورة لها ولزوجها وهما يطوفان حول الكعبة، ويعيش الزوجان بزهد كبير لذلك نجدهما يدخران كل ما يجمعانه من مال داخل صندوقهما الخشبي، وفي المنزل يستأثر موضوع الحج بكل حواراتهما، بل يكاد يكون الموضوع الأوحد، في الحلم، وفي اليقظة، بل هو محرك مشاعرهما، يصنع فرحتهما ويرسم ملامح حزنهما.
     ولم تكن عملية توفير المال الكافي للسفر مهمة يسيرة، فقد باعا كل ما يملكانه، حتى الشجرة التي تمثل لهما ذاكرة المكان، لكن في النهاية لم يوفقا في جمع ما يغطي مصاريف الحج كاملة، فالشجرة التي باعاها لتاجر الخشب تبين أنها جوفاء، وهو ما منع الزوج من أخذ مقابلها المادي رغم حرص التاجر على دفع المبلغ، فالزوج لم يشأ الاستعانة بأية مساعدة مادية، لأنه سيخالف بذلك شروط الحج، وهو الذي يريد آداء هذه الفريضة بطريقة مثالية، إن هذه القصة رغم البساطة التي قد تبدو عليها فهي تضعنا في امتحان بصري ونفسي صعب، حيث كان الفيلم مجالا مفتوحا لاختبار أهم القيم الإنسانية لدينا.
    نلاحظ أن الأحداث كانت تسير بإيقاع بسيط وبطيء؛ فكل شيء يسير بذات الإيقاع، ولكن ذلك يتماشى مع حياة الزوجين البطيئة، و الهادئة، وقد ساهم ذلك في تعرفنا العميق على دواخل الشخصيات، والتمعن في كل القضايا المطروحة، وهذا الأمر منح فرصة للمتلقي كي يمارس حوارا داخليا بين جانبي الخير والشر لديه.
     لقد كان موضوع الحج أهم قضايا الفيلم بروزا، بل هو القضية الأولى؛ حيث شاهدنا معاناة أبو وزوجه في سبيل تحقيق حلمهما، وفي أثناء تلك المعاناة كانت الشخصيات تحرك قضايا إنسانية كثيرة، وتلمس مواطن مظلمة في الذات البشرية فقد كانا يحلمان بالحج ولكنهما لم ينظرا إليه كمكان لغسل الذنوب ! لذلك نجدهما يزورا أهل القرية ويطلبا الصفح من الجميع قبل المغادرة. وفي مقابل هذه الصورة النبيلة، نجد صورة أخرى لجارٍ غني حج لأربع مرات للاستفادة من الإعفاء الجمركي  أثناء التسوق !. كما ترك الفيلم مساحة ملائمة للمعالجة قضية التسامح بين الديانات، وركز على هذه الرسالة في مشاهد عدة أبرزها عرض كل من بائع الخشب ومعلم القرية مساعدتهما المادية على أبو وزوجته، كما حزنا كثيرا عندما لم يوفق الزوجان في الذهاب إلى الحج رغم اعتناقهما الهندوسية، أما أبو في علاقته مع الآخرين فيمثل جوهر الدين الإسلامي، الذي شكل أيضا دستورا لحياته.
والفيلم  يعيد الاعتبار للقيم الإنسانية النبيلة؛ فجانب العلاقات كان ايجابيا في عمومه، فقد كشفت الأحداث عن مظاهر مختلفة للتكافل والمحبة بين أهل القرية، وبين أبو وزوجته إيشوما خارج نطاق الطائفية والدين، ولم يظهر الجانب السلبي إلا في شخصية الابن العاق وهي شخصية غائبة لكنها حاضرة في الحوار الدرامي، حيث هاجر إلى دبي وتنكر لأهله، وهي  إسقاط عام على العلاقة بين الآباء والأبناء  في الواقع. وعلى ذات النهج البسيط سارت كل الجوانب التقنية في الفيلم؛ فالفضاء كانا مفتوحا، قرية بسيطة، بألوانها الطبيعية الشفافة، والموسيقى التصويرية كانت ملائمة تماما لحركة الشخصيات داخل الفضاء الزماني والمكاني؛ معبرة في الوقت نفسه عن هموم الشخصيات وآمالها وتطلعاتها، أما الحوار فقد كان يُتِّم الدور الذي تبدؤه العناصر الفيلمية الأخرى فيبلغ معه التأثير أعمق الأحاسيس الإنسانية.
   وكانت زوايا التصوير متنوعة عموما مع طغيان اقتراب الكاميرا من الشخصيات،  حتى في لحظات الحزن والانكسار؛ لتأكيد انتصار القيم النبيلة رغم الفترات والمتأزمة، وهذا الاختيار المقصود ساهم في الدفع بنا لمشاركة الشخصيات المحورية أحزانها.
 والحديث عن عملية الإخراج سيُكمل عِقْد الجمال في هذا العمل السينمائي، حيث يمكنا أن ننظر اليه كقصة أخرى توازي قصة الفيلم؛ فحكاية المخرج "سالم أحمد" في تحقيق حلمه  الإخراج السينمائي و إخراج فيلم أبو ابن آدم  تتطابق تماما مع قصة "أبو" وحلم الحج، حيث ستعاكسه الظروف طويلا، وتحبط محاولاته لاختراق عالم السينما وترغمه على العمل كموظف في وكالة أسفار؛ ليتعرف من خلال هذه النافذة على مجموعة من أحلام الناس وهمومهم، وسيعتمد على هذه التجربة كثيرا في كتابة سيناريو الفيلم، ولأنه لم يجد مُنتجا يتحمس لإنتاج فيلم غير تجاري، فقد أخرجه بميزانية ساهم فيها مجموعة من أصدقائه، وهذه النقطة كذلك تتشابه مع تكافل أهل القرية مع "أبو"، أما الجانب التقني في عملية الإخراج فيكشف عن تناغم كبير بين السيناريو والإخراج بالإضافة إلى حسن اختيار الشخصيات بدقة؛ وأهمها الممثل الكوميدي الشهير "سالم كومار" الذي تردد كثيرا في قبول الدور مخافة عدم القدرة على تجسيده، لكنه سيقدم أحد أهم الأدوار في تاريخه السينمائي، وسيفوز من خلاله بجائزة أفضل ممثل في مهرجان السينما القومية بالهند، ولم يتقاضى أي أجر عن هذا الدور كغالبية الطاقم الفني في الفيلم، كما حصل هذا العمل أيضا على جائزة أحسن فيلم في نفس المهرجان المذكور، وتم اختياره لتمثيل الهند في جوائز الأوسكار عن أحسن فيلم أجنبي.
   لقد بدت قصة الفيلم وكأنها رحلة تطهير روحي للمتلقي لمسائلة شوائب النفس البشرية، كما أثبت سالم كومار بهذا العمل أن السينما  هي رسالة فنية سامية، قبل أن تكون وسيلة للربح والمتاجرة.

سليمان الحقيوي