الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  السينما العالمية    
«تاكسي طهران» لجعفر بناهي أو «السينما المقموعة»..

بعد حصول شريط «تاكسي طهران» لجعفر بناهي على الدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي خلال دورته الخامسة والستون، حصل ما يشبه الإجماع على ضرورة مشاهدة هذا العمل السينمائي الذي أنجز خارج المعايير المعقولة التي تمكن من إبداع عمل متكامل فنيا وتقنيا، على اعتبار أن المخرج حقق فيلمه دون تصاريح أو موافقة السلطة الحاكمة في إيران، بعدما حكم عليه سنة 2011، من طرف المحاكم الإيرانية، بمنعه من ممارسة الإخراج لمدة 20 سنة .. تحدي كبير لمخرج اثبت قوته في مراوغة الرقابة والتحكم البوليسي لنظام تيوقراطي لا يرحم، نظام له عداوات مع الفن عامة والسينما خاصة، على اعتبار أنه فن المستحيل والكشف والتعرية بواسطة الصورة التي لها قوة ومفعول ساحق «صورة تغنيك عن ألف كلمة» كما أكد الحكيم الصيني كونفشيوس.. 


جعفر بناهي في هذا الشريط، أراد أن يقدم لنا المجتمع الإيراني كما هو، أو لنقل حاول تعريته بطريقته الخاصة، مازجا الواقع بالخيال، الوثائقي بالروائي، الممثلون المحترفون بالناس العاديين، راويا لنا قصصا عن الأمانة واللصوصية، عن الفن و اللافن، عن السينما كيف يجب أن تصنع حسب تعاليم سادة الأخلاق و تربية ذوق النشء على القبح والانضباط لتعاليم الفقه والفقهاء.. كل ذلك من خلال فضاء مغلق لكن مفتوح في نفس الآن على العالم الخارجي، سيارة متحركة، يقودها المخرج نفسه، حاملة داخلها أشكالا بشرية وأهواء إنسانية مختلفة، ناقلة حكايات وقصص مختلفة بواسطة كاميرا ثابتة أو مثبتة على الواجهة الأمامية، كاميرا سماها أحد شخوص الفيلم «كاميرا ضد السرقة»، لكنها في الحقيقة هي نفسها كاميرا تسرق صورا ولقطات ومشاهد من الشارع العام دون الحصول على إذن أحد، هذا يذكرنا بفيلم «عشرة» للمخرج عباس كياروستامي، الذي هو الآخر وقبل جعفر بناهي اختار هذه الطريقة لنقل الواقع، طريقة لم تكن تعني، بالنسبة لكياروستامي، إنها وسيلة لفك الحصار أو قول أنه مخرج ممنوع من الاشتغال والتصوير داخل وطنه وأن حقه مصادر في التعبير، وبالتالي التحايل على القانون، بل هو أسلوب اختاره وأحبه واعتقد أنه طريقة جديدة ومغايرة في قول ما يريد قوله، عكس بناهي، الذي يمعن، فيلما بعد فيلم في إغاظة نظام الملالي ويدفعهم لمحاربته ومحاصرته، محاصرة، ولاشك، تزيد من شعبيته في الخارج، أساسا في الغرب المواجه لإيران في كل المجالات، شعبية تأكدت من خلال الاحتفاء بهذا الفيلم وحصوله على الجائزة الكبرى لأحد اعرق المهرجانات العالمية: جائزة الدب الذهبي (كما اشرنا سابقا)، جائزة لا يستحقها في نظري، لأنني اعتبر شخصيا هذا الفيلم شريط جد عادي، رغم توفره على بعض الومضات والاشراقات، ومضات واشراقات تتجلى في حرفية المخرج المتمثلة في قوة المسك بتلابيب موضوعه والعمل على تطويره من خلال حوارات، قد تبدو للبعض جد مستهلكة وفارغة من أي معنى، لكنها تحمل الكثير من الصلابة في مواجهة واقع لا يرحم، مثل، حوار المحامية الحاملة لباقة ورد، محامية تحدثت بكثير من الشجاعة، كاشفة عن معاناتها المهنية، ليس فقط من طرف الدولة الإيرانية ولكن من طرف بعض زملائها المحامون والإطار الذي يمثلهم ومن المفروض أنه يدافع عن حقوقها.. 


الشريط تطرق لمواضيع عديدة كالتعليم، وحرية التعبير والجريمة والعقاب..، لكنه تطرق يبدو جد عادي من خلال كاميرا ثابتة وبوح مخدوم في معظم أجزاء الفيلم، المخرج السائق، يعمل جاهدا على إعداد المشاهد لتقبل الآراء المختلفة لشخصياته من خلال توجيه النقاش توجيها مفضوحا، يقول لأحد الشخصيات التي طلبت منه أن يساعدها في اقتناء أفلام يشتريها بشكل مقرصن لكي يشاهدها، مادام يثق في ذوقه، على اعتبار أنه مخرج مرموق: «كل الأفلام تستحق أن تشاهد وبعد ذلك تبقى مسألة الذوق».. الذوق الذي عملت الدولة على تمييعه وخلق رؤية قاصرة للفن والسينما، فإبنة الأخ: الطفلة الصغرى، التي نجدها تتكلم في الفيلم بلغة الكبار، مما يعني أن حواراتها كتبت بعناية فائقة ووعي معارض، تريد صناعة فيلم بطلب من معلمتها، لكن المعلمة فرضت شروطا من أجل أن يكون هذا الفيلم فيلما ناجحا، شروط، هي نفسها التي تصر الرقابة السينمائية في إيران على تثبيت وتجذير دعائمها، وكل خارج عن حدودها يعتبر مخرج مارق، كجعفر بناهي، المحتفى به بشكل استثنائي في بلدان الغرب .. 


لحظة زيارتي لطهران ضمن فعاليات مهرجان فجر السينمائي الثالث والثلاثون، سألت مدير المهرجان عن هذا المخرج الخارج عن الإجماع الإيراني وعن سبب منع أفلامه، أجابني بكثير من التأسف قائلا: «جعفر هو من يريد هذه الحالة، هو من يمعن في جعل المجتمع الإيراني يرفض تصرفاته..»، لينتقل بعدها للهجوم طارحا سؤال: «ماذا سيكون موقف حكومة بلدك لو مخرج مغربي أنجز فيلما خارج القوانين المعمول بها، أي دون الحصول على رخصة التصوير؟ بل ويقدم أسوا ما يمكن أن تجده في بلدك..» سؤال لم أجد له جوابا حينها، ولم أكن أعلم أننا في المغرب سنواجه حالة مماثلة فيما بعد مع شريط «الزين اللي فيك» للمخرج نبيل عيوش ..


أصحاب الذوق السينمائي الحق البعيدون حقا عن دهاليز اللوبيات السينمائية والعصابات السياسية والشعارات الملغومة، ولا شك سيطرحون سؤال: لماذا جائزة كبرى ببرلين لفيلم «تاكسي طهران»؟


الجواب وبكل بساطة، لأن جعفر بناهي مخرج ورغم إمكاناته الفنية والتقنية، يحب العيش عند الحدود الفاصلة بين السياسة والسينما، بين الواقع واللاواقع، مخرج مشاكس يعرف من أين تؤكل الكتف، مخرج لا يهمه أن يلعب ضد بلده بتقديم هدايا للغرب الذي يضع إيران في سلة الدول المارقة الرافضة للحريات العامة والخاصة للأفراد والجماعات.. فلا عجب أن أصبح رمز للنضال السينمائي في إيران والعالم، يتهافت الكل على مشاهدة أفلامه والتغني بشجاعته، وبالتالي منحه جوائز كبرى كتحية لتعاونه السينمائي جدا جدا..

عبد الإله الجوهري