ظهرت السينما إلى الوجود فنا بصريا مدهشا غير متوقع حيث أنه أبهر المتلقي بمشاهدة الصور ، صور الأشياء والكائنات والظواهر وهي تتحرك على الشاشة كما يراها في الواقع ، ومن ذلك استقى هذا الفن جدته وحقق طفرته النوعية مقارنة مع أهم الفنون المشهدية التي سبقته ومنها المسرح على وجه الخصوص ، إلا أنه لم يشكل على الإطلاق ظاهرة لاغية لهذا الفن الإنساني الأصيل كما كان يعتقد في بداية الأمر . وكلنا يعرف ، أن السنيما في تجاربها الأولى ظهرت دون صوت ، وبالرغم من ذلك فقد توفقت في إدهاش عين مشاهد تلك الحقبة بتقديم إبداعات راقية تعتمد الصورة وحركتها وعجائبيتها وسيلة مكثفة للتواصل مع المتلقي على مستوى أهم مكوناته العقلية والنفسية والذوقية والجمالية والثقافية والفكرية والسياسة والأيديولوجية . وأعمال شارلي شابلن و إيزينشتاين على سبيل المثال لا الحصر دليل على هذا القول . ومع نجاح العبقرية العلمية في إضافة عامل الصوت إلى المشهد السنيمائي ، اكتملت قيمة المتعة التواصلية مع إبداعات هذا الفن البصري الرائع . انطلاقا من ذلك بدأت اللغة المنطوقة تحتل مكانة عضوية ووازنة في جماليات المشهد السنيمائي وشرع المبدعون السنيمائيون يهتمون أكثر بالبعد الأدبي وجمالياته بكونه لغة فنية جوهرية وأداة تواصلية بالغة الأهمية في تطوير وتكثيف إبداعية المشهد السنيمائي وفي التخصيب القوي والملهب لأذواق الناس واهتمامهم . ومما لا شك فيه أن جمالية المنتوج الأدبي بانضمامها إلى جماليات الصورة وحركتها وجماليات فنون أخري مثل الموسيقى والرقص ضمن مكونات المنتوج السنيمائي ، أن هذا التركيب الجمالي شكل حتما مساهمة قيمة في تكثيف مستوى لذة التواصل لدا الجمهور لمختلف الإبداعات السنيمائية وذات الجدة المتميزة منها على وجه الخصوص. فكان الإقبال قويا على الرواية والقصة والشعر والأسطورة والسيرة الذاتية والكتابات التاريخية ذات القيمة الأدبية الرفيعة . ضمن هذا الإطار ، احتلت الرواية صدارة اهتمام كتاب السيناريو نظرا ربما لاقتراب بنيتها السردية للكتابة السيناريوهاتية ونظرا كذلك لما برهنت عنه مجموعة من التجارب في هذا الاتجاه من نجاحات جماهيرية بارزة . يمكن أن نستشهد ضمن هذا الإطار بفيلم إسم الوردة الذي تعامل مع رواية بنفس العنوان لكاتبها أمبرتو إيكو والأمثلة كثيرة على المستوى العالمي والعربي على السواء. في استقبال المنتوج السنيمائي لا تقتصر لذة التواصل على الاهتمام بمجرى الحكاية أو الأحداث أو الوقائع أو الأفكار أو المواقف فحسب ولكن أيضا على جماليات الصورة والحركة وشاعرية الخطاب المنطوق . ومن هنا تتأكد عضوية الجمالية الأدبية في مكونات المنتوج السنيمائي وفي الرفع من مستوى تحبيب المشهد السنيمائي لأذواق المشاهدين . أكثر من ذلك فلقد تأثر المنتوج السنيمائي مثله مثل أهم المنتوجات الفنية الأخرى ( الشعر ، الرواية ، القصة ، التشكيل ، الموسيقى .. ) بأهم الاتجاهات الفلسفية والفكرية التي كانت تفرض ثقلها وسيادتها على حقول المعرفة والإبداع عبر أهم مراحل التاريخ البشري ، ويمكن اعتبار الأدب من أخصب الأنساق التي ساهمت في تحقيق هذا التأثير . فكان للأدب الواقعي والرومانسي والطبيعي والسوريالي والواقعي الاشتراكي والأسطوري والحكائي والخرافي والديني والتاريخي وكتابات السيرة الذاتية وقع كبير ومخصب على المنتوج السنيمائي لتمرير فعالية تلك الاتجاهات ورسم خرائط الاختلافات المنهجية والأسلوبية في الإبداع السنيمائي.
دعونا ننهي هذه الورقة بالقول بإن كل منتوج سنيمائي لا تتأسس بنيته على رؤية إبداعية خلاقة تستطيع تركيب مكوناته الأساسية ( الأحداث ، الصور المشهدية ، الحمولة الفكرية والجمالية ، اللغات الحركية والأدبية والفنية ) تركيبا عجائبيا مدهشا صادما لذاكرة المتلقي ولأفق انتظاره ويدفعه بالتالي لمواجهة أعماقه بالمساءلة ولو بشكل نسبي ، مساءلة مكوناته النفسية والذوقية والسلوكية والثقافية والفكرية والسياسية والأيديولوجية ومساءلة علائق كل ذلك مع خصوصيات واقعه في الحياة و مسببات نسيج هذا الواقع الظاهر منها والخفي ، يبقى في تقديرنا منتوجا يعتريه النقص أو عدم القدرة على الإدراك النسبي أو الكلي لوظيفة فن السنيما في الحياة.