الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  كسر الخاطر    
محمد الشريف الطريبق، سينما اللغة الحاذقة

عرفته منذ سنوات عديدة كمناضل داخل حركة الأندية السينمائية، شاب عاشق للسينما ومولع بالقراءة والكتابة، مثلما عرفته مهووس بضرورة نشر ثقافة سينمائية و العمل على تجذير أصولها بواسطة أفلام، أفلام عانى الأمرين من أجل تحقيقها و إخراجها للوجود، مساره السينمائي بدأ بمحاولات هاوية من خلال مغامرة أولى، مغامرة إنجاز شريط " العرائش حبي "، الذي حققه بإمكانيات جد بسيطة، رفقة مجموعة من الأصدقاء العاشقين المغامرين، لينتقل بعدها مباشرة، نحو انجاز أول فيلم روائي قصير بشكل احترافي سنة 1997 تحت عنوان " نسيمة " الذي سمح له المشاركة في المهرجان الوطني للفيلم في دورته الخامسة بمدينة الدارالبيضاء، مغامرة أولى حقيقية، أشرت على ميلاد مخرج مغربي شاب يبحث عن المستحيل، و يحفر في الأرض الصلبة للسينما المغربية، سينما كانت تواجهها آنذاك مشاكل جمة في الإنتاج و التوزيع، و قبل ذلك أسئلة الإبداع والجودة، مثلما كانت سينما ترزح تحت هيمنة و رحمة أسماء سينمائية محددة، لم تكن ترى في تحركات مناضلي الجامعة الوطنية للاندية السينمائية، سوى محاولات نزقة و مواقف مؤدلجة، لن تفضي لنتائج معينة، لكن الشريف، و معه العديد من المؤمنين بدور الفن والسينما في التغيير، كانت له قناعة أخرى، قناعة الإيمان بضرورة الإصرار و العمل المتواصل و الجد و الإجتهاد، مهما كانت الظروف و الأحوال، فحقق رفقة صديقه المخرج هشام فلاح، فيلما روائيا قصيرا بعنوان " بالكون أطلنتيكو "، فيلم أثار لحظة خروجه زوبعة نقدية و صحفية، و محققا نجاحات باهرة، نجاحات مستمدة من صدق المعالجة و بعد الرؤية في النظر لواقع الشباب المغربي، و الإنصات لنبض معاناتهم وآلامهم و أحلامهم الموزعة بين الهنا و الهناك. الشريط حصل على العشرات من الجوائز، مثلما جاب أشهر المهرجانات العربية و الدولية، ناقشا بذلك اسم صاحبيه في رخام السينما الجادة القادمة بقوة.
بعد " بالكون اطلنتيكو " المشترك، سينهج الطريبق طريقه الخاص الملئ بالمفاجآت التلفزية والسينمائية، محققا العديد من الأفلام التي يذكرها المتفرج المغربي جيدا. أفلام تلفزية دخلت الريبيرتوار الفني المغربي من بابه الواسع، ك " و تسقط الخيل تباعا " و " ثمن الرحيل " و " غزل الوقت " و " باب المدينة "، أفلام قدمت فرجة مغايرة للجمهور الواسع، فرجة تهدف لإمتاع أكبر قدر من الجمهور، دون التفريط في الأبعاد الفنية والتقنية للعمل، الشيء الذي جعله مطلوبا ومرغوبا للتعامل معه من طرف القنوات المغربية. و محبوبا لدى فئات واسعة من جمهور التلفزيون، بل و فنانا يقدم صورة طيبة عن الشباب المغربي و يشرف مدينته العرائش، التي كانت آنذاك، في حاجة لفنان من حجمه لتحتل مكانة بين المدن المغربية فنيا و ثقافيا.
مساره السينمائي، لم يتوقف بتواتر اشتغاله في التلفزيون، بل كانت تجربة التلفزيون بشكل من الأشكال في خدمة تجربة السينما، على الأقل ماديا حيث كانت تضمن له و لأسرته العيش الكريم وتسمح له بالتفرغ للإشتغال بهدوء و التفكير بعمق. بمعنى أن الأعمال التلفزية، لم تكن بالنسبة له إلا أرضية للتعلم و الاستمتاع و شحذ الأدوات لمجابهة واقع الإنتاج السينمائي الملغوم بالإكراهات المختلفة، فكان الذي كان، مسار متفرد وعطاءات لا متناهية متواصلة متتابعة، مع أفلام قصيرة تالية، ك " " 30 سنة " " و " موال " و " افتراض "، أفلام جاءت في مجملها مختلفة، من حيث العناية ببهاء الصورة و الوفاء للتقنية الواقعة تحت أسر الضبط و الربط، و التوظيف الخلاق للموسيقى المغربية بأشكالها التراثية الأكثر أصالة، و معالجات لمواضيع دفينة في النفس البشرية، النفس الباحثة عن الحرية و الهروب من آتون الواقع المقيد بالمادة الفانية.
مغامرة الشريف لم تتوقف عند حدود الفيلم الروائي القصير، بل تجاوزتها لدخول غمار إنجاز فيلم روائي طويل بعنوان " زمن الرفاق "، إنجاز عاد بنا لسنوات النضال الطرية والمواجهة بين الفصائل الطلابية في الجامعة المغربية، خلال سنوات التسعينات من القرن الماضي، حيث الصراعات السياسية والنقابية، و الخطابات القائمة على المرجعيات الإسلاموية الفجة و القراءات الماركسية لواقع يحبل بالمتناقضات، بل قصص عن الحب و الهروب للأمام، و محاولات إثبات الذات لشباب مغربي، لم يكن تائها بقدر ما كان مشبعا لحد التخمة بالإيديولوجيات الغربية و الشرقية.
الفيلم و رغم حصوله على جائزة أحسن فيلم في مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة، وإعجاب الكثيرين بجرأته و قوته في معالجة مرحلة منذورة للنسيان، لم يسلم من النقد، باعتباره فيلما خطابيا مباشرا، وعملا لم يتخلص من مرحلة طلابية ساذجة لازال سحرها و عنفوانها يمارسان تأثيرهما على المخرج. لكن رغم كل ما يمكن أن يقال عن هذا الشريط، فالصدق الذي أنجز به كفيل بجعله من الانجازات المغربية الأكثر وفاء للواقع المغربي الشبابي الغارق في لجة الأوهام و الأحلام و الآمال الطيبة المرهفة. أو هام و آمال و أحلام قادته نحو تجربة ثانية، تجربة " أحلام صغيرة "، الفيلم الأكثر نضجا و عمقا، أو المحطة الروائية السينمائية الطويلة الثانية، محطة جاءت جد مختلفة عن التجربة السابقة، تجربة حاولت القطع مع المواضيع التاريخية و الواقعية المباشرة، لتدخل عالما متفردا من الأحاسيس الصادقة و الحنين لمراحل زمنية منقضية، مرحلة سنوات الخمسينات الماضية، و هي المرحلة التي شهدت تفتح المجتمع المغربي على التقاليد الجديدة و الأعراف الحداثية المستوحاة من القيم الغربية الأوروبية والشرقية العربية الأكثر انفتاحا، خاصة مصر محمد عبد الوهاب و فريد الأطرش و سادة الغناء و الفكر آنذاك، القيم الوافدة من خلال الاحتكاك والمشاهدة الفيلمية لأفلام فرنسية والأمريكية و معها المصرية ، و تفتح الروح المغربية على مظاهر الحداثة و الخروج من القوقعة. من بوابة التمرد على التقاليد البالية التي تفرق بين الرجل و المرأة، و تجعل أساسا النساء مسجونات وراء الأسوار العالية للدور المبنية بعناية رجالية فائقة، وروح حضارية ممعنة في ستر كل ما هو جميل، نساء " سجينات " لكنهن بأرواح بدت تتمرد على القيود و نمط العيش السالب لمعاني الحرية.
الطريبق في هذا الفيلم، لم يسرد حكاية و كفى، بل قدم لنا عالما مجازيا عن العلاقات النسائية في مجتمع تقليدي ذكوري محافظ، مثلما قدم لنا عالما متفردا من تقاليد الأكل و الشرب و اللباس، و عادات الزواج و الطلاق والعلاقات الحميمية النسائية المسكوت عنها في كتاباتنا و أعمالنا الفنية المغربية. فلا عجب أن حصد الإعجاب و الجوائز القيمة في المهرجانات الوطنية و الدولية.
رغم هذه الإنجازات اللافتة، يظل الشريف الطريبق، فنان في بداية المشوار الفني، بالنظر لسنه الصغيرة و طموحاته الكبيرة في صنع سينما حقيقية مختلفة، سينما قوامها الفكر الحر المستند على قراءات عميقة و تجربة حياتية مثيرة و رؤى إبداعية خلاقة، رؤى ستغني و لاشك متننا السينمائي الوطني بأفلام و أفلام وازنة.
تحية ود و حب، لهذه التجربة النابعة من أعماق المعرفة الحقة، و التجارب الحياتية المختلفة، والوفاء لقضايا التاريخ و الناس، و لكل سواقي الخير النابعة من القلوب الطامحة للتغيير و المحبة الصادقة.

عبد الإله الجوهري