الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  كسر الخاطر    
بازوليني ، صديق الفن و الفكر و الإنسان

  عبد الإله الجوهري   

عندما خرجت المظاهرات الطلابية سنة 1968 ، في فرنسا و بعض البلدان الأوروبية ، كان للمثقفين عبر العالم ، خاصة منهم اليساريين ، صولات و جولات في مساندة أحلام الشباب المتمرد على التقاليد و المؤسسات و القوانين و الدعوة لتأجيج نار " الثورة " بخلفيات ثوروية ، تختلط و تتقاطع فيها الأفكار الماركسية بالوجودية و الفوضوية و العدمية .. ، قلة من المثقفين من كان يرى في ما يقع مجرد هلوسات شبابية و نزوعات تدميرية لجموع بشرية ، بدون أفق أو أهداف فكرية أو إيديولوجية محددة ، اللهم السعي لإشاعة الفوضى المدمرة في ثنايا مجتمعات مستقرة ، من بين هؤلاء نجد الشاعر و الكاتب و السينمائي الإيطالي الشهير بازوليني ..
بازوليني اتخذ ، و على غير عادته و جبلته التمردية ،موقفا مخالفا و صادما من الأحداث ، و من طغيان حركة طلابية شبابية ، بدت بالنسبة له مجرد جماعة ، بفرقعات و فقاقيع صابونية في الهواء ، فقاقيع لابد و أن تتبخر مع مرور الأيام في الهواء ، و فرقعات لأبناء مدللين للعائلات البورجوازية المنتفخة الكالحة ، أبناء تشربوا ، دون أن يدرون ، مبادئ البرجوازية الطاغية الظالمة ، على الرغم من رفعهم لشعارات يسارية ، بل و ساند في المقابل ، و بكل ما أوتي من قوة ، رجال الأمن و الجيش المواجهة لهده التظاهرات و أعمال الشغب ، التي كان بإمكانها أن تقود المجتمعات الأوروبية إلى الدمار و الهلاك ، ليس هلاكا ماديا و حسب ، بل هلاكا روحيا و دمارا ماديا جارفا ، و مقامرة بتاريخ أوروبا العامر بالإنجازات الثقافية و الصناعية الحقة .
لقد اعتبر بازوليني ، رجال الشرطة و الجيش و من يدور في فلكهما ، هم أبناء الطبقة الكادحة المظلومة الحقيقية ، أناس يفرض عليهم العمل وفق قوانين و تعاليم بيروقراطية صارمة ، بشر مستغلون ( بفتح العين ) يكابدون يوميا ، كل إشكال المخاطر و الهنات المجتمعية ، و يتحملون وزر أخطاء سادة البلاد و العباد ، سادة تركوا أبناءهم عرضة للأفكار العدمية القاتلة ، أفكار قادتهم للخروج دون وازع أخلاقي أو إنساني أو ثقافي ، على الرغم من كون جلهم ، كانوا يعتقدون أنهم من حملة لواء ثورة ثقافية جديدة ، ثورة لا تبقي و لا تذر ، بلون أحمر " ناصع " ، محمول على الأكتاف و الأعلام و الشعارات الصاعدة من الحناجر ، وقبل ذلك من القلوب الغضة البئيسة .
بازوليني ، المثير للجدل ، أينما حل و ارتحل ، لم يعتبر نفسه ، يوما ما ، عبر مساره الطويل ، و على الرغم من مواهبه العديدة المتعددة ، سينمائيا و لا حتى شاعرا أو كاتبا بالمفهوم المتداول للكتابة و الشعر و السينما ، بل كان يردد أنه مؤلف ، يؤلف ما يعن له من إبداع ، و يتوافق مع اللحظة الزمنية التي يحياها بكل حلاوتها و طلاوتها التي قد تحمل في كثير من الأحيان خيوطا سائلة مرة ، عاش حياة بشرية إبداعية فنية ، دون مواربة أو إنصات لصوت " العقل " و الأخلاق البورجوازية ، الماسحة لإنسانية الإنسان الغارقة في لجة الأوهام ، كان مبدعا متمردا على الأعراف المرعية للكتبة و حاملي الكاميرات المسدودة العدسات ، و مصففي الكلمات على الصفحات الورقية المائعة و مرددي الشعارات الشعرية في الصالونات الوردية المخملية ، كان مبدعا منفتحا على مفاهيم الزمن المتسع ، رافضا لمفهوم الديمومة المنقضية الزائلة .
بازوليني ، على الرغم من حياته المقبلة على الملذات ، الفاسحة للعواطف الأكثر بدائية و عفوية ، كان يشبه المسيح في هدوئه و براءته ، يشبهه في قناعاته المنتصرة للرحمة و حب الناس ، مسيح على شاكلته الخاصة ، وهو يحمل صليب اللذة الجسدية الملعونة ، مواجها حراس معبد الأخلاق و الفضيلة ، متنازعا مع رجالات الفضاءات الدينية وممارسي الوصاية على الناس و الآخرين ..
بازوليني ، أحب دولنا النامية ، اخلص لمعاناتنا و مصائرنا المظلمة ، انفتح على ثقافات و تراث الشعوب المختلفة ، ثقافات متداخلة متنافرة في نفس الآن ، استثمر ألوانها و أهازيجها في أعماله الفيلمية المتعددة ، و كتاباته الشعرية و الفكرية النابضة بمفاهيم فلسفية رؤيوية ، أحب العالم و أسراره اللامتناهية ، جال و زار بلدانا عربية ، دول كاليمن و سوريا و لبنان و العراق و مصر و المغرب ، رحلاته لم تتوقف أو تنتهي يوما ، كان لحضوره الدائم الفاعل ، معاني الوجود و العدم ، في عين المكان و جهة الإنسان ، الإنسان الذي اعتبره أغلى ما في الحياة و على كل الحدود ، لم يتنكر لحظة من اللحظات لدلالة الإنسانية ، أو ينسى الوعود و الآمال و الأحلام ، " ربما أخطأت ساعة ، تذكر ملامح المكان ، لكنني لم أخطئ أبدا ، تذكر وجه الإنسان " ، قالها ذات زمان منقضي ، زمن الوقت البازوليني ، العارف بغصة معنى أن تكون إنسانا ، و أن يقودك حظك العاثر ، لتقع في مواقف الذل و الهوان أو الإستجداء أمام أبواب الدول المانحة ، و المنظمات الفاتكة بمصالح البلدان ..
كانت لبازوليني علاقة خاصة بالمغرب ، علاقة بدأت منتصف سنوات الستينات ، جاء لتصوير شريط " أوديب ملكا " ، وصل لأرض النور و الأحلام ، فسطر ملحمة سينمائية مقتطعة من عمق التراث اليوناني الأصيل ، ملحمة الصراع بين الحب و اللاحب ، بين السلطة و الأمومة ، بين أن تكون إنسان و في نفس الآن نصف إله ، فيلم صنعه رفقة عشرات الفنيين و التقنيين الإيطاليين و المغاربة ، هنا توطدت علاقاته بسكان ورزازات ، تعلق بكل وفاء بشاب اسمه ناصر ، عاش معه لحظات التصوير الفنية على الأرض المغربية ، مثلما عاش معه العشق و الغرام العاطفي النادر ، الجميع ( مغاربة و ايطاليين ) صاروا متتبعين وعارفين و سعيدين بهذه العلاقة الإنسانية الحميمة ، وحدها النجمة الإيطالية سيلفانا مانكانو ا( بطلة الشريط ) ، أصيبت بنار الغيرة ، سعت لوضع حد لها ، حاولت زرع الشوك في طريق المغربي المفتول العضلات ، المفتون بغرام سيد الكلمة الشاعرة و الصورة السينمائية الباذخة ، حفرت خندقا مملوءا بنار الكراهية المشتعلة ، كراهية و تصرفات أنكرها بازليني و سعى لوضع حد لها ، إنتقم منها ( أو لنقل ، أدبها ) على طريقته الخاصة ، طريقة سينمائية خالصة : جاء ذات صباح لمكان التصوير ، طلب من مساعديه إحضار الممثلة المدللة ، و إشراكها في التصوير ، تصوير مشهد قاس لجموع بشرية تصارع ألم الطاعون ، بتور على الوجوه و تقرحات على الجلود المدبوغة بحر الشمس الصحراوية ، أخضعوا سيدة الشاشة الأيطالية ، لعمليات الماكياج المتعب و إعدادات لا متناهية ، و وقوف أمام الكاميرا الصامتة ، وقوف دام لفترات جهنمية ، تحت نسائم الحر و الغبار القاتل للجنوب المغربي ، لكن ، و بعد كل الضنك و التحضير و الوقوف المبالغ فيه ، جاء ليخبرها بلهجة عدوانية ، أن لا علاقة لها بالموقف أو المشهد ، موجها لها كلام / نصيحة ، بضرورة التعامل مع ناصر القلب و الجميع بذوق و إنسانية ..
في جلسة فكرية نقدية على هامش الدورة 21 لمهرجان سينما المؤلف بالرباط ، روى صديقنا الناقد ، فؤاد اسويبة ، حكاية دالة عن انسانية بازوليني الإنسان قال : خلال رحلة ، على متن الخطوط الجوية لدولة الميز العنصري ، جنوب افريقيا ، سافر بازوليني ، مرفوقا بالمخرج المغربي سهيل بنبركة ، للقيام هناك بمعاينة تصوير مشروع فيلم كان يشتغل عليه ، عندما دخلت الطائرة الأجواء الإفريقية ، طلبت مضيفة من سهيل الرجوع نحو الكراسي المخصصة في الخلف للسود ( سهيل بنبركة بشرته تميل للسمرة ) ، وقف بازوليني إلى جانب صديقه السينمائي ، رافضا أن يمتثل للأمر ، لكن إصرار طاقم الطائرة على تطبيق القانون ، جعله يتخلى هو الآخر ، عن مقعده في الأمام و الرحيل نحو الخلف ، مرافقا زميله و جموع السود المقهورين ، محتجا بطريقته الإنسانية على الظلم و الذل و الهوان .
هناك في الجنوب الإفريقي ، أوصى بازوليني صديقه بنبركة ، بضرورة قراءة رواية ، " لا تبك يا بلدي الحبيب " للروائي الجنوب الإفريقي آلان باطون ، كتاب مغموس بالشقاء و العذاب البشري ، مؤلف جميل و مثير ، عن الميز العنصري و القبح الإنساني الفج في بلد البافانا ، رواية ظل سهيل وفيا لها و من خلالها ، لذكرى بازوليني الإنسان الفنان ، وفيا بعد موته / قتله ، اقتنى حقوقها و حولها لفيلم سينمائي شهير بعنوان " أموك " ( إنتاج سنة 1982).

إهداء:
إلى الصديق المخرج الفنان داود أولاد السيد عاشقا للفن و الفكر و الإنسان
عبد الإله الجوهري