الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  السينما العالمية    
السينما في خدمة إنسانية الإنسان
قراءة في فيلم «حياة الآخرين»


الإنسان هو الإنسان دائما وأبدا


إن ما يعيشه عالمنا المعاصر من حروب وكوارث طبيعية، أغلبها من فعل الإنسان ذاته، يجعل الحديث عن الإنسان، باعتباره كائنا له سماته الخاصة، التي تجعله متميزا عن كل الكائنات الأخرى، يوضع موضع تساؤل. فما تعرضه وسائل الاعلام المختلفة، وما ينشر على الشبكات الاجتماعية من صور وفيديوهات من شتى بقاع الكون، وخاصة من تلك البقاع الساخنة بفعل نيران الحرب، التي لا تنطفئ إلا لتبدأ من جديد، يشهد على أن الإنسان كلما ازداد تقدما ازداد بربرية وتوحشا. وهذه مفارقة تمت الإشارة إليها ما من مرة خاصة بعد اندلاع حربين عالمتين خلفتا دمارا عظيما على مستويات متعددة. 


لا جدال في أن العالم في هذا العصر يعاني من مجموعة من الاختلالات، يشهد بها الجميع ولا ينكرها أحد. يكاد يكون هناك اجماع تام في الوقت الراهن على أن العالم يعيش أزمة عميقة. أزمةمختلفة الجوانب، ومتعددة الأبعاد.وهناك طبعا محاولات عديدة  للبحث عن السبل الممكن اتباعها للخروج من هذا الوضع المأزم، الذي يبدو أن لا أحد يستطيع التنبؤ بما سينجم عنه في المستقبل إن استمرت الأمور على ما هي عليه اليوم. 


وقد بدأ هذا التوجه بانتقاد العقل الديكارتي، وكذا التصور الميكانيكي للكون الذي بلوره «اسحاق نيوتن» (Isaac Newton) في الفيزياء. في الحالتين معا تم الربط بين المعرفة والسلطة. لقد كان الأفق المنشود هو جعل الإنسان متحكما في الطبيعة وسيدا لها. وكان هناك ايمان قوي بالتقدم، الذي جاءت الثورة الفرنسية سنة 1789 لترسيخ قيمه السامية المتمثلة في «الحرية» و«المساواة» و«الأخوة».وفي الأخير تبين أن هذا المبتغىبعيد المنال، بل ولا يخرج عن كونه «يوتوبيا» (Utopie) لاغير.


ومن الأشياء الأساسية، التي يمكنها أن تلعب دورا أساسيا في جعلنا نعيد النظر في ذواتنا، وفي وضع العالم من حولنا، نجد الفن بمختلف فروعه، وأول تلك الفروع السينما. وفي هذا الإطار سأتحدث عن فيلم Das leben der Anderson) الذي تمت ترجمته إلى الفرنسية تحت عنوان (La vie des autres)، أي «حياة الآخرين». وهو فيلم ألماني من إخراج «فلوران هنكل فان دانير سمارك» (FloranHenckel Von Donnersmarck)، ومن بطولة «مارتينا غديج» (Martina Gedeck) و«أولغيش مول» (Ulrich Muhe) و«سيبستيان كوش» (SebastianKoch) وغيرهم. وقد حصل الفيلم على مجموعة من الجوائز،سواء داخل ألمانيا أوخارجها،لعل من أبرزهاأوسكار أحسن فيلم أجنبي سنة 2007.


يدور الفيلم في ألمانيا، وبالضبط في ما كان يسمى بـ«الجمهورية الديموقراطية الألمانية» (Deutsche DemokratischeRepublik)، وذلك خلال ثمانينيات القرن الماضي. وللإشارة فقط فهذه الجمهورية قد أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية وبالضبط في 7 أكتوبر 1949. وقد كانت «برلين الشرقية» هي عاصمتها، بينما كانت «برلين الغربية» هي عاصمة ما كان يسمى بـ«الجمهورية الفدرالية الألمانية». (BundesrepublikDeutschland)


إنأول ما تبادر إلى ذهني بعد مشاهدة الفيلم هو أن الإنسان قد يصير، لدافع من الدوافع، فضا، وغليظ القلب، ومتجمد المشاعر،وفاقدا لحسه الإنساني، لكنه قد يعود، لهذا السبب أو ذاك، إلى رشده، وبالتالي إلى إنسانيته. كم هي جميلة في الواقعتلك العودة، التي تجعل الإنسان عظيما بالفعل. جميل حقا كان ذلك الشعور الذي راودني ليلة مشاهدة الفيلم.شعور بالاعتزاز لكوني إنسان.


الإنسان هو الحرية


ذات يوم من أيام الحرب العالمية الثانيةجاء صديق عند «جون بول سارتر» (Jean Paul Sartre) يستشيره في أمر أرقه وقض مضجعه، وهو الاختيار بين الانضمام إلى الجيش الفرنسي لمحاربة ألمانيا، وبين البقاء بجانب والدته المسنة للاعتناء بها لأنها ليس لها أحد يهتم لأمرها غيره. أجابه سارتر بقوله: «أنت حر لكن يجب عليك أن تتحمل مسؤولية حريتك». 


لقد كان «سارتر» يرى أن الإنسان مشروع مفتوح على المستقبل. وهذا المشروع يتأسس على الحرية المقرونة بالمسؤولية. لكن هذه الحرية يحاول الأخرون سلبنا إياها. وهذا ما جعل سارتر يؤكد في مسرحيته الأبواب المغلقة على أن الآخرون هم الجحيم. فنظرة الغير نوليها، في العادة، اهتماما كبيرا. عندما نكون وحدنا نتصرف بشكل عفوي، وقد نأتي بتصرفات حمقاء أحيانا، لكن بمجرد رؤيتنا للغير يتغير كل شيء. مآل القول إن الغير يؤثر فينا ولو بحضوره الفزيقي فقط، لكن هذا الحضور قد يتحول إلى مؤسسة تتدخل بشكل صارخ ومباشر في حياة الناس محاولة رسم حدود لحريتهم في نطاق لا يعود لمفهوم الحرية ضمنه أي معنى، كما في فيلم «حياة الآخرين». 


يعرض الفيلم محاولة حثيثة للسيطرة على الإنسان، ورغبة عميقة في التحكم في كل حركاته وسكناته. كل ذلك يتم تبريره بمبرر واحد ووحيد هو مصلحة الوطن. مصلحة الوطن هذه، تصور دائما على أنها مهددة من الداخل قبل الخارج. ولذلك يجب العمل على حمايتها، والتضحية بكل شيء من أجلها، ولو بإخضاع الناس لنظام مراقبة صارم ومستمر. في الفيلم يسهر جهاز مخابراتي يسمى بـ«السطازي» (La Stasi) بمراقبة الناس. ويشتغل في هذا الجهاز مائة ألف موظف وضعفها من عدد المخبرين.وقد كان هدف هذا الجهاز، كما جاء ذلك في بداية الفيلم هو: معرفة كل شيء. حتى أفيش (Affiche) الفيلم يكشف هذا الأمر حيث يتضمن صورتين مجاورتين لبعضهما البعض: صورة رجل مخابرات يضع سماعتين على أذنيه ويبدو من ملامح وجهه أنه ينصت باهتمام لشيء ما، وصورة رجل وامرأة يتبادلان قبلة طويلة كمؤشر على الحميمية. هذا يعني أن أفيش الفيلم يشير إلى انتهاك الدولة لحميمية الناس.


لقد بين الفيلم كيف أن النظام في ألمانيا الشرقية كان يعمل، بكل الوسائل الممكنة، لضمان بقائه واستمراريته. وفي سبيل هذه الغاية تتساوى لديه الوسائلالمشروعة والوسائل غير مشروعة. وهذا يحيل على نظرية «أليكسيس ميكيافيلي» (Machiavel Alexis) في السياسة، التي تتلخص غايتها في  جعل الأمير يتغلب على خصومه، ويتمكن من الحفاظ على السلطة بين يديه. مشروعية استخدام الدولة للعنف، بما في ذلك العنف الجسدي، يدافع عنها، كما هو معروف، الكثير من المفكرين والفلاسفة كـ«إيمانويلكانط» (Emmanuel Kant)، الذي وقف موقفا سلبيا من الثورة الفرنسية لأنها اعتمدت على العنف وأدت إلى مذابح رهيبة. فهو يؤيد عنف الدولة ويرفض مواجهته بعنف الشعب. وكذلك «ماكس فيبر» (Weber Max) الذي أكد على أن العلاقة بين الدولة والعنف علاقة حميمية جدا.


الفنانون والأدباء عادة هم الذين يتعرضون، وأكثر من غيرهم، للضغط القوي، وللتضييق بأصنافه المتنوعة، وللمراقبة المستمرة، نظرا لما يشكلونه من خطر على نظام الدولة. في الحقيقة إن الخوف من المبدعين له ما يبرره، حيث إنهم قادرين على تغيير تصورات الناس ومواقفهم من الأشياء، وبالتالي فضح الأيديولوجيا التي تروجها الدولة مسخرة في ذلك كل المؤسسات التي تتوفر عليها. للإشارة فقط فهذا الموضوع تناولته أفلام كثيرة جدا سواء في ألمانيا أو في الدول الأخرى.


في فيلم «حياة الآخرين» نجد البطل، وهو كاتب مسرحي، اسمه «جورج درايمن» (Georg Dreyman) يخضع لمراقبة دقيقة من قبل جهاز المخابرات، الذي حول منزله إلى آذان وعيون كبيرة وكثيرة، من خلال تجهيزه بميكروفونات تنقل كل ما يجري داخله، وبكل التفاصيل، قل شأنها أو عظم.وهو ما لم يخطر بباله أبدا، إذ كان يظن أن منزله آمن تماما، رغم أنه في الواقع كان يشعر بأنه مراقب للتأكد من ولائه للدولة. 


وعيه بالرسالة الملقاة على عاتقه ككاتب جعله لا يقف مكتوف الأيدي، متفرجا من بعيد عما يجري أمامه. لقد كان يضمن مسرحياته أفكارا مناهضة لأيديولوجيا الدولة الاشتراكية. ثم كتب مقالا عن الارتفاع المضطرد للانتحار مرفقا بإحصائيات تبين سوء الأوضاع في ألمانيا الشرقية. وهي احصائيات تخالف ما تروج له الدولة.


وبمساعدة جماعة من الأصدقاء، استطاع أن ينشر المقال باسم غير اسمه الحقيقي في جريدة «دير شبيغل» (Der Spiegel)، التي تصدر في ألمانيا الغربية. وقد كان هذا المقال احتجاجا على انتحار صديقه الكاتب «ألبرت جيرسكا» (Albert Jerska) الذي تم منعه من الكتابة لسنوات طويلة من طرف النظام الحاكم، علما أنه  سبق ل»درايمن»، ذات عشية، أن تحدث في موضوعه مع الوزير «برونو هيمف»  (Bruno Hempf)،  فكان جواب هذا الأخير فضفاض ويكاد لا يعني شيئا، حيث اكتفى بالقول إن الأمل موجود مادامت هناك حياة.  


من الممكن أن نحد من حرية الإنسان في الواقع الفعلي، بأن نزج به في غيابات السجن، أو أن نمنعه من مزاولة أنشطته المعتادة، أو من ممارسة هواياته،لكن من المستحيل حرمانه من الحرية الفكرية.هذه الحرية لا يمكن أن نقيدها بالسلاسل، أو أن نضع لها حدودا. نشير بهذا الخصوص إلى كتاب «كليلة ودمنة» الذي ترجمه «عبد الله ابن المقفع». هذا الكتاب كما يقول النقاد عبارة عن انتقاد لاذع للسلطة القائمة من خلال توظيف قصص أبطالها من الحيوانات.


محبة الإنسان للإنسان


تبين الاحصائيات أن عدد الناس الذين ماتوا بسبب الحروب يفوق بكثير عدد الذين ماتوا بسبب الكوارث الطبيعة والأمراض بشتى أنواعها. ولعل هذا ما دفع إلى التفكير في تكوين معاهد عليا لدراسة هذا الجانب العدواني في الإنسان بغرض فهمه، وكشف الآليات المتحكمة فيه. إن الحرب خاصية إنسانية، إذ لا تتحارب الكائنات الأخرى فيما بينها، رغم أن العدوانية شيء طبيعي فيها مثلها مثل الإنسان. 


لقد كان «طوماسهوبز» (Thomas (Hobbes يقول إن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان. ويرجع مصدر النزاع بين الناس في نظره إلى ثلاثة أسباب أساسية هي: أولا التنافس الذي تحركه المصلحة الشخصية. ثانيا الحذر الذي يتوخى الناس من خلاله تحقيق أمنهم. ثالثا الكبرياء الذي يهدف إلى الحفاظ على السمعة. إن الأصل في الحياة الإنسانية، في نظر «هوبز»، هو الحرب. فالإنسان شرير بطبعه. والحرب إن لم تكن موجودة بالفعل فهي موجودة بالقوة. ومتى تهيأت الشروط اندلعت الحرب. 


عندما تندلع الحرب يكشر الإنسان، أو الذئب بلغة «هوبز»، عن أنيابه، ليفتك بالآخرين. لكن حتى عندما تكون الحرب حامية الوطيسيمكن أن نسجل، في بعض الأحيان على الأقل، حضوراللحس الإنساني.ومن ذلك أنه، ذات مرة في رأس السنة الميلادية، حاول الجنود من الطرفين المتحاربين، إبان الحرب العالمية الثانية،ترديد أغنيات عيد الميلاد جماعة، داخل خنادقهم المجاورة لبعضها البعض، بينما كان كبار الجيش وقواده يحاولون منعهم من ذلك. وفي فيلم «حصان الحرب» (Horse war) لمخرجه «ستيفنسبيلبيرغ» (Steven Spielberg)، الذي خرج إلى صالات العرض السينمائي سنة 2011، نقف عند مشهد مؤثر حيث سيتعاون جنديان أحدهما إنجليزي والآخر ألماني لتخليص جواد من السلك الشائك الذي التف حوله، وكان قاب قوسين أو أدنى من أن يقضي عليه.


لا ريب في أن هناك ما يفرق بين الناس، ويوفر الشروط لنشوء العداوة بينهم.كما أنه لا ريب في أن هناك ما يجمعهم، ويؤلف فيما بينهم. قد تلعب الفلسفة دورا هاما في نفي العنف ونشر السلام. وفي هذا السياق يعتبر «اريك فايل» (Erick Weil) أن العنف يمثل مشكلة الفلسفة، باعتبارها رفضا للعنف. فـ«اللاعنف» (Non-violence) هو نقطة الانطلاق مثلما هو الهدف النهائي للفلسفة. إن الفيلسوف، في نظر «فايل»، يرغب في اختفاء العنف من العالم.


إلى جانب الفلسفة، وبالموازاة معها، يمكن للفن أن يقود إلى حياة آمنة ومستقرة، وإلى جعل الإنسان أكثر إنسانية مما هو عليه في الواقع. وفي فيلم «حياة الآخرين» لعبت القراءة وكذا الموسيقى دورا بارزا في الكشف عن المعدن الحقيقي للإنسان، باعتباره كائنا خيرا، كما كان يؤكد على ذلك «جون جاك روسو» (Jean Jacques Rousseau)، الذي كان يعتبر أن الحضارة تتقدم على حساب إنسانية الإنسان. 


لقد كان «جيردفيسلر» (Gerd Wiesler)، وهو رجل مخابرات وأستاذ جامعي يحاضر في أساليب الاستنطاق،يبدو في الفيلم كرجل آلي تماما، خال كليا من أي مشاعر إنسانية، ويؤدي عمله كألة. فحياته ليست حياة طبيعية تماما. فهو لا يعيش كالآخرين وسط عائلة يفكر في أفرادها، ويعمل على أن يؤمن لأطفاله مستقبلا جميلا. فكل ما يشغله هو عمله. وكل ما يصدر عنه مدروس ومرتب ومنظم. إذيعاتب مساعده لتأخره خمس دقائق. 


إنه يبدو كشيء يشبه الإنسان، وليس إنسانا تماما. كل حياته تتمحور حول الكشف عن أعداء الدولة، أو هكذا ينظر إليهم. ففي أحد المشاهد يجمعه مصعدالعمارة حيث يسكن بطفل صغير، لا يكلف نفسه عناء حتى النظر في وجهه. يرفع الصغير رأسه ببراءة ويسأله عما إذا كان يعمل في جهاز المخابرات، يجيب «فيسلر»: «وماذا تعرف عن جهاز المخابرات؟» يجيب الصغير بعفوية، اعتمادا على ما يقوله والده: «إنهم رجال يأخذون الناس إلى السجن». فيسأله «فيسلر»  الذي يبدو أنه لا يخلع ثوب المحقق أبدا: «وما اسم...؟ «ويتوقف دون أن يكمل السؤال. فيسأل الصغير: «ما اسم ماذا؟» يجد «فيسلر» نفسه في ورطة. وللخروج من ورطته يورط نفسه في ورطة أكبر حيث يجيب: «ما اسم كرتك؟ «يتعجب الصغير من الجواب الغريب،  فيقول له: «هل أنت أحمق، إن الكرات ليس لها أسماء». 


غير أن قراءة «فيسلر» لكتاب «بريخت»  (Brecht) وانصاته لمعزوفة موسيقية حولا المجرى العام للفيلم، وجعله يتخذ مسارا مختلفا تماما. تحمل المعزوفة اسم «معزوفة من أجل انسان خير». وقد عزفها على البيانو «درايمن» نفسه، بعدما علم عبر الهاتف بخبر انتحار صديقه «جيرسكا». 


بعد انتهائه من العزفقال «درايمن»لصديقته، التي كانت تقف وراءه، إن من ينصت لهذه المعزوفة، من ينصت لها بتمعن، لا يمكنه أن يكون شريرا. وقد أثرت هذه المعزوفة في «فيسلر» أيما تأثير، حيث تغيرت ملامح وجهه وهو ينصت لها، واغرورقت، ويا للعجب!!، عيناه بالدموع، التي سرعان ما ساحت على خذه. «لينين» (Lénine) نفسه، كما يقولعنه «درايمن»، كان يخشى تأثير الموسيقى. وكان يقول إنه لا يستطيع سماع (Appassionata) وإلا فإنه لن يستطيع إتمام الثورة.


تصالح الإنسان مع ذاته


معروف أن «سطانلي ميلغرام» (Stanley Milgram) المتخصص في علم النفس الاجتماعي قد أنجز في ستينيات القرن الماضي سلسلة من التجارب حول «الخضوع للسلطة» (La soumission a l’autorité). وقد كان هذا الموضوع يشغل الكثير من الباحثين عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. وقد كان الهدف من هذه البحوث والدراسات هو الكشف عن سبب خضوع الجنود الألمان للأوامر التي كانت تصدرها القيادات العسكرية. 


وقد انتهى ملغرام إلى القول إن السلوك الإنساني يخضع للوضعية التي يجد المرء نفسه فيها، ولا يتعلق فقط بطبيعة شخصيته. فأحيانا يجد الإنسان نفسه ملزما بطاعة السلطة التي يطالب بتنفيذ أوامرها. وبفعله هذا يخلي سبيل نفسه من تحمل مسؤولية أفعاله. وهذا هو المبرر الذي يقدمه الجنود في كل الحروب لتبرير وحشيتهم ودمويتهم. وفي سنة 1979 تم إنجاز فيلم مسلتهم من بحث «ميلغرام» حمل عنوان (I comme I care). وهو من إخراج «هنري فيرنيل» (Henri Verneuil). وقد تعرض الفيلم كما البحث الذي استلهم منه لمجموعة من الانتقادات لأسباب مختلفة منها أسباب أخلاقية.


رجل المخابرات في فيلم حياة الآخرين كان من الممكن أن ينحو نفس المنحى. كان من الممكن أن يبرر لنفسه أنه خادم للدولة، وأنه يؤدي عمله كما يفترض في شخص مثله أن يفعل. وهذا هو واجبه المقدس. لكنه لم يتصرف وفق هذا المنطق. لقد كان يملك دليل إدانة «جورج درايمن»، لكنه أخفاه عن أولئك الذين كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر. كان بيده دليل قاطع سيجعل الكاتب المسرحي مجرما في حق الدولة، التي لن تتوانى في أن تنزل عليه عقوبة ثقيلة، حتى يكون عبرة لغيره، ممن يمكن أن تسول لهم أنفسهم معارضة الدولة.


لقد ساهم الفن في إحياء حس «فيسلر» الإنساني، فتصالح مع نفسه. هذا الشخص سيصبح ذاته عندما سيقرر أن يقف ضد الظلم، الذي كانت تمارسه الدولة. لقد كان واعيا بأنه، بفعله هذا يخاطر بمستقبله المهني، بل وبحياته كلها. ومع ذلك لم يترددويتراجع، وإنما سار في نفس الدرب إلى نهايته. وبفضل ذكائه وحيلته تمكن في الأخير من الإفلات، رغم أن رئيسه في العمل، كانيشك في أن له يدا في الأمر، لكنه لم يكن يتوفر على دليل يدينه.ومع ذلك تمت تنحيته من وظيفته، وإلحاقه بقبو لفتح الرسائل، حيث سيعمل هناك أربع سنوات وسبعة أشهر قبل سقوط جدار برلين، إلى جانب شخص يبدو أنه تمت معاقبته، لمجرد سردهلنكتة فيها إساءة للدولة.


اعتراف الإنسان بالجميل


جميل حقا القيام بعمل ذو طابع إنساني، خاصة إذا كان عبارة عن مجازفة وتضحية.أما إذا لم يكن وراء هذا العمل أي هدف شخصي، ودون علم الطرف المستفيد فسيكون أجمل. أما الأروعفهو اعتراف الطرف المستفيد بالجميل لما تنكشف أمامه خيوط اللعبة كاملة. لقد حال «فيسلر» دون القبض على الكاتب المسرحي بتهمة ثقيلة هي خيانة الوطن، والتي لن تكون عقوبتها أقل من الموت، سواء سريعا كان أو بطيئا، من خلال حرمانه من الكتابة. أليس الحرمان من الكتابة بالنسبة لكاتب ما هو موت أكثر قسوة من الموت الفعلي؟


لم يكن «درايمن» على علم بهذه الحقيقة إلا عند اجتماعه بالوزير «برونو هيمف» بعد انهيار جدار برلين، وذلك في بهو إحدى قاعات المسرح. سأل «درايمن» الوزير: لماذا لم أخضع للمراقبة؟ فأجابه الوزير بابتسامة خبيثة بأنهم، في الواقع، يعرفون عنه كل شيء. وبدأ في سرد بعض الأشياء التي يعرفونها عنه. عاد «درايمن» إلى الدار على وجه السرعة، وبحث حيث أشار له الوزير، فاكتشف ما لم يخطر بباله أبدا، وهو أنه كان مراقبا مراقبة مستمرة.


إذا كان مراقبا فلماذالم يتم القبض عليه؟ هذا السؤال لم يكن «درايمن» يتوفر له على جواب. الجواب سيجده في مركز الأرشيف، الذي فتحته الدولة في وجه مواطنيها، حتى تتيح لكل مواطن منهم أن يطلع على التقارير السرية، التي أعدت حوله.وهنا لابد من الإشارة إلى أهمية مراكز الأرشيف بالنسبة لكل دولة. وهو ليس بأمر سهل كما قد يبدو خاصة إذا لم تكن هناك إرادة قوية لدى الدولة لإجراء مصالحة وطنية مثمرة. والملاحظ أن أغلب تجارب المصالحة الوطنية تفتقر إلى الجانب الوثائقي. 


مثل الكثير من الدول كجنوب افريقيا والجزائر أنشأ المغرب مؤسسة للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ميزت العقود الأولى بعد استقلال البلاد. أطلق على هذه  المؤسسة اسم «هيئة الانصاف والمصالحة». وقد أنشئت هذه الهيئة في السابع من يناير 2004، للبحث عن حقيقة ما حصل من أجل جبر الضرر، وتعويض الضحايا وأسرهم، ورد الاعتبار لهم. لكن الملاحظ في عمل هذه الهيئة هو أن التركيز انصبأساسا على التعويض المادي. أما الجانب الوثائقي فلم تعط له أهمية كبيرة، علما أن هناك الكثير من الضحايا، الذين ما يزال مصيرهم مجهولا إلى حدود اليوم. هذا الفراغ الوثائقي تم ملؤه، جزئيا على الأقل، من خلال كتابات بعض الضحايا، الذين أبدع بعضهم في تصوير المآسي التي عاشوها، والذين تندرج كتاباتهم وشهادتهم في إطار ما يعرف بأدب السجون. ومن هؤلاء نجد «صلاح الوديع» و«أحمد المرزوقي».


في مركز الأرشيف سيعرف «جورج درايمن» أنه تعرض للخيانة من صديقته الممثلة «كريستا ماريا سيلاند» (Christa-Maria Sieland)، التي كان يؤمن بقدراتها الفنية، بينما كانت هي خائفة على مستقبلها الفني. لذلك قبلت أن تصبح عميلة للدولة فأفشت سر مقال الانتحار، وحددت مكان وجود الآلة التي كتب بها.


وجاء رجال المخابرات إلى منزل «درايمن» بحثا عن الآلة الكاتبة المقصودة، باعتبارها أداة الجريمة، علما أنهم كانوا يعرفون كل أنواع الآلات الكاتبة التي يستخدمها كل الكتاب في البلد، إلا تلك الآلة التي تم جلبها بشكل سري من الخارج. لما حضروا إلى عين المكان كانت كريستا ماريا حاضرة. وقف رئيس رجال المخابرات «أنطون كروبيتز» (Anton Grubitz) عند المكان المعلوم، بينما تفرق رجاله على غرف المنزل. التقت عينيها بعيني «درايمن» فلم تستطع أن تتحمل اللوم والعتاب اللذان حملتهما نظراته، فهربت من الدار إلى الشارع، حيث ألقت بنفسها أمام شاحنة أردتها قتيلة على الفور.


لقد علم «جورج درايمن» أن مصيره كان بين يدي رجل المخابرات، الذي تكلف بوضع تقارير عن كل أنشطته.  تفاجأ حين اكتشف أنه تعرض للخيانة ممن لم يتوقع، وأنه تم إنقاذه من طرف شخص لا يفترض به أن ينقذ أحدا مثله. لقد تبين له، بما لا يدع مجالا للشك، أن من أنقده فعلا هو رجل المخابرات، الذي تستر على تفاصيل المقال الذي كتبه، إذ لم يكتب أي شيء يدينه، كما أنه هو الذي أخذ الآلة الكاتبة، التي كتب بها المقال، من مخبأها، ووضعها في مكان لم تصل إليه يد الدولة الطويلة.


سيبحث «درايمن» عن اسم رجل المخابرات المعني، اعتمادا على الرمز الذي كان يختم به تقاريره السرية، والتي أضحت اليوم علنية، وهو (HGW XX/7). بعد ذلك سيحاول العثور عليه، وسيكون له ما أراد. لكنعندما سيراه منشغلا في عمله كساع للبريدسيكتفى بمراقبته من بعيد، ولهنيهة فقط، ثم يقفل عائدا من حيث أتى. ماذا كان من الممكن أي يقول له؟ شكرا.. كان على وعي ربما بأن هذه الكلمة، في مثل هذا الوضع، ستبدو تافهة ومضحكة، بل ولا معنى لها.


بعد مرور سنتين علىهذا الأمر، سينشر «درايمن» رواية بعنوان «معزوفة من أجل إنسان خير». وبينما كان «جيردفيسلر»، رجل المخابرات السابق، يجر عربته التي تحمل طرودا بريدية، التي يوزعها على أصحابها في منازلهم، سيثير انتباهه صورة الكاتب المسرحي على الزجاج الأمامي لمكتبة يحمل اسمها في حد ذاته دلالات كثيرة، وهو «كارل ماركس» (Karl Marx)، منظر الاشتراكية المعروف. بمجرد ما سيتأكد من الصورة سيدخل إلى المكتبة لشراء الرواية، التي تصفح أوراقها الأولى، وتوقف لبرهة عند الإهداء، الذي أشير فيه إلى الرمز السري السابق الذي كان فيما مضى يختم به تقاريره. 


عندما أراد تسديد ثمن الرواية المعنية سأله الكتبي إن كان يريد أن يضعها في غلاف للهدايا، فأجابه على الفور: «إنها لي». في الواقع هذا الجواب يحمل معنيين: الأول هو أنه اشتراها لنفسه. والثاني، وأظنه هو المقصود، هو أنها مهداة له شخصيا.حقا إنه يستحق الإهداء. وجميلة كانت طريقة الاعتراف بالجميل، لكنها ليست، في الحقيقة، بشيء غريب على شخص يمارس مهنة الكتابة..

مصطفى قمية