الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  كسر الخاطر    
"المبارز" للمخرج الروسي أليكسي ميزكيريف..

  عبدالإله الجوهري   

السينما الروسية، أو المكون الأساس في سينما ما كان يسمى " الإتحاد السوفياتي " المنهار، دائما كانت ( ولازالت ) تبهر بعطاءاتها الفنية و التقنية، و اسماء مخرجيها الكبار، منذ الرائد سيرغي ايزنشتاين مرورا بكريكوري ألكسندروف و كريكوري تشوخراي و ميخائل كالاتوزوف و مارلين خوتسييف و ألكسندر أسكولدوف و اندري تاركوفسكيا ايليك كليموف و فاسيلي بيتشوف و نيكيتا ميخالكوف و يوري بيكوف و أندري زفياكنتسيف وصولا لبافيل لوكين و إيفان تفيردوفسكي و أليكسي ميزكيريف صاحب الافلام المبهرة بتقنياتها العالية و رؤاها الفنية الملحمية، افلام: " قلب من حجر " و قرع الطبول " و " القافلة " و أخيرا " المبارز " ( 2016 )، الفيلم الذي قدم في إطار تكريم السينما الروسية بالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش ، فيلم ترك الحضور في حالة من الذهول، و الأسئلة الحارقة المعلقة فوق الرؤوس ، أسئلة من قبيل: كيف يمكن لإنسان ما، صنع عمل إبداعي بهذه الدقة و الحرفية، عمل سيظل خالدا في كتاب الوجود الإبداعي، و مقاوما لعوامل التلاشي و النسيان؟
" المبارز " توصيفة ابداعية عصية على التصنيف، توصيفة غارقة في لجة الخلق المتوسل بخلفية بصرية حاذقة، خلفية مستندة على قراءة واعية لمجتمع فيودالي، مجتمع بدأ يخرج ( كنتيجة للمتغيرات الإقتصادية ) من مرحلة الفروسية و المبارزة بالسيوف و الحفاظ على مفاهيم الشرف و النبل و النبالة، إلى مجتمع فيودالي هجين، يعيش آخر أيامه، مجتمع بدأ أصحاب السلطة و القرار فيه، يأكل بعضهم بعضا، اعتمادا على فروسية زائفة، فروسية المواجهة بالمسدسات الدخيلة، و الدسائس المحاكة في الصالونات الخلفية لطبقة نبيلة تعيش آخر ايامها مع الإفلاس الأخلاقي و الفكري، والبحث عن الربح المادي بكل الاشكال، و اصطياد الألقاب دون وجه حق، في مدينة التقاليد المرعية، سانت بترسبورغ، التي كانت دائما فضاءا للارستوقراطية الروسية و عشا حقيقيا للتقاليد المجتمعية النبيلة..
" سانت بيترسبورغ سنة 1860، أصبح الجندي ياكوفليف مبارزا محترفا ( مبارزا بالمسدسات على طريقة الغرب الأمريكي المتوحش )، حيث بات يحارب لفائدة من يدفعون له أجرا، ممن لا يريدون القتال دفاعا عن الشرف، أي أولئك الذين لا يقدرون على ذلك، بدافع الخوف او الضعف، لكن ياكوفليف ليس له سوى هاجس واحد فقط: استعادة شرفه و الانتقام ممن جعله يفقد كل شيء..".
ياكوفليف الذي لعب بطولته النجم الروسي بيوتر فيودوروف، قدم لنا ( في بداية في الفيلم )، كمرتزق محترف، يعمل على تصفية خصوم من يدفع له أكثر، خصوم يمسح آثار وجودهم من الوجود، وفقا لقانون المواجهة الشريفة القائمة على أخلاقيات الدفاع عن الشرف، دفاع لا يعاقب عليه القانون الروسي، مادام يتم برضا الطرفين، رضا المواجهة و القبول بنتيجة الموت، لكن مع تقدم احداث الشريط نجد أنفسنا أمام قصة معقدة، يتداخل فيها الماضي بالحاضر، و يتزاوج الشر بالخير، تزاوج ينتج واقعا هشا، واقع مرتكز على العلاقات القائمة على المصالح المادية الذاوية، و المظاهر المجتمعية الخادعة..
قوة الشريط في اعتقادي، لا تكمن في قصته " العادية "، و لا كتابته السيناريستيكية، التي وجدتها متقاطعة مع الكثير من السيناريوهات العالمية، حيث يتصارع الشرير مع النبيل، و يسعى البطل إلى اخذ ثأره و غسل شرف عالته بالإنتقام من أعدائه. سيناريوهات بالإمكان كتابتها و نسج احداثها بيسر، لكن لا يمكن تصويرها بسهولة، أي صياغتها بصريا بكل هذه الحرفية الضاربة جذورها في تربة الموهبة السينمائية الروسية الربانية الخلاقة، موهبة تلاعبت بالمتفرجين و ادخلتهم في عوالم السينما التي لا يمكن ان يصنعها إلا الكبار، الكبار الذين رضعوا من ثدي تراث سينمائي زاخر بالمنجزات، و تمثلوا تاريخ بلدانهم و مجتمعاتهم بكل حس فني و وعي فكري، في جل المراحل و المحطات المتباينة المتقاطعة..
مشاهدة الشريط تعلم معنى الإحتفاء بأدق التفاصيل الفيلمية، و تعطي درسا في كيفية الإعتناء بالكادرات و رسم مكوناتها البصرية المتداخلة، حيث النور يخضع للظلمة، الظلمة التي تقود نحو التصعيد، تصعيد حدة التوجس من الشخوص و أخلاقها المبنية على المنفعة الشخصية، و ضرورة الحفاظ على المكانة الإجتماعية، و لو على حساب الأخلاق السامية التي يدعي الجميع الدفاع عنها، مما يعجل بنهاية بعض مدعي حراستها، و يدخل البعض الأخر في متاهات البحث عن مخرج مشرف يحفظ الروح و القيمة و الهيبة العالية..
شخصيات لم تزرع هكذا في قلب فضاءات الفيلم، و لم يجعلها المخرج تتحرك لتقنعنا بأدوارها و كفى، بل شخصيات مرتبطة بأشكالها الجسدية و حركاتها المتوترة مرة و الرزينة مرات، الباحثة عن حلول من خلال المؤامرات التي يقف وراءها أشخاص يعيشون بؤسا ماديا و أخلاقيا، بؤس يقود نحو الهاوية و التجريد من الألقاب النبيلة ( حالة الكونت بيكليمشيف )، بؤس يفتح الطريق بكل خسة، نحو المؤامرات و الدسائس و شراء الذمم، بل يصبح ممرا سالكا نحو النهايات القاتلة، في مبارزات أنيقة لكنها في العمق جد عنيفة، مبارزات يبدو اصحابها اقرب من عالم الجنون و المجانين، فهم يؤمنون ( حسب العادات و التقاليد الروسية )، بأنها مبارزات شريفة عاقلة تدخل في باب الإستعلاء و احتلال المراتب العالية، و دربا يجب الحفاظ عليه لكل من أراد أن يستحق و يحافظ عن جدارة، على لقب النبيل الشريف، عكس أخلاقيات فهم و إيمان العامة و الغوغاء الذي يتعاركون في الأزقة الخلفية بالأيادي، عراك يمنحهم فرص الهروب من الموت النبيل الشريف و لا يترك إلا ندوبا على أجسادهم الوضيعة. مبارزات و مواجهات أغرقتنا في كثير من الأحيان في مستنقعات الدم و العنف و الهمجية التي تستمد نسغها من التاريخ الطويل لبلد عاش رعب ايفان الرهيب و وحشية هجومات التتار و قدرة النبلاء على مص دماء الفقراء..
مؤثرات صوتية قاهرة و موسيقى تصويرية مؤثرة و ملابس روسية مزركشة و اكسسوارات يصعب ضبطها و معرفة كيف تمت صناعتها و ديكورات ضخمة مصاغة بعناية فائقة، ديكورات تحيلنا على الأفلام التاريخية الفخمة و في نفس الآن تذكرنا بديكورات الأفلام التعبيرية الألمانية حيث الرهبة المستمدة من أشكالها اللامتوازنةو الضاغطة على النفوس بالحد من مرور دفق النور و السماح لأشعة تحول وجه الإنسان في كثير من الأحيان يحمل ملامح الشيطان،. حركات للجموع غير منفصلة عن الإطار العام للأحداث و مسارب الحكي الغامض المتقاطع مع حكي الروايات البوليسية و القصص التشويقية المعتمدة في بنائها على نسيج من الأحداث و المواقف الغامضة، و التداخلات المفصلية الباهرة، و قبل كل ذلك مؤثرات بصريةة تؤكد أن الروس، كانوا و لازالوا، أمة الفن و الأدب و السينما الخلاقة، السينما التي لا تجد بها مخرجا متمكنا من الادوات التقنية فقط ( كما هو الحال في بلداننا العربية )، بل مثقفا ينهل من العلوم الإجتماعية و التاريخية...، و يستفيد من المتون الدينية و الأدبية..، وقبل ذلك يركن لنفسه الخلاقة الساعية للخلود لا المتضاربة مع لللحظات الفانية للزمن ،لحظات إثبات الذات بكل السبل " الفنية الإخراجية"، السبل المؤدية للنهايات العبثية البعيدة عن مفاهيم البقاء و الخلود الحق...

عبد الإله الجوهري