الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  السينما العالمية    
جيمس كاميرون ..الانحياز إلى السينما الرقمية

  لقطة من فيلم   

أقل ما يمكن أن يقال عن المخرج جيمس كاميرون أنه سينمائي الرهانات الكبيرة (تايتانك،أفاتار) ، فضلا عن السلاسل السينمائية الأكثر شهرة:غرباء،الفاني. إنه فنان محترف يعرف كيف يوظف أمواله في مشاريع سينمائية كبيرة تلهب حماس المتفرجين وتستحوذ لفترة طويلة على اهتمامهم إلى درجة أن يصبح أبطال بعض تلك الأفلام أيقونات شعبية شهيرة.
كاميرون الدؤوب على توظيف خبراته في ميدان التقنيات السينمائية والاستفادة من تجاربه السابقة على صعيدي الإنتاج والإخراج، قد يغيب عن المشهد السينمائي لفترات متقطعة، لكنه لن يتأخر كثيرا في إطلاق مشروع جديد يضعه أمام تحديات حقيقية في اعتماد لغة مبتكرة قد تغير وجهة نظرنا عن دور التقنيات في الصياغة النهائية للشريط السينمائي.
في حوار معه أجرته (آن تومسون) يعتبر كاميرون أن نجاح تايتانك كان تأكيدا حقيقيا للقيم الوجدانية التقليدية التي تتحكم بالجمهور منذ عقود. ورغم الطول الملحمي للفيلم إلا أن الجمهور استسلم للثيمة الدرامية التي جعلت من السفينة العملاقة صورة مجازية عن العالم بتعبير المخرج. فضلا عن جمال موضوعه فإن العناصر التقنية كانت عاملا أساسيا من عوامل نجاح الفيلم، عبر تقنية المؤثرات وصناعة المجسمات الدقيقة للإيحاء بهول كارثة الغرق.
يمكن القول أن النجاح التجاري لأفلام كاميرون لا يعني أنه قدم للجمهور سينما مبتذلة أو فارغة، مثلما أن الاهتمام المتفاوت الذي حظيت به أفلامه لا يشير دائما إلى نوع موضوعاتها وإنما إلى مستوى أدائها في التعامل مع عوالم حسية (واقعية أو متخيلة) لم يسبق للجمهور أن شاهدها بهذه الكيفية التي تجعله راغبا في أن تكون له تجربته الخاصة معها.
***
إلى حد ما يشترك جيمس كاميرون مع بقية زملائه (سبيلبرغ، فيرهوفن، إيمريش، بيتر جاكسون) في الإنحياز إلى سينما تقنية تلبس ثياب الألفية الجديدة في لغتها ومضمونها، أو هكذا عليها أن تكون، من دون يعني ذلك التوقف عند عتبة إبهار الجمهور بسيل المؤثرات التقنية واستجداء صراخه في صالات العرض، وإنما السعي إلى توظيف الوسائل التكنولوجية في طرح هموم جدية تتعلق برؤيتنا للمستقبل ولراهن أزماتنا الكونية.
وفي فيلمه الباذخ أفاتار الذي حقق أرباحا بلغت ثلاثة أضعاف ميزانية إنتاجه التي تقدر بأكثر من 300 مليون دولار، سنرى أن اعتماد تقتنيات السينما ثلاثية الأبعاد (Dimensions 3 ) ورسوم الغرافيك وتحريك المجسمات المتقنة بإيحاء واقعي أسهمت جميعا في بلوغ ما يمكن تسميته بالسينما الرقمية. كما أن العوالم الغريبة ذات الزرقة الطاغية والمهيمنة على مناخات الفيلم كانت عاملا بصريا داعما لجمالية الفيلم الذي تابعت حكايته مسارين متداخلين، أولهما:قصة جندي أمريكي سابق يجري توظيفه ضمن مشروع علمي مدعوم بحملة عسكرية تسعى للسيطرة على كوكب فريد بثرواته يدعى باندورا. أما المسار الثاني فهو تتبع مصير شعب أصلي يستوطن أرضا تتسم بوفرة ثرواتها وسحر طبيعتها وخصوصية معتقداتها يتعرض لغزو خارجي.
في الفيلم يرسل الجندي الأمريكي إلى قبيلة (نافي) ليكون مصدرا لجلب المعلومات عنها. وما أن يكسب ثقة سكان القبيلة وزعمائها حتى يكتشف أمره من قبل مرؤسيه فيختار الانحياز لأصالة البدائيين وحقهم في الدفاع عن حياتهم وتقرير مصيرهم. كان العامل الأكثر تاثيرا في مواقف الجندي هو وقوعه في غرام مقاتلة شرسة تدعى(نايتيري)هي ابنة زعيم القبيلة. ورغم احتفاء أفاتار بالثقافة المحلية لشعب النافي ورفض بطله للحملة العسكرية، إلا أن الفيلم يسوق الصورة النمطية ذاتها التي تظهر عجز السكان الأصليين في الدفاع عن أنفسهم وحاجتهم للاستعانة بالرجل الغربي الذي يجمع بين المعرفة والقوة.
امتلك سكان النافي الذين يبدون أنصاف آداميين، حضارة مسالمة وقيما إنسانية أقرب إلى الشعر في مفرداتها وقيمها الاجتماعية. وحتى لا نضيع في كوكب غرائبي عمد المخرج إلى الإبقاء على صلة رمزية بين الغرائبي والواقعي الذي نعرفه، إذ جعل أغلب الكائنات الخرافية (الخيول الضخمة والوحوش الكاسرة) التي لها دورها الأساسي في تطور أحداث الفيلم قريبة من أصلها الطبيعي وإن ظهرت بهيئات مختلفة مبالغ فيها. وعلى الدوام فإن حضارة الرجل الأبيض المنقادة لمنطق (قوتها) لا يسعها تحقيق أهدافها من دون فضاء مناسب يسمح بإخضاع الآخر واستغلال إمكانياته.كما أن هوليود التي دشنت عقيدة مفادها (أن فهم الآخر لا يكون إلا من خلال غزوه) والمشفوعة بتاريخ طويل من الغزو الكولونيالي انتهى باحتلال العراق الذي كان ملمحا ضمنيا في هذا الفيلم، لا يسعها التغاضي عن حقيقة أن الغزاة يتغيرون أيضا،ب قدر ما يغيرون الأوطان التي تطأها اقدامهم.

•    سحر السينما الرقمية
يمثل كاميرون مع آخر عدد من المخرجين اتجاها سينمائيا تحديثيا يطمح الى تجاوز كل القيود التي عرفها الفيلم في العقود السابقة وتحقيق ما استحال تحقيقه عبر توظيف الثورة الرقمية في الصناعة السينمائية الى الحد الذي بات يتعذر فيه على المشاهدين التمييز بين ما تخلقه تقنيات الحاسوب وما تصوره الكاميرا السينمائية. يستبعد هذا العمل التقني تدريجيا بعض العناصر التقليدية التي كانت تسهم في نجاح الفيلم السينمائي وابرزها اداء الممثل ونجوميته،خاصة مع تنافس الشركات العملاقة اليوم لطرح احدث التقنيات والبرامجيات التي تعين المخرجين في صناعة سينما رقمية بالغة الكلفة.بل ان التحديث في مجال التقنيات اخذ يفرض او يقترح مشاريع سينمائية بعينها تتنظر التحويل الى الشاشة.لكن مهما بلغت التقنية من ابهار فانها لا تمثل بمفردها عملا فنيا من دون خيال خصب يستطيع الغور بعيدا في تمثل الافكار الخلاقة واعادة انتاجها سينمائيا.
***
تقاليد العمل السينمائي قد تاثرت هي الاخرى بموجة السينما الرقمية وبات العمل الشاق داخل الاستوديوهات وامام شاشات الكومبيوتر اشد صعوبة واقل متعة للمخرجين.حتى ان رولاند ايميريش مخرج فيلمي (يوم الاستقلال وغودزيلا) يعترف  بان العمل مع ممثلين حقيقيين له متعة خاصة تفتقدها الحواسيب الجامدة وان كانت تعطي نتائج باهرة.وليس غريبا ان تعج مشاهد المعارك في فيلمه(The Patriot) انتاج عام 2000 بالجنود الرقميين والاسلحة الوهمية،ولا يوجد في المشهد سوى خمسة ممثلين حقيقيين يمسكون ببنادقهم،يتقدمهم ميل جيبسون.."
جدير بالذكر ان السينما الرقمية التي تؤسس منذ سنوات لتقاليد عمل جديدة قد لا تكون موضة مرغوبة لدى الكثير من السينمائيين،وربما لن يكتب لمشاريعها المكلفة النجاح دائما،لكنها بكل الاحوال تمنح مخرجيها حرية اكبر في العمل السينمائي وتغير في الغضون وجهة نظرنا حول العالم الواقعي.
يمكن القول ان التقنية ليست خالية من العيوب تماما.وعيوبها ليست محصورة بسوء التنفيذ فقط،وانما المبالغة في استعراض المهارات والتعاطي مع موضوعات مسحطة لمجرد خلق تاثير عاطفي،سريع الوقع سريع النسيان. كان المخرج ستانلي كوبريك قد اردك هذه الحقيقة في وقت مبكر حينما صنع رائعته(اوديسا الفضاء:2001) والتي وصل المشهد السينمائي فيها الى ذروة اتقانه،بقوة الافكار وبراعة التحكم بالتقنية.
تلك التقنية العجيبة ستبقى بشكل من الاشكال حلما عصيا من احلام السينمائيين.

أحمد ثامر جهاد