الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  متابعات سينمائية    
أفواه و أرانب

  سناء عكرود   

"إحك يا شهرزاد"، هذه الجثة التي بقيت عالقة في ذمتي و التي تأخرت في دفنها حتى زكمت رائحتها النفوس و الأبدان، فأتساءل، ألم يحن أوان تحضير الكفن اللائق وما يلزم من معاول و ماء زهر ؟ ولأن الحديث عن ذنب " ما  " يفضي إلى فضح المذنب، فقد حانت ساعة احتراق البعض.
في كل الأكوان ، توجد كائنات هلامية دودية تستمني عن طريق غرز السكاكين الصدئة في جرح ما لتتركه غائرا كقبر شاغر ، تطوف بفم فاغر سائل اللعاب منتظرة الوليمة القادمة.  ولأن ليست كل الولائم صالحة للأكل فقد يبقى الفم الكريه مفتوحا حتى يجف اللعاب.
بقامة صغيرة وجسد ضئيل ولجت استوديو روتانا العاتم أحمل بين يدي قلبا واجفا غاض عنه الدم و تسارعت دقاته إثارة و رعبا، فاليوم يوم وعيد، قد يصلح للذكرى البعيدة كما قد يصلح لرواية قصة مفضلة ذات وحدة.  كان المكان خلية نمل صامتة، كان الهواء مكتوما، مشحونا و ثقيلا منبئا بيوم عصيب، فاليوم ستبدأ الممثلة المغربية " المجهولة " أولى مشاهدها ... "يملك الأستاذ حضورا يرعب
الكثيرين.. إنها مجرد طفلة، إنها بعمر حفيدته" ، " وكأن ملعبنا خال من " اللعِّيبٓة" ليحضروا لنا لاعبا من فريق آخر ". التقطت آذاني بعض الكلمات و نقل لي عمال الفيلم بعضها بعيون تلمع إثارة، فتاريخ المغرب حافل بالانتصارات الكروية الملتهبة حتى صارت مرجعا دسما للتسامر و اللمز و الغمز.
استمعت إلى تعاليم المخرج المسترسلة و المركزة و التي تحترم " حذري"  في فهم الثقافة المصرية و مخارج أصوات لهجتها والتي قد تخون صاحبها فتنصب له فخا لغويا مميتا.  ولأني بطبعي كائن متكتم أركن إلى الزوايا العاتمة  وأومئ برأسي كتلميذ صغير يظن الكثيرون أنه أخذ أكثر من حقه و دللته المشيئة قبل الأوان و ربما أكثر مما يجب، فإني كنت أصمت و أنصت. كان الملعب ملعب محترفين ، واثقين من أنفسهم ونجوميتهم و حظوتهم لدى جمهورهم، أما أنا فكانت حظوتي لدى الله.
اجتمع كل فريق الفيلم، الذي يصور و الذي لا يصور، حتى سائقي الخاص تسلل خلف الديكور و ربض لي منتظرا بداية المباراة.  و لأن الكون اجتمع في عيني، فقد كنت أرى كل شيء ، كل التفاصيل الصغيرة المهملة بعيون مكبرة، وأؤكد لكم أني كنت حينها وحيدة جدا، وحيدة أكثر من اي وقت مضى.  ولاني كنت صغيرة ، هشة بقلب واجف و شعر منتصب فقد انكمشت والتزمت الصمت منتظرة صفارة البدأ.
كان مشهد الحوار الصحفي مع منى زكي، كان لقاءا مشدودا، مركزا و كبيرا، لا مجال للسهو، كانت حواراتي كرة مطواعة في يدي، فقد مضغتها و بلعتها ثم اجتررتها في الثلاثين يوما التي قضيتها في القاهرة قبل بدء التصوير، لذلك كنت أمام الكاميرا أدحرج الحوارات كما أشاء، أراوغ بهدوء و حب و ولاء لفاتن حمامة و أحمد زكي و محمود مرسي و شادية و لبنى عبد العزيز و كمال
الشناوي و أمينة رزق و لكل السينمات التي استوطنت مخيلتي و ملأتني معاقلها انتشاءا، للحظة توقفت، تنفست بعمق حبا و ركلت الكرة إلى المرمى بشهقة القذف . تذكرون كابتن ماجد؟، إنه الصمت الذي يعم الكون بعد أن يرمي ماجد كرته اللولبية في المرمى.
الفارق بيني و بينه أن لماجد مُعلق يُمجِّد رمياته، بينما مُعلقي "يقذفني" برمياته.
في الأيام التي تلت ، تغيَّر الخطاب، وارتفعت تذكرة المباراة القادمة، توجَّست قبل لقائي بمحمود حميدة، خفت أن يُخيِّب الإنسان توقعاتي، إلا أني فوجئت ذات مساء و أنا جالسة في مقصورتي الخاصة في البلاتو بطرق على الباب ، فتحت باب المقصورة فإذا به محمود حميدة واقفا ينظر لي دون أن يبتسم، كانت قطعة تعبيرية سينمائية مقتطعة من فيلم له مع نادية الجندي أو ليلى علوي لا أذكر، وأنا الكائن الروداني المغرق في السريالية ابتسمت له و سألته : من أنت؟ ضحك وقال لي :" أنا محمود حميدة وأنت سناء، حكولي عنك"كان من أكثر الكائنات دفئا و ليونة، يسألني باستمرار عن تكويني، عن والدي، يحكي لي عن غرابة و عبثية النجومية، يحدثني عن انضباط نادية الجندي و صرامتها في احترام الوقت، يكلمني عن ولاء أحمد زكي، أخبرني أنه يتنبأ لي بالنجومية في العالم العربي و سألني إن كنت أرغب بأن يتحقق ذلك، فصمتت لبرهة و أجبته " :  " إن أعجبتني النتيجة النهائية للفيلم سأرغب بأكتشاف عوالمكم" " وإن كان العكس؟"  سألني بألق مختلف في عينيه ، فأجبته :  " قبل أن آتي إلى هنا أخرجت فيلمي القصير الأول، لدي تناول
متحفظ للنجومية كما أن لي خطابا خاصا للحياة، للوجود، أحب أن أنقله بمعرفتي الخاصة من خلال الإخراج  صورنا مشهد التقبيل ، أنا بسروال رياضي و سترة ملتصقة فوق جزئي العلوي بدون أكمام، كانت كل الكادرات مقربة لكي لا تظهر
ملابسنا السفلية العادية، لم يكن جسده فوقي، بل كان بجانبي ، واكتفى بسرواله الجينز بينما نصفه الأعلى عار.  كان يحيط بنا خمسون شخصا ، لم يشغلوا الكاميرا و يخرجوا مهرولين ليتركونا على راحتنا كما خمّن الكثيرون ههههه، بل كانوا قريبين منا و بشكل مضحك ... آه من شيطان الخيال الجامح !
بعدها مباشرة و دون أن أنتظر نتيجة الفيلم، بدأت كتابة " الفصول الخمسة"  و الذي كان بدايتي الحقيقية للإخراج و خطوتي نحو تنفيد ما أريد.
لِمَ أمثل؟ لِمَ أشاهد فيلما أو أتأمل لوحة؟ ، لِم أتوقف عند عجوز تضحك بأسنان مهترئة و نظرة تختزل الكون؟، لِم أطبخ ؟     ، لِم أمارس لذَّة المشي ببطء؟ ، لم أدلك جسدي بحناء و صابون بلدي؟، لم أنصت؟، لم أشم بعمق ؟ لأني أحب.  لأني أحب .  كلما كتبت أو أخرجت أو مثلت فيلما فتأكدوا بأني أمارس عليه و فيه و معه حبّا لا يسعه الكون ، شغفا و احتراما و ولاءا يغلق كل القبور الشاغرة و يجفف كل الأفواه السائلة اللعاب.

سناء عكرود