تتألق السينما المغربية كعادتها دائما في بعض الأفلام السينمائية التي يقدمها بعض المخرجين السينمائيين المغاربة ويصلون بها إلى أوج عطائهم الفني رؤية وإخراجا. ذلك أن السينما وهي تغوص في القصص الإنسانية وتسعى لتقديمها لابد لها أن تتوفر لها قصة جديرة بأن تحكى عبر سيناريو مكتوب بدقة ولا بد لها أيضا من مخرج يعرف أسرار هذه القصة ويستطيع بذكاء سينمائي أن ينقلها إلى المشاهد بأدوات سينمائية محكمة و عبر اختيار دقيق للممثلين الذين يجسدون أحداثها بفنية واقتدار. إن هذا التألق الفني الذي تحققه السينما المغربية من حين لآخر هو ما يجعل منها سينما جديرة باسمها، سينما استطاعت وتستطيع أن تمثل الثقافة المغربية ليس فقط في المهرجانات الوطنية فحسب وإنما أيضا في المهرجانات العربية والدولية على حد سواء. ومن بين هذه الأفلام السينمائية المغربية التي عرفتها الساحة الفنية أخيرا نجد كل من فيلم «إطار الليل» للمخرجة طالا حديد وفيلم «جوق العميين» للمخرج محمد مفتكر، فيلم «عايدة» للمخرج ادريس المريني. في فيلم «إطار الليل» قصة إنسانية قوية تحكي سيرة مهاجر مغربي يعود إلى بلده وحين لم يجد أخاه يقوم بالبحث عنه في كل المناطق العربية التي ظن أن هذا الأخ قد يكون ذهب إليها، وفي فيلم «جوق العميين» نجد سيرة جيل بأكمله عن طريق سيرة إنسانية اجتمع فيها الحب والنضال بطريقة رائعة، وتم تقديمها عبر عيون طفل ذكي يرى ما لا يراه الآخرون. سيرة جمعت بين البساطة والعمق وتألق فيها البعد الإنساني بشكل قوي ومؤثر، وتمت عملية تقديمها في فيلم سينمائي عميق جدير بكل احتفاء وتنويه. وفي فيلم «عايدة» نجد قوة التآخي الإنساني والتحاور الحضاري والعيش المشترك البهي بين الجيران بدون النظر إلى اختلاف الديانة بينهم. الكل يعيش في سلام ومحبة مع الآخر ويحترم معتقداته الدينية.
يحكي هذا الفيلم السينمائي «عايدة» قصة سيدة يهودية مغربية عاشت طفولتها البهية في المغرب وربطتها صداقة قوية وهي طفلة مع يوسف، صديقها الرائع وحين هاجرت صحبة إلى فرنسا ظلت هناك في مدينة باريس. لكن ما أن شعرت بدنو أجلها إثر إصابتها بداء السرطان، حتى جرّها الحنين إلى بلدها الأصلي، المغرب، وأرادت أن تقضي بقية حياتها فوق ترابه. حين عادت، ومن هنا تأتي دلالة اسمها «عايدة»، قررت البحث عن صديق طفولتها يوسف وأن تستعيد معه أجواء الطفولة التي قضتها هنا في المغرب صحبته لكنها ستجد أن يوسف قد تزوج وأن زوجته تحبه كثيرا ولا تريد أن تفرط في زواجها به تحت أي ذريعة كانت أو أي سبب. من هنا سيشتد الصراع بينها وبين «عايدة» التي استطاعت أن تحيي في نفس يوسف كل تلك الذكريات البريئة البهية التي قضتها معه حين كانا طفلين يوحد بين أهلهما حسن الجوار وصداقة الحي الواحد رغم اختلاف ديانة كل واحد منهما. هكذا ستستطيع «عايدة» أن تعيد يوسف إلى حبه القديم للفن الموسيقي وأن تدفع به للانضمام إلى الفرقة الموسيقية التي تعمل بها. وبالتالي أن تجعله يجد معنى للحياة التي كان يعيشها مشتتا بين الوظيفة والأسرة ليس إلا حتى أصيب بالكآبة من جراء الرتابة التي قيد بها نفسه. وداخل هذا الثلاثي «عايدة» و«يوسف» وزوجته «غيثة» سينفتح الفيلم على الحياة والتقاليد اليهودية المغربية في تكاملها مع التقاليد الإسلامية المغربية وفي انفتاحهما الإنساني الكبير على التآخي والمحبة والاحترام المتبادل، وعلى الموسيقى التي توحد بين القلوب وتجعلها تعيش في ظل الصفاء والبهاء. وبدل أن يفهم «يوسف» قيمة الصداقة التي منحتها له «عايدة» سيقع في حبها نتيجة الرتابة التي كان يعاني منها، مما سيُسبب لها خصومة قوية مع زوجته لم تستطع إطفاء نيرانها سوى بالاعتراف لهذه الزوجة بأن ما يجمعها مع «يوسف» لا يتعدى الصداقة النبيلة الراقية، وإنها قد عادت للمغرب لا لتأخذ «يوسف» منها وإنما لتعيش بقية حياتها في وئام وسلام مع ماضيها ومع الناس الذين عاشت معهم طفولتها. وقد اعترفت لهذه الزوجة بمرضها مما جعل هذه الزوجة تتعاطف معها بشكل كبير وتدفع بزوجها «يوسف» للإبقاء على الصداقة الراقية التي تربطه بها.
هكذا سينتهي هذا الفيلم السينمائي المغربي البهي نهاية مفتوحة على الأمل، حيث سنرى بأن «عايدة» ستسعى لمقاومة المرض عبر الذهاب عند الأطباء من جهة وبنفسية قوية مدعومة بمؤازرة أختها «سوزان» والأصدقاء من جهة أخرى. وما جعل الفيلم يحقق هذا التكامل الفني الناجح بين السيناريو المحكم الذي كتبه باقتدار الروائي والسيناريست المغربي عبد الإله الحمدوشي وبين العملية الإخراجية له، هو كون المخرج المغربي ادريس المريني قد توفق في عملية اختيار الممثلين وإدارتهم كما أن هؤلاء الممثلين قد استطاعوا أن يبرزوا في الأدوار التي أسندت لهم بكثير من التألق.لقد تألقت الممثلة نفيسة بنشهيدة في دور «عايدة» تألقا كبيرا، كما تألق الممثل عبد اللطيف شوقي بدوره وهو يجسد شخصية «يوسف» ونفس الأمر بالنسبة للممثلة هدى الريحاني التي جسدت دور زوجته «غيثة» بفنية كبيرة. وبالإضافة إلى هؤلاء الممثلين فقد تألق كل من محمد الشوبي وأمينة رشيد ومجدولين الادريسي وادريس الروخ ولطيفة أحرار ومجيدة بنكيران وهم يجسدون أدوارهم في هذا الفيلم. كما استطاع أن المخرج أيضا أن يتحكم في عملية التصوير السينمائي بحيث جاءت قوية ومعبرة، وتسير في خطية تتابع الحبكة الدرامية التي كان يكسرها من حين لآخر بتقنية الفلاش باك المتحكم في إدارتها باقتدار سينمائي كبير.
لقد استطاع المخرج السينمائي المغربي ادريس المريني وهو يقدم فيلمه السينمائي الثالث هذا بعد كل من فيلمه السينمائي الأول «بامو» سنة 1983 وفيلمه السينمائي الثاني «العربي» سنة 2011 أن يبدع في هذا المجال السينمائي الفني الصعب وأن يمنح للسينما المغربية فيلما قويا يستحق عليه كل التنويه والتقدير.