أتابع هذه الايام مجموعة من المسلسلات الدرامية المصرية، اساسا منها مسلسلات: " واحة الغروب " و " الجماعة 2 " و " الزيبق "، أعمال تؤكد بالملموس ان الدراما المصرية سيدة الدرامات العربية بدون جدال و اكثرها أصالة و نضجا، بإعتمادها على خلفيات فنية و تقنية جد محترمة، و قبل ذلك باستنادها على خلفيات و رؤى فكرية جد واضحة و جد ناضجة، خلفيات و رؤى تترجم بصدق الامكانيات الثقافية لكتابها و مخرجيها و ممثليها و تبرر الريادة لأرض الكنانة في كل اشكال الخلق الابداعي التلفزي و السينمائي..
مناسبة القول، ما تلفظه يوميا الشاشات التلفزية المغربية من أعمال رمضانية، لا تستحق أن تعرض أو أن تشاهد من طرف شعب كالشعب المغربي، الذي راهن و يراهن منذ سنوات على تجاوز عتبة الأمية البصرية و الردة الثقافية، و الانطلاق نحو عوالم حداثية اكثر رحابة، من خلال استثمارات محترمة في مشاريعه المسرحية و السينمائية و التلفزية، كل ذلك من أجل انجاز انتاجات تشرف المغرب و المغاربة، و تساهم في الرفع من الذائقة الفنية لدى شرائح واسعة من أبناء الوطن.
مشكل الانتاجات الدرامية المغربية جد مركبة، تبدأ أولا و ثانيا و ثالثا، من الفهم السقيم لمعنى العمل الدرامي ورسائله السامية، عمل يعتبره البعض مجرد قص ولصق لمشاهد مصورة كيف ما اتفق اعتمادا على سيناريوهات مهلهلة قوامها الأحداث المقتطعة من واقع مباشر و مواقف مفبركة و شخصيات لا تجد لها نظيرا إلا في مخيلة الكتبة الاكثر جهلا بمقومات الكتابة السيناريستيكية الدرامية. و الأكثر سقما في التواصل مع الواقع و المحيط وتنطعا في الارتماء بين احضان الكتابة و التدبيج..
المشكل الرابع يعود لما سمي ذات مناظرة، دفاتر التحملات، دفاتر أغرقت الانتاجات بقوانين هلامية، وفتحت الأبواب و النوافذ و الممرات للصوص المال العام، كي يتسربوا زاحفين كالفئران للإجهاز على كعكعة تكون كل سنة في الانتظار، كعكعة كانوا فيما مضى لا ينالون منها إلا بمقدار، مقدار لم يكن يقنعهم بما فيه الكفاية و لا يلبي احتياجاتهم اللصوصية و تهافتهم على المال العام و السطو عليه بطرق مشبوهة، فكان الذي كان، وزير بحجة محاربة الفساد فتح الابواب لكل الفساد( نيته كانت صالحة، لكنها نية جاهلة بميكانيزمات الإنتاج الفني) ليخرج بعد سنوات، تاركا وراءه سراديب " قانونية " واسعة شاسعة، يمر منها كل من هب و دب نحو عالم الإنتاج المشبوه، الإنتاج الذي يهتم بقضايا الربح و الخسارة، و لا يهتم بما يقدم للمشاهدين المغاربة. فأضحى بعض هؤلاء اللصوص من اصحاب الأموال الطائلة و المشاريع الباذخة و العلاقات الأخطبوطية القاتلة.
المشكل الخامس يأتي كامتداد للمشكل الرابع، فأصحاب الشركات المنفذة للانتاجات ( المتحدث عنهم اعلاه)، لا يهمهم (كما قلنا) سوى الربح المادي، الشيء الذي يجعلهم يشتغلون مع وجوه اخراجية محددة ، وجوه لا تبغي عنها بديلا، لانها وجوه قانعة قنوعة، لا يهمها الإبداع كإبداع، بل يهمها ما ستقبض أو تربح من أموال عن أي عمل تنجزه، و ما ستحققه من شهرة لدى الجميلات المتهافتات على التمثيل و حب الظهور، مخرجون سمحوا لأرباب الشركات إملاء الوصايا عليهم، و بالتالي الخضوع للشروط المهينة التي تطلب منهم انجاز أعمالهم في زمن قياسي، فكان أن أصبح المسلسل الذي يتطلب ستة او سبعة اشهر لتنفيذه يتحقق في شهر أو شهرين، مع القناعة التامة في الحصول على المقابل، حيث أضحت الاجور على يد هؤلاء مجرد فتافيت يقنعون بها لكي يشتغلون دون انقطاع، هكذا وجدنا بعض المخرجين ينجزون ثلاث أو اربع مسلسلات و سلسلات في سنة واحدة و على نفس واحد، بربكم هل سيبدع هذا المخرج المنفذ فيما يخرجه و ينفذه من أعمال، الجواب : طبعا لا.
اضافة إلى أن هؤلاء المخرجين، يشتغلون بشكل شللي مع اصدقاء / ممثلين محددين، لتجد نفس الاصدقاء حاضرين في كل أعمال صديقهم المخرج، و يجد المتفرج نفسه في حيص بيص، يتابع أعمالا مختلفة، لكن بنفس الوجوه و نفس الحركات و السكنات، فيختلط عليه الأمر و لا يعود يعرف أي مسلسل أو سلسلة يتابع. مما يجعله ينفر بسرعة و يهرب باحثا عن مسلسلات في قنوات أخرى..
المشكل السادس يعود لمشكل الخلفيات الثقافية و الفكرية، لأغلب كتاب السيناريوهات والمخرجين و الممثلين، " فنانون " و للاسف لا يتوفرون على حد ادنى من المعرفة الثقافية و الرؤى الفكرية، فتجدهم يقنعون بسيناريوهات فجة سطحية مباشرة، معتقدين انها سيناريوهات جيدة و جادة تعالج قضايا المجتمع و قادرة على النقد و الإضحاك، لكنها في نهاية المطاف لا تضحكنا بل تضحك علينا.
مشكل المعرفة و الثقافة (في اعتقادي) حجر الاساس في تواضع كل ما ينجزه " مبدعونا " للشاشات التلفزية، لان مرجعياتهم خاوية و قراءاتهم سطحية و معرفتهم جد ساذجة بواقعهم و واقع مواطنيهم ، فمن لايقرأ حتى رواية واحدة أو ديوان شعر واحد أو كتاب ما في السنة، هل يمكن أن يبدع، سواء أكان كاتبا للسيناريو او مخرجا أو ممثلا؟.
نعم " إن أغلب ممارسي الفن في المغرب لا يقرؤون و إذا قرأوا لا يفهمون و إذا فهموا لا يعرفون كيف يطبقون "، دليلي القاطع على ما أنا مقتنع به، ما نشاهده و نتابعه من جرائم درامية خلال هذا الشهر الفضيل على شاشاتنا الصغيرة. جرائم( اعمال ) فارغة من اي محتوى، و لا تحمل أية رسائل اللهم رسائل الإضحاك الفج القائم على التوسل بالعاهات و النيل من الأعراض و الأصول و حكي النكات البائتة..
قد يسألني سائل، ما الحل؟
الحل ( في اعتقادي ) يتلخص في مجموعة خطوات أولى ضرورية:
أولا: الثورة على الكنانيش ( دفاتر التحملات) البئيسة المقيدة لحرية الخلق، المدافعة عن " القانون " لا عن الإبداع.
ثانيا: عدم منح أكثر من مسلسل أو سلسلة و فيلم تلفزي واحد لكل شركة طيلة سنة، الشيء الذي سيمح لأكبر عدد من الشركات للإشتغال و المنافسة.
ثالثا: اقرار قانون لا يسمح لمخرج ان يخرج أكثر من مسلسل واحد في السنة، حتى يفتح الباب لأكبر عدد من المخرجين المغاربة.،
رابعا: الانفتاح على الأدب و التاريخ المغربيين من خلال تحويل روايات و قصص تاريخية لأعمال درامية ( شاكلة مسلسل دار الضمانة و الحرة ).
خامسا: دعوة و حث المخرجين السينمائيين المغاربة، للإنفتاح على الأعمال الدرامية التلفزية، و منحهم فرص للاشتغال بها لمدها بتجاربهم المحترمة.
سادسا: اقرار و فرض على شركات الإنتاج المتعاونة مع التلفزيون، أن توظف مدير فني ، مشهود له بالحضور الثقافي والفكري، لكي يتابع كل عمل أسند للشركة من اجل تنفيذه.
سابعا و أخيرا: الضرب بيد من حديد على أيدي كل المتلاعبين بالمال العام، و المتهاونين في تنفيذ ما يسند لهم من أعمال، و محاربة من يسمون أنفسهم " مؤلفين "، أولئك الذين يقدمون انفسهم على انهم كتاب للسيناريوهات، بينما هم مجرد كتبة لاحس ابداعي و لا رؤى لهم، خاصة منهم أولئك الذين اظهرت اعمالهم السابقة، قلة درايتهم و ضحالة معرفتهم و سوء نيتهم الإبداعية..