الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  كسر الخاطر    
قراءة في فيلم " الزفت " للطيب الصديقي.."الزفت"، عن الرؤوس المشقوقة و النفوس المأفونة

شهور بعد الرحيل..
هدأت الأقلام عن تدبيج رغو الكلام، و تعطلت طاحونة القيل و القال عن الدوران، و توقفت آلة الغسل عن إنتاج فقاقيع الصابون المتطاير في الهواء، و بحت الأصوات عن ترديد لحن الخلود و الوفاء، وتراجعت الصفحات الصفراء و حتى الزرقاء، عن نشر صور الجلسات والحفلات، المدموغة بحرقة القهر و الصبر و التأوهات، و عادت الجموع لأوكارها المسلوبة الممسوخة، و انشغل الجمع بالبحث عن لقمة العيش و تصيد فرص أخرى، ورحيل آخر لشهداء الفن و القلم، و تقديم شهادة حسن السيرة والسلوك و عشق الخلق و الإبداع ..
لم تمر إلا شهور جد قليلة، على موت سيد الخشبات المسرحية و الشاشات المتوهجة و القول الفني الجميل و النكتة المفارقة للواقع، المبدع الطيب الصديقي ، حتى ركنت العاصفة الهوجاء في حضن الانشغالات الذاوية و الكهوف المظلمة الخاوية، و عادت العواصف المدمرة القادرة على تحويل أشد الأعداء إلى اعز الأحبة و الخلان لمدارها الاستوائي المتناغم مع قبح الوقت و الزمن المقيت ، باحثة عن فرصة تالية للهبوب و تدمير متاريس الحشمة و الوقار و الخجل و احتلال الأمكنة الأمامية في مسرح الحياة، الغارق في بحيرة المتناقضات و لجة الكلام و ألوان الذل و الهوان ..
مات المبدع بسرعة على صفحاتهم المزركشة بنجوم قلة الحياء، و اختفى وراء حروف كلامهم المنمق الجميل اللامع المضمخ بعطر اللحظات، و دفن تحت وابل من جملهم الخادعة القاتلة المذابة في سلة الأراجيف و الأوهام، رحل عن جيوبهم الفارغة و بطونهم المنتفخة، لكنه لم يرحل عن قلوب من أحبه بصدق أو عرفه عن قرب أو تذوق معه لذة العطاءات الزاهية في الكتابة و العرض و المعاشرة الطيبة الساخرة..
كتبوا عن كل شيء جميل فيه، وحولوا علاقاتهم به إلى أصل تجاري خاص، و لم يتركوا لنا إلا مساحة ضيقة من إبداعه، لكنها مساحة أوسع بكثير من صدورهم الخاوية، و جوارحهم الشبيهة بجواربهم المتسخة المثقوبة، و قلوبهم الميتة الراكدة، و عواطفهم الباردة، تركوا لنا فضاء إبداعي لم يجربه الراحل إلا مرة واحدة، نعم مرة واحدة كمخرج، على حساب التفكه و فضح أخلاقهم الفنية الواهية، وإثبات قدرته على التنقل بسهولة بين المجالات و الفنون بكل أريحية، وتكريس الإبداع الحق كما يبدع السادة الكبار على الشاشات الفضية ، وصنع و لو لحظة واحدة جميلة بهية، بكاميرته السينمائية، كاميرا،كان في الغالب الأعم، لا يريد التطفل أو الاقتراب منها أو مهادنتها، ابتعد عنها لمدة طويلة، كي لا تلد لنا أفلاما مشوهة و أبناء للفن السابع سفلة، خلف لنا فيلما سينمائيا واحدا، فيلما وازنا مليئا بروح الدعابة القاتلة، فيلما يجترح مفاهيم الحق و الخلق و البحث في كنه و أسرار الصورة العالمة، و الكلمات المحكية في خلاصات مقتضبة حكيمة، و سبر أغوار الأمثال و الحكم و حرقة المجتمع الضاغطة، من أفواه شخصيات مغربية مرفوع عنها القلم، شخصيات غائبة، أو لنقل مغيبة مرمية في عوالمها الكالحة، شخصيات مبعدة عن نعمة فهم ما يقع و ما لا يقع، بعيدة / مبعدة عن مساحات و فضاءات لا معقولة بل مظلمة مهزوزة، و أمكنة مشحونة بتراث ديني أعوج و معتقدات خرافية و لا أروع . طالبنا ( الطيب الصديقي )،على طريقته المفارقة للواقع و الفن، بعدم التوقف عند المعاني المباشرة الفجة و نصحنا بضرورة الغوص في كنه المعاني السابرة في الغي الإبداعي و الصورة الفيلمية الصادقة الحاكية لمآسي الفقر و الجهل في مجتمع يطل على الحداثة، دون أن يلج عوالمه الغريبة و البعيدة عن متناوله، مجتمع الزفت و الرؤوس الصلعاء المشقوقة، و الطريق السيار المسورة جدرانه بالجهل و الحداثة المغمورة، و المصالح و الأخلاق الفجة والثقافة المبتسرة المقهورة ، والقبور المقامة عند ناصية الأمية و الإفك والأحلام المبتورة ...

" الزفت " عن الرؤوس المشقوقة و النفوس المريضة المأفونة
" الزفت " أو الفيلم السينمائي المقتبس عن مسرحية " سيدي ياسين في الطريق "( إنتاج سنة 1984)، شكل عالما إبداعيا مختلفا من حيث الشكل و المضمون و الرسائل المجتمعية القاسية، قراءة ساخرة للواقع و التاريخ، و روح مجتمع كان يدعي العيش في قلب القرن العشرين، مجتمع روحه سابحة في عوالم الجهل و القهر والعشق المقتول، و تصوير لواقع أناس يبحثون عن ذواتهم المصادرة و الخبز المر المدهون بلون الغصب و الغضب والكد المأفون.
فيلم عن قرية تعيش بوادر حياة انتقالية وسط مجموعة من المتغيرات التي يفرضها إيقاع العصرنة وتفرضها الرغبة في تجاوز هذه الازدواجية المتمثلة في الارتباط بتقاليد الماضي و التطلع إلى الحداثة، حداثة معطوبة، حداثة لازال طلابها و الراغبين في تجذير أسسها على الأرض المغربية، يؤمنون بالقدرة الغيبية، و كرامة رجل عاش 120 سنة، دون أن يتنفس أو تصدر عن مؤخرته رائحة كريهة، فإستحق بذلك أن يصبح جثة مقدسة مرعية، و أن يقام له ضريح على شاكلة أولياء الله الصالحين، مقام لم يجد له أهل القرية مكانا، سوى قطعة ارض بوعزة الفلاح الفقير، الفلاح الذي لا يملك من وسخ الدنيا شيئا، اللهم لسانه الطويل و الإيمان الأعمى بسلطة المخزن التي لا ترحم، و عدم القدرة على أخذ الحق و المجابهة، فلاح شتائمه لا تنتهي، لكن دون أن تستطيع رد الأرض أو المسكن، المسكن الذي سلب منه مثلما سلبت الأرض من قبل، بعد مجيء مشروع الطريق السيار، طريق تمت هندسته بشكل أعوج كي يلتف مبتعدا عن مقام الولي، تجنبا للعنته القاتلة. طريق يعكس تفكير مهندسين يؤمنون بالقضاء و القدر، قبل الإيمان بنعمة العقل و التفكير النقدي الجاد، يؤمنون بسلطة الأولياء و كراماتهم و لعنتهم الأبدية التي قد تصيب كل من يمس مصالحهم أو يتعرض بسوء لسيرهم..
رغم أن فيلم " الزفت " عمل سينمائي، إلا أن الصديقي ظل وفيا لنهجه المسرحي، ليس على مستوى الكتابة السيناريستيكية، و إنما على مستوى توظيف المفارقات الكوميدية و الجمل الحوارية الساخرة المقتطعة من قاموس الصديقي المسرحي، حوارات لا تختلف عن ما وظفه في مسرحية " سيدي ياسين في الطريق "، إلا من حيث جعل الممثلين يعون أنهم يقفون أمام كاميرا سينمائية، و ليس فوق ركح مسرحي، ممثلون لم يظهر أنهم وجدوا عناء في تقمص أدوارهم، مادام اغلبهم شاركوا في المسرحية وتشبعوا برسائلها السامية.
الصديقي لم يكن مخرجا و كفى، في هذا الفيلم المثير فنيا و تقنيا، و إنما ممثل، يمثل دون أن نحس انه يمثل، خاصة أنه ممثل مسرحي من الدرجة الأولى، وممثل سينمائي موهوب، جرب الوقوف أمام الكاميرا منذ سنوات الشباب في العديد من الأفلام الأجنبية و المغربية، ك " الدجاجة " و " إبراهيم " لجون فليشي و " الرسالة " لمصطفى العقاد و " حديث اليد و الكتان " لعمر الشرايبي..، تماهي بشكل تام مع شخصية بوعزة، و توحد لحد الجنون مع العوالم السوريالية التي خلقها هو نفسه، رفقة عبد الله الستوكي و أحمد العراقي، اللذان ساعداه في كتابة السيناريو. عوالم ترسم حدودا غير مرئية لجنون مجتمع، مجتمع يتمدد في كل الاتجاهات، دون أدنى وازع حضاري أو حداثي أو حتى تراثي حقيقي، من المفروض أن يكون وفيا للعادات والتقاليد الأصيلة، و ليس للتقاليد الرازحة تحت ثقل الخوف و الخرافة و الشعوذة المتخلفة البالية..
الطيب الصديقي في هذا الفيلم، مر في فضاء السينما خفيفا على القلب و الروح، كأنما كان ينتعل نعالا من ريح، مر حاملا أفقا إبداعيا شفافا لكن جد عميق، اشتغل برؤية تقنية و جمالية قاسية و وازنة في أرجاء الفن و دهاليز الحياة، و رصد بفهم عميق المتغيرات الحياتية للعصر الحديث، عصر كان/لازال المغرب مقبل عليه، دون اعتبارات علمية أو حضارية متطورة واعية، اعتبارات مغيبة في مقابل استحضار وسيادة روح الماضي الساعي لتدجين الحاضر وجعل الواقع بين أحضان الهيمنة الماضوية الثقيلة..

في النهاية:
نصيحة للصائدين في الترع الراكدة، الغائصين حد الأعناق في المياه السوداء الآسنة، دعوا الفنان في رقدته الأبدية يستريح، و انتبهوا، جازاكم الله خيرا، لأعماله و انتاجاته الإبداعية الغنية، غنية بالعطاءات، و الفرجة و الفهم السليم الصحيح لمعنى الخلق و الرصف المنمق لبلاغة المعاني الموجزة، و ليس نطا وقفزا على طريقة الصراصير الراقصة بدون سراويل صيفا، النائمة بين شقوق السينما و المسرح والكتابة الأدبية شتاءا..

عبدالإله الجوهري