الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  كسر الخاطر    
حكيم بلعباس، مخرج سنة 2017

حصاد السينما المغربية خلال سنة 2017، من الأفلام و الحضور و الإنجازات، كان جد عادي، مقارنة بسنوات ما قبل 2016، إن على المستوى الكمي أو الكيفي، حصاد في مجمله بدا أقرب لما يسمى، سينما الخدمات السريعة، السينما الغارقة في التهافت و الانتصار الأعمى للجمهور، انتصار للربح و الخواء، قبل الانتصار للفن والإبداع، أو الملامح الثقافية الهادفة الجادة، سينما كان همها اصطياد الجمهور الواسع، كما تصطاد العصافير البريئة، بفخاخ ملونة عجيبة، و جمع اللايكات و التصفيقات في الفضاءات الزرقاء، و المواقع الصفراء التعيسة، و من تم منح صانعيها وهم التفاخر بالألقاب الرخيصة، ألقاب عما حققوه من مصالحة عريضة، مصالحة الجمهور مع سينماه الوطنية. سينما تجارية فاقدة لكل معنى، اللهم معانى الربح المادي الأجوف..
لكن هذا لا يعني المطالبة بمصادرة حق منتجيها ومخرجيها في صنعها و إخراجها للوجود، لأنها تبقى رغم ذلك، جزء من السينما الوطنية المنتجة على خارطة ابداعية شاسعة، سينما بمرها و حلوها، مادامت كل سينمات العالم (حتى المتطورة منها)، فيها الجاد و الرديء، التجريبي و التجاري، الفنان وشبه فنان، المنتج و لص المال العام...
وجود السينما التجارية لا ينفي وجود سينما أخرى بأفلام مغايرة، و إن كانت جد قليلة، أفلام حاولت إنقاذ ماء وجه السينما المغربية، وتقديمها الوجه المشع للإبداع الحق، السينما المبنية على عمق إبداعي، و نفس جمالي خلاق، ومن ثم تشريف الخلق المغربي، في الملتقيات العالمية. من بينها " ضربة فالراس" لهشام العسري و " نور في الظلام" لخولة أسباب بنعمر و "حياة" لرؤوف الصباحي..، و لعل "عرق الشتا" الفيلم الأكثر تمثيلية لهذه الأفلام، خلال السنة المنصرمة، بل و أكثرها أهمية، وأظهرها وضوحا و حضورا و مشاركة في المهرجانات الوطنية و الدولية.
"عرق الشتا"، فيلم نال التنويه و المديح، لأنه حقق معادلة جد صعبة، معادلة إمتاع الجمهور الواسع، و في نفس الآن إقناع النقاد و عشرات السينيفيليين المتابعين للإنتاجات الوطنية، و بالتالي تقديم خلاصة مفادها، أن المخرج حكيم بلعباس، وجه سينمائي مغربي حقيقي، بل طاقة مجتهدة فعالة، بالنظر لما حققه ويحققه، منذ بداية القرن الحالي، من إنتاجات سينمائية متتالية، و أشرطة روائية، وأخرى وثائقية ممتعة مفيدة، أشرطة كانت دائما محط إعجاب و جدال، و انتزاع للتصفيقات والجوائز، و قبلها القراءات و المقاربات النقدية و المتابعات الصحفية.
حكيم بلعباس أو الصوفي السينمائي، المدثر بعباءة الجذبة، و حلقات الذكر المعرفية، والحكمة الربانية الخالصة، في صنع أفلام مختلفة، قادرة على زعزعة اليقينيات الإبداعية المتوارثة عن عصر الهواية والتخبط في حلكة الظلمات، المبدع القادم من فضاء القداسة، قداسة مدينة أبي الجعد، المرمية في أحضان المواسم الدينية و جلسات الزهد الليلية، قداسة دينية تراثية، مغموسة بمشاهدات ثاقبة لا متناهية، لأفلام عالمية، و سط صالة عرض سينمائية متواضعة، كان يديرها الأب ذات زمان ذهبي منقضي، و قراءات لعشرات الأعمال الروائية و الشعرية و المسرحية، من تدبيج سادة الأدب العربي و العالمي، أساسا منهم رواد الأدب المكتوب باللغة الإنجليزية، ثم قداسة تكوين تقني و فني و جمالي صلب في الفن السابع، بأرقى الجامعات الأمريكية. تربية و قراءات و تكوين، أهلاه لكي يكون أحد أهم المخرجين السينمائيين المغاربة و العرب، المخرجين الحقيقيين المختلفين برؤاهم و حساسياتهم الفنية، وقبل كل هذا و بعده، أستاذ للسينما في أحد أهم الجامعات الأكاديمية بمدينة شيكاغو الأمريكية. مسار متفرد، و حضور قوي، هنا و هناك، جعلا منه فنانا استثنائيا، فنان بمواصفات خاصة، يصعب ضبطها أو الاتفاق على خصوصياتها، بل حلبة حقيقية للنقاش النقدي و الاختلاف الصحفي، حول مساره الفني، و أهمية ما ينجز من أفلام و أعمال، خاصة وأنه استطاع بكاريزميته الصلبة، و ذكائه الثاقب، و قدرته الخلاقة، على التواصل مع الآخرين، وإقناع بالحجة و الدليل، كل من لا يقنعه العجب، و أن يحيط نفسه بمصفقين لموهبته، و أتباع من الطلبة، و المستفيدين المدثرين بعباءة توجيهاته الحكيمة، في ضرورة الإنتصار للعمل و التجريب، طلبة و رواد، و مصفقون يصفقون بشكل متواصل لمنجزاته الفيلمية، بل و منهم من يرفع هذه المنجزات، لمستوى التحف السينمائية، التي لا تقبل النقاش أو الجدل، بل هناك من يرفض مجرد أن تطرح علامات الاستفهام، أو أسئلة (بريئة كانت أم خبيثة) عما حققه أو سيحققه هذا المبدع الغارق في أتون التجريب، و البحث الدائم، والهلوسات الإبداعية المتفردة، إبداعات تبدو للكثيرين متفردة، لكنها تظهر للبعض الآخر، مجرد محاولات مجنونة، أو إعادات مكرورة..
رغم التصفيق من البعض أو المعارضة من البعض الآخر، فحكيم بلعباس، يعرف جيدا حدود اشتغاله وسقف قدراته الإبداعية، و يعي مدى أهمية إضافاته السينمائية، دون إدعاء أو غرور أو هروب نحو مفاهيم اللامعنى، مثلما لا يلتفت للوراء، بقدر ما ينظر للأمام المشع بالأمل، للمستقبل الحامل لمعاني الاشتغال، البعيد عن ضوضاء الحياة، و غربانها الكثر، و يعشق الإنصات الرزين، للرؤى النقدية المخالفة، والمواقف الصحفية الفاهمة المتفهمة، مثلما يحني الرأس بتواضع الكبار، كلما أمعن أحدهم في مناقشته وإقناعه الإقناع الفني الجميل.
حكيم ليس فقط متحاور حكيم، و مخرج بارع للأفلام الوثائقية، الأفلام التي نجد فيها الانتصار الكامل للطبقات الشعبية الهامشية المهمشة، و سير البسطاء القادرين على خلق البهجة، كلما أعطيت لهم الفرصة لقول كلمة نابعة من عمق التجارب الإنسانية المقتطعة من الكد و الجد و الإجتهاد، و لكن أيضا حكاء عجيب للقصص الروائية، قصص يلتقطها من الواقع الاجتماعي الذي لا يرحم، واقع المضطهدين والمكلومين و الخاسرين و معهم الزاهدين في كل شيء، لا عن جهالة، و لكن عن تعفف، في مواجهة قوى الشر و الظلم والمهانة، و طرقهم الملتوية الفاضحة المفضوحة، أمام صلف المجتمع و صيروراته التاريخية الملعونة.
منذ فيلم "خيط الروح"، الذي فتح كوة مشعة من النور، فدخل من خلالها الجمهور لعالمه السينمائي المختلف، و جر بواسطته، عشاق الصورة الحقة، إلى صفه الإبداعي و رؤاه المثيرة، مرورا بأفلامه التالية: "عش في القيظ" و " أشلاء" و" شي غادي شي جاي" و"محاولة فاشلة لتعريف الحب"، وغيرها من الأعمال السينمائية و التلفزية المتباينة، وصولا لفيلم "عرق الشتا"، و حكاية الفلاح المقهور المنذور للشقاء والمهانة، والأم المرهونة للعذاب و التقاليد والرعونة، والجد الغارق في التخاريف و هلوسات الشيخوخة، والطفل العائش في عالم النبذ و التحقير و البراءة المصادرة الملعونة، الملعون من طرف مجتمع لا يقر بالاختلاف، و لا يرحم ذوي الضعفاء و أصحاب الاحتياجات الخاصة. منذ ذلك الوقت، و هو يمتع و يقنع، بحكايات متعددة مختلفة، لكن متداخلة، حكايات تستمد قوتها من خلفية ثقافية صلبة، ومرجعية فنية واضحة. أفلامه تحكمها روح الحكي الواعي بالتفاصيل ، الحكي المغزول بخيوط ملونة من صعوبة العيش، و نذالة الوقت، و تهافت الناس على فتات الحياة، وقبل ذلك الموهبة الخلاقة المستمدة من التربة الطيبة للأرض المغربية الطرية، تربة الالتفات للغير وفهم مشاكله و الإنصات لنبضه النازف يوميا على مشرحة الزمن الردئ، و العرق الساخن المراق، في المزارع و المعامل و المناجم.
حكيم بلعباس، لا يسعى في أفلامه، إلى تصوير ما لا يصور في أفلامنا المغربية الوطنية جدا جدا ، الأفلام المسنودة في كثير من الأحيان، بأعمدة قلة الفهم، قلة الفهم المؤسس على لغة خشبية مشروخة، و الرؤى الفنية المغلوطة، كنتيجة حتمية، لغياب التراكمات الحياتية، والخلفيات الثقافية، الواضحة الناصعة الناضحة بالحقيقة. بل يسير بكل ثبات، نحو الأراضي البكر المنذورة للعطاء، ليبذرها حبا و حبا على طريقته الخاصة، يزرعها بموهبته و معرفته و عطاءاته، لينبتها نباتا فيلميا صادقا حسنا، نبات قادر على تحويل فيافينا الإبداعية، لأراض معطاء خضراء، أراض يشدو فيها طير الحب و الخلق، و يجري بين أشجارها السامقة الوارفة ماء الحياة، و يتمتع بظلالها المنعشة، كل من يحب المعرفة، و ثمار الجد والاجتهاد، و الفرجة الممتعة الدائمة.

عبد الإله الجوهري