الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  السينما العربية    
«عرس في الجليل» و«يد إلهية».. أو الجري وراء سلام مفقود

تطمح البشرية دائما إلى السلام وكأنه شيء هارب لا تدركه أبدا، وبالمقابل فإن كل ما يصنعه الإنسان يَدُلُّ على أنه يسعى للحرب رغم ادعائه لحبه لقيم التسامح والسلام. فمنذ قدم الزمان وبدء التاريخ البشري كانت الحروب هي الطاغية، وهي الوسيلة لسيطرة الإنسان على أخيه الإنسان، ولم تُشكل فترات السلام سوى مجرد هدنات للراحة قبل الرجوع للاقتتال من جديد. فلا نكاد نسمع عن انتهاء حرب هنا حتى تنطلق أخرى هناك، وهكذا دواليك.


وقد تناولت السينما شأنها في ذلك شأن باقي الفنون تيمة «الحرب والسلام» منذ بداياتها. إذ نجد أمثلة جادة لهذا التناول عند مبدعين سينمائيين كبارأمثال شارلي شابلن في فيلمه «الديكتاتور» (1940) على سبيل الذكر لا الحصر، وستانلي كوبريك في العديد من أفلامه.


ففي فيلمه «الدكتور فولامور» المنتج سنة 1964 يحذر كوبريك في دعوة واضحة إلى السلام، وفي خضم الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، مما يمكن أن تؤدي إليه الرغبات الحمقاء والمدمرة لخوض الحروب. ويستمر في نفس الخطاب في فيلمه «دروب المجد» (1957) الداعي للسلام والذي رغم كونه فيلم حرب إلا أنه يختلف تماما عن أفلام الحرب التي أنتجت إلى غاية تلك الحقبة بكونه معاديا للحروب ولحكم العسكر. وبعد سنوات عديدة سيرجع كوبريك في فيلم «فل ميتال جاكيت» (1987) لنفس التيمة العزيزة عليه والداعية للسلام. 


أما في السينمات العربية فقد ارتبطت تيمة السلام أغلب الأحيان بقضايا الإنسان الفلسطيني الواقع تحت رزء الاستيطان الإسرائيلي الغاشم.


وقد كان من بين الأفلام الجادة والمتميزة الأولى التي خاضت في هذا السياق فيلم «المخدوعون» (1972) للمخرج المصري توفيق صالح المقتبس عن رواية «رجال في الشمس» للروائي الفلسطيني غسان كنفاني، والذي نتابع فيه بحث مجموعة من الفلسطينيين عن السلام الذاتي من خلال محاولة للهروب إلى فضاء آخر هو الكويت التي لن يصلوا إليها أبدا، لأنهم اعتمدوا على «قائد-سائق» عاجز وعلى حل هروبي، حتى وإن أدَّى إلى الموت داخل خزان للمياه بشاحنة نقل في صحراء قاحلة.


ومع ظهور أفلام فلسطينية، لم تكن في بداياتها تهتم سوى بالشعارات، التي عرفت أوجها في فترة السبعينات من القرن الماضي، والتي كانت عبارة عن أفلام ذات صوت عال وخطاب مباشر، بغرض الحث على المقاومة، وكانت تصور قصصا بسيطة لمقاومين للاحتلال. وقد تميزت هذه الأفلام بكونها غير ذات طموح فني أو سردي أو شكلاني كبير، إذ لم يكن يهم صانعيها سوى إيصال رسالتهم أو خطابهم وشعاراتهم...


لكن فترة ثانية من تطور السينما الفلسطينية والتي ابتدأت مع عقد الثمانينات من الألفية الأولى، شهدت بداية ظهور نوع آخر من الأفلام أكثر إبداعية وشاعرية، وأكثر سينمائية وفنية ورصدا للواقع اليومي الفلسطيني واهتماما بهموم الإنسان الفلسطيني وأفراحه ومآسيه وقضاياه اليومية. وكان «عرس الجليل» الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، أهم العلامات الأولى لهذا التوجه في السينما الفلسطينية والتي جعلتها تنتقل بكل جدارة وعن طريق تناول هموم الإنسان الفلسطيني إلى العالمية.


وقد شكل ميشيل خليفي بأفلامه منعطفا مهما في السينما الفلسطينية بانتقاله من الأسلوب الخطابي الشعراتي الذي كان سائدا في الأفلام الفلسطينية من قبله، إلى شكل سينمائي آخر يعتني بالإنسان الفلسطيني ويرصد همومه وتوقه للعيش في سلام. ففي فيلم «عرس في الجليل» يتجلى طموح الشخصية الرئيسية في إقامة حفل عرس ابنه في سلام  لا تشوبه شائبة، وبالكيفية التي أمره بها والده المتوفى الذي أتاه في المنام، وهو يصر على ذلك حتى ولو كان الثمن حضور الحاكم العسكري وجنوده الحفل. 


في فيلم «عرس في الجليل» سنتابع محاولة فرض سلام مؤقت وملغوم بين قرية فلسطينية وجنود الاحتلال. قرية تعتبر من طرف سلطات الاحتلال الإسرائيلي من بين أخطر القرى وأكثرها عداء لهم. 


سلام يبدأ بعرس يقام في هذه القرية وينتهي بانتهائه، ولا يلتزم به سوى صاحب العرس والبعض من أهل القرية فيما الآخرون ومنهم عم العريس وشباب القرية يرفضونه تماما، لكونه سلاما جائرا يعقده الأب مع قائد القوات الإسرائيلية في المنطقة بشرط حضور هذا الأخير وجنوده. فيما يعتبر الأب هذا الحضور نتيجة دعوة قام بها هو، وبكون الجنود جاؤوا لمشاركة أهل القرية فرحتهم حتى ولو كانوا أعداء، وذلك جوابا على احتجاج أخيه.


وتتميز هذه الفترة في السينما الفلسطينية، التي يمكن القول أنها مازالت ممتدة بشكل من الأشكال إلى حدود الآن، بتعدد واختلاف رؤى ومشارب مخرجيها، وبتنوع أساليبهم التي تتناول الواقع الفلسطيني دون السقوط في محاكاته حرفيا وبصورة فجة، بقدر ما يحاولون رصد المتعدد فيه بصورة إبداعية ونظرة مختلفة، وهذا ما نراه في أفلام مشيل خليفي، ثم بعد ذلك  في أفلام إيليا سليمان التي تنحو نحو أسلوب سريالي وفنطازي. ويرصد فيها المخرج تناقضات ومفارقات الشخصية الفلسطينية الرازحة تحت الاستيطان الإسرائيلي والطامحة للانعتاق منه والعيش في سلام، لكن التي تفجر  هذه التناقضات مع بعضها البعض. ونشاهد هذا بشكل واضح مع جينريك البداية في فيلم إليا سليمان «يد إلهية»، بحيث نرى أب الشخصية الرئيسية التي يؤديها إليا سليمان وهو يحيي جيرانه بيده من داخل سيارته، وفي نفس الوقت يردد شتائم في حقهم دليل عدم تواصه معهم بل وكرهه لهم. لكن  المخرج يصر بالمقابل على التركيز على قيم الحب والجمال والتسامح من خلال مشهد يتكرر لموعد غرامي بين الشخصية التي يؤديها إليا سليمان وحبيبته أمام حاجز للقوات الإسرائيلية، هذا المشهد الذي ينتقل بنا إلى مشهد آخر يمكن اعتباره من أهم المشاهد دعوة للحرية والسلام في الأفلام التي تناولت الصراع العربي الفلسطيني بحيث نرى بالونا منفوخا، يحمل صورة لرأس ياسر عرفات، وهو يحلق عاليا فوق سماء القدس ليطير فوق كنائسها  ويحط في الأخير على قبة الجامع الأقصى.


ومن بين أهم المشاهد أيضا في «يد إلهية»، والتي تصور هذا الطموح القوي للإنسان الفلسطيني للعيش في سلام، ذلك المشهد الذي تحاول فيه الشخصية الرئيسية (للإشارة فكل شخصيات الفيلم بدون أسماء)، التواصل مع شخصية يهودية، إذ نرى إليا سليمان داخل سيارته المتوقفة في إشارة للمرور وأمامها سيارة يستقلها يهودي، وإذا بإليا سليمان ينزل زجاج سيارته ويُشغل أغنية لمغنية يهودية مشهورة، بها مقاطع مغناة بالعربية والإنجليزية، وهو ينظر إلى اليهودي.


ورغم كل ما يحمله الفيلم من دعوة للسلام بين الفلسطينيين واليهود، إلا أنه يقدم لنا شخصية الجندي الإسرائيلي بصورة سلبية، لكن ليس كما عهدنا ذلك في الأفلام الفلسطينية السابقة بل بأسلوب ساخر، يعتمد الكوميديا السوداء كوسيلة  للتعبير. ذلك الأسلوب الذي يكون أكثر نجاعة للتأثير إيجابا على جمهور غير عربي ولا يتبنى القضية الفلسطينية بالأساس، الأمر الذي يفسر لنا ربما حصول فيلم «يد إلهية» على العديد من الجوائز العالمية في مهرجانات كبرى على رأسها مهرجان «كان»، الذي حصل فيه على جائزة لجنة التحكيم.

عبد الكريم واكريم