الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  السينما العالمية    
سكورسيزي يصوّر عظمة أمبرطورية الجشع وانحطاطها!

بعد محطة باريسية تخلّلتها تحيّة الى ساحر السينما جورج ميلياس، يعود مارتن سكورسيزي الى ما يشغله منذ سنوات: العصابات والنحو الذي تذوب به في المجتمع الأميركي. بيد ان عصاباته الجديدة ليس على أيديها دماء. لا يمرغها صراعها في الوحل مع لقطة بانورامية لمركز التجارة العالمي في الخلفية. هؤلاء هم أفراد عصابات الأبراج، يلبسون السترات وربطات العنق ويلجأون الى عقولهم بدلاً من أيديهم. هم أصحاب رقيّ اجتماعي وبرستيج دنيوي. سلطتهم تشمل الكرة الأرضية ولا تقتصر على الشارع، أبرز مسرح للجريمة المنظمة عند سكورسيزي. هذا في الظاهر، أمّا في الباطن، فلنثق بصاحب "الثور الهائج" ليحملنا الى جنّة البورصة ثم ينزلنا في ظلماتها ناقلاً صعود الحلم الأميركي وهبوطه في ثلاث ساعات أوبرالية عنيفة.


الأيادي فوق المدينة


جديده، "ذئب وول ستريت"، عمل صاخب ومدوّخ كتب نصه تيرينس وينتر. يعجّ بالمظاهر السطحية والنكات السخيفة لمهووسي الربح وثقيلي الظلّ. عمل شديد الحركة والديناميكية، زاخرٌ بالغمزات الى سينما سكورسيزي نفسه، وأقرب في سرديته وفي كيفية تقديم بطله، الى صيغة الأفلام التي أنجزها المعلم النيويوركي في سنوات الألفين، ولا سيما الى "الطيار" (2004)، المرحلة التي شطرت أنصار سكورسيزي شطرين، فلم ينل دائماً التقدير النقدي. بيد ان طبقات جمالية مستحدثة تضاف الى العمل هنا، لتحرفه عن الخطّ وتفتح احتمالاته أمام مناطق غير مظنونة وخصوصاً مع اقتراب الفيلم الى الخاتمة. لنقلْها من دون لفّ ودوران: هنا فيلم آخر عن الجشع، عن الجريمة المنظمة، عن الأيادي المهيمنة على سوق المال والأعمال، عن التبذير اللامعقول، عن المجون والتحدي، وعن البصمات الخفيّة التي تحرك تقريباً كلّ شيء في عالمنا المعاصر. باختصار: فيلم مرجعي (بلا ملفات ومعلومات كثيرة) عن الاقتصاد الأميركي يُروى من الداخل، من أوكاره المشتعلة بالسباب والخطيئة والكذب!


تأتي الحكاية على لسان أحد صنّاع هذا العالم، اذا انها تستند الى مذكرات جوردان بلفورت (1962)، الذي يبدأ موظفاً عادياً عند "روتشيلد" عام 1987 ليتحول في غضون ستّ سنوات الى ما يشبه كاليغولا متربعاً على عرش "وول ستريت". سليل عائلة متواضعة، ارتفع في وقت قياسي الى مصاف الأمبرطور المالي في بلد الفرص الممكنة، بعد تأسيسه شركة مضاربات وبيع الأسهم وشرائها. يعتقد بلفورت، وهو ما دون الثلاثين آنذاك، انه وضع يده على سرّ الاغتناء السريع. وهو لم يخطئ في ذلك. فالقنوات مفتوحة والأوراق النقدية تتدفق. الا ان أحداً لم يعلمه كيف يتفادى الوقوع في مطبّات التنميط الفاقع لصورة الثري. فصديقنا حديث النعمة، ولن يوفر اياً من كليشيهات حديثي النعمة، من الحفلات الضخمة على متن يخت يشتريه من كوكو شانيل، الى حفلات الجنس الجماعي (أورجيات) حيث تختلط فيها الأجساد على متن طائرة.


أحطّ الأماكن


لن تأتي "نهايته" الا على يده. عندما يضيق الخناق حول رقبته، فلا يحصل هذا لأنه استولى على ممتلكات غيره وغسل الأموال، بل لأنه لم يتوقف عند حدّه بعدما تمّ ابلاغه بضرورة التوقف. فبين العالم الذي يقيم فيه، والعالم الذي سيكتشف وجهه فجأة، فرقٌ شاسع يقلل بلفورت حجمه. فجأة، وبعد تبدد الحلم وانقطاع مصادر اللهو، يصبح بطلنا وحيداً في ما يشبه المسرح وأمام حشد من الـ"متفرجين". في هذه المعمعة، يُخرج سكورسيزي من جعبته كلّ هواجسه التي تكوّنت عنده مع الأيام، فينزل برفقة بطله الى أحطّ الأماكن، مُظهراً كم أن المنظومة العالمية قادرة على اعادة تدوير اللصوص واستقطابهم مجدداً في حضنه، لا بل عبر استعمالهم كأساتذة (مشهد الختام).


بسرعة قياسية يتحول بلفورت (ليوناردو دي كابريو في اداء يتجاوز كل حدّ) الى أحد أقطاب هذه المهنة، ويصبح مطارَداً من الشرطة الفيديرالية لتورطه في نشاطات مالية غير شرعية. على مدار كل سنوات تحركه، تقتصر حياة بلفورت على أشكال الفسق الثلاثة: مخدرات، نساء، عقاقير! لقطة بعد لقطة، يتغير كلّ ما يحيط به، تتلون الحياة ويزداد جمال النساء ووفاء الأصدقاء ومساندة الأقرباء. حتى صورة سكورسيزي تصبح شيئاً آخر. لكن هذا كله سيغرقه في المزيد من الرمال المتحركة التي ستبتلعه كلّ يوم، أكثر فأكثر. كلما حقق طموحاته المالية خسر ذاته أكثر، واذعن للشراهة المتوحشة التي يعكسها بشكل ممتاز مشهد الـ"أورجي" الجماعية في المكتب خلال ساعات العمل. مشهد الانفلات هذا يوظف فيه سكورسيزي كل قوته الاخراجية.


عظمة لا تخبو


يبتعد سكورسيزي عن اعطاء الدروس، لكن سينماه لا يسعها الا ان تضمر ثنائية الثواب والعقاب. هذا شيء فطري عنده ويأتي ضمن آلية تداولية. لكن "مارتي" يتفادى اغراء الوقوع في فخّ الادانة. يرينا، من جملة ما يرينا، ان للعمل الاقتصادي (الشرعي في الشق الظاهر منه) امتدادات مافيوزية ولا تخصع لأي مناقبية. فيلمه هذا يشبهه الى حدّ بعيد. بمعنى انه يعرض من دون ان يتخذ موقفاً لا من أفعال بطله، ولا من الرأسمالية. لا يحرق بطله على نار خفيفة ولا يعاقبه. يعرّيه كما هو ويترك لنا حرية أن نختار معسكرنا. فبلفورت هذا ليس كأيّ مضارب عبر في شارع وول ستريت، انه صاحب عقلية مالية تعتبر نهب أموال الأغنياء والشركات الكبرى فعلاً مقبولاً لأن له مسوّغاته الشخصية جداً، ما دام يفيد الشلّة ويزيل التنصيبة بحجج أخلاقية متهافتة. أعضاء هذه الشلّة يستقبلهم بلفورت في شركته ولا يتوانى عن طرد أيّ منهم اذا ظهر عنده علامة رأفة او أنسنة، كالموظف الذي تعرض للاهانة الجماعية عندما قرر الاهتمام بسمكته في ذروة العمل. هنا، السمكة الكبيرة تأكل الصغيرة، وهذا ما سيصوره سكورسيزي حرفياً. لا استعارة في هذا الفيلم. ما نراه على الشاشة طوال 179 دقيقة، معانيه ومقاصده منه وفيه. مثلما يتعين على بلفورت أن يحمل بذور تدمير الذات في جيناته.


عظمة سكورسيزي التي لا تخبو البتة، تتجسد في قدرته العالية على جعل عالم المال والأعمال مساحة حالمة أيضاً على الرغم من كل شيء. انه لتحدٍّ صعب، استخراج بعض الحلم العالق في أروقة المكاتب حيث السيادة للورق والشاشات والأرقام. حلم شخصيات تبرر أفعالها دائماً بالجنس والخمر والكوكايين. يؤنسن سكورسيزي هذا العالم الجامد والبلا روح، لتكون عنده قدرة أكبر على ضربه. لديه ما يكفي من الخبرة والذكاء ليكون متيقناً من ان المحاسبة الأخلاقية لهؤلاء لا تتمّ الا بعد أن يعطوا صفة العاقل. الشيء الجامد لا يُحاسب.


كوميديا مقلقة


المخرج الكبير هو الذي يتبنى أكثر المشاريع بُعداً منه ويجعلها خاصة به. شخصية بلفورت سينمائية بامتياز، لهذا السبب يلتصق بها سكورسيزي، بعد أن يجد فيها صنوه في عالم المال. "مارتي" وبلفورت يتشاركان بعض الأشياء (تعاطى مخرجنا المخدرات في أواخر السبعينات وكاد يموت وانقذه منها تصوير "الثور الهائج"). من بين تلك الأشياء، تفصيلٌ صغير يغدو مهماً في الفيلم، وهو قدرة الاثنين على الـ"انترتنمنت" (الترفيه). كلمة بالانكليزية لا تعبّر عنها أيّ كلمة بأيّ لغة أخرى. يمسك بلفورت خيط الحكاية مثلما يضع سكورسيزي اخراجه على سكة جهنمية حتى وصولنا الى المحطة الأخيرة. في كلّ ما يفعله، لا يبدو بلفورت شخصية تراجيدية، بل كوميدية في عدد من جوانبه. صحيح ان الفيلم يمزج الجانرات السينمائية، وصحيح انه يفلت من التصنيف، الا ان الكوميديا تطوف على السطح وخصوصاً انه يستعين ببعض الوجوه الطريفة من مثل جونا هيل (عظيم!) وجان دوجاردان، اللذين يُستخدمان في وظيفة تناقض وظيفتهما. لكن دعونا لا نتوهم: هذه كوميديا تثير القلق والريبة والقليل فقط من الضحك...


لا يلجأ سكورسيزي الى النمط التفخيمي والجاد والسجالي في التعبير عن رؤيته وأفكاره. يسلّم نصه الى الخفة، لكنها خفة زائفة تفيد أكثر مما تعوق وصول المقاصد الى المشاهد. هذا ينسجم مع ماهية الفيلم بأكمله: أفكار رصينة ورؤية يائسة للعالم في قالب يتظاهر بعدم الاكتراث. تبلغ فصول الكوميديا لؤماً وسخرية هدّامين لم يسبق لهما مثيل في سينما سكورسيزي، كالمشهد حيث يضطر فيه الذئب البشري إلى أن يزحف كي يستقل سيارته ويعود بها الى المنزل بعد تناوله نوعاً نادراً من العقاقير يحوّله الى بهيم من فصيلة الزواحف. يدفع سكورسيزي بخطابه الى حدود بعيدة جداً هذه المرة، مثيراً الدهشة والمفاجأة في كلّ ثانية ودقيقة تمر بالفيلم، فيخرج من قمقمه مبحراً في مناطق سينمائية أخرى، بعدما تجاوز السبعين بعام.


"المخلص" والاعجوبة


في أحد المشاهد، نشاهد دي كابريو/ بلفورت، بكاراكتيره الهستيري الذي نكاد نعتقده ملبوساً، يرفع يديه! نخاله مسيحاً مصلوباً. لكأننا امام "المخلص" في مجال الاقتصاد الأميركي، يسرق الأغنياء ليتشارك المغانم مع طائفته. سكورسيزي الذي يحلو له دائماً ادخال اشارات ثيولوجية الى اعماله، يصوره كاشتراكي رأسمالي يستفيد ويفيد، ثروته نوع من اعجوبة ولا حاجة الى أكثر من دقائق لتحويل سمكة الى مئة. الاعجوبة بمفهومها الديني شيء يتكرر في الفيلم، كاللحظة التي ينجو فيها بلفورت من بحر هائج جداً يكاد يبتلع السفينة التي تقله من ايطاليا الى سويسرا بهدف انقاذ المال الذي وضعه في احد مصارفها. تتحطم السفينة ومن حيث لا ندري ينزل حبل سماوي ينقذه. التشبيه الذي يجريه نصّ سكورسيزي بين أمواج البحر المتلاطمة والرأسمالية التي يمثلها بلفورت، واضح ولا يحتاج الى أيّ جهد لتداركه او تأويله. ما يكشفه عن النفعية في المجتمع (تلك النفعية التي تحول الناس الى بهائم ودمى متحركة)، لا نحتاح الى سكورسيزي للتعرف الى وجهه، لكننا نحتاج اليه كي لا ننساه!


في المقابل، والحقّ يُقال، لم يسبق لسكورسيزي أن صوّر على هذا النحو المتوتر والفعال. أولاً، خلافاً لأعماله السابقة، نيويورك ليست شأناً كبيراً في هذا الفيلم. ثانياً، الشخصيات. اذ يتعاطى بلفورت معها بالمسافة والرفض. بطلنا في هذا الفيلم يستقطب كل صفات البهيمية. وحشٌ استهلاكي وتفريغ طاقات، يمضغ الحياة بلا شهية، بل كي ينسى الفراغ. "أميركا ولدت في الشارع"، كان يقول الملصق الاعلاني لفيلم "عصابات نيويورك". أميركا التي يصوّرها الآن (تجري الأحداث بين ثمانينات القرن الفائت وتسعيناته)، تُطبخ في المكاتب واليخوت وغرف النوم. نظرة كهذه لم تكن ممكنة قبل أزمة 2008 التي عصفت بالعالم وجعلت "السماسرة" الأعداء الجدد للعالم وخلقت وعياً جديداً عند السينمائيين. وها ان سكورسيزي يدلو بدلوه، بعيداً من كلّ ما قيل سابقاً عن عالم الاقتصاد.

هوفيك حبشيان