الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  مشهد رئيسي    
محمد صالح هارون سينمائي من القارة السمراء

  عبد الكريم واكريم   

 لم تعد سينمات العالم الثالث ومن ضمنها الأفلام المنتمية للقارة الإفريقية مطلوبة  بكثرة في المحافل الدولية السينمائية الرئيسية، كما كان عليه الحال فيما مضى ، خصوصا أن "السياسة" أصبحت في كثير من الأحيان من بين المحددات التي تجعل المسؤولين عن  المهرجانات الدولية ككان وبرلين والبندقية يتحمسون لأفلام ثالثية، مع  اشتراط ضرورة احتوائها على توابل فنية تجعل مشاركتها في مهرجان كبير أمرا مقبولا ولايُثير شبهة المنفعة السياسية.
ضمن هذا السياق، وبعد غياب للقارة السمراء، طال شيئاما عن المهرجانات الدولية الكبيرة، ظهر إسم بقوة، هو الذي لم تكن تكمن قوة أفلامه فيما هو سياسي فقط - رغم أن كل أفلامه تدور حول تيمات سياسة، ولو أنها على خلفيات أحداث إجتماعية أهم وبشكل موارب- بل في ذلك البعد الإنساني الواسع الذي تحمله شخوص هاته الأفلام أيضا.
 يتعلق الأمر بالتشادي محمد صالح هارون، المخرج الإفريقي الأكثر حضورا في المحافل الدولية السينمائية ككان والبندقية، منذ ما يناهز الخمسة عشرة سنة الماضية،  فأفلامه كلها تقريبا مرت بأحد هذين المهرجانين، اللذين يُعتبران الأهم سينمائيا على الإطلاق، ونالت أكبر جوائزهما .

لايمكن للمتتبع للمسار السينمائي لمحمد صالح هارون سوى أن يُعجب بتفرد هذا المخرج، الذي أدخل السينما لبلد لم يكن يعرفها من قبله. فأسلوبه سينمائي خالص، يعتمد الصورة بالأساس ويجعل الحوارات لا تبوح بكل شيء، بقدر ما تكون مُكمِّلا لما تعبر عنه الصورة.
من بين أهم مميزات الأسلوب السينمائي لمحمد صالح هارون، كونه يتابع في كل أفلامه مسار شخصية واحدة أو اثنتين، والتي تكون في أغلب الأحيان هامشية ومختلفة عما يحيط بها، وتصارع ظروفا قاسية وتتنازعها أحاسيس متناقضة ومتضاربة ، تجعلها منقسمة على ذاتها بين مايُفرض عليها أن تفعله وتكونه وما تحس به وتراه من وجهة نظرها صائبا.. وهكذا نجدها مُمزقة بين طموحات جارفة تفوق  قدراتها وتتعارض مع  إكراهات واقع بئيس وحاط من إنسانيتها ...
ف "كري كري"  الذي يحمل  آخر أفلام محمد صالح هارون  إسمه، شخصية هامشية ، يشكو من عجز خُلقي كونه أعرج، لكن هذا لايمنعه من محاولة تحدي إعاقته طوال الوقت وحتى آخر لحظات الفيلم.
تدور أحداث هذا الفيلم  حول مهربي البنزين  والغاز بالتشاد،  وهو أول فيلم للمخرج الذي تجري وقائعه في فترة مابعد الحرب التشادية، إذ كل أفلام صالح هارون الأخرى تدور أحداثها على خلفية للحرب الأهلية التشادية .
يحاول محمد صالح هارون في أفلامه عدم السقوط في الخطاب المباشر بابتعاده عن تصوير الصراع المسلح وجعله موضوعه الأساسي ، مفضلا الانحياز إلى جانب شخوص هامشية ولادور لها في الصراع الدائر، بقدر ماتكون ضحية له وفاضحة لمآسيه ودناءاته، بما  تتميز به من براءة وطُهر يتناقضان مع المحيط  الذي تنتمي إليه.
ويظل أجمل ما في أفلام هارون هو ذلك الحياد الإيجابي الذي يميز أسلوب كبار المبدعين (كانوا روائيين أم مخرجين ) الذين لايدَعون مواقفهم الإديولوجية تطغى على البناء الدرامي لأعمالهم ، إلى درجة قد يُظهرون فيها الشخوص التي تحمل إديولوجيات مضادة ومختلفة لما يتبنونه أو يؤمنون به  بمظهر كاريكاتوري أو قبيح، يمثل الشر المطلق في مواجهة خير مطلق. إذ ليس في أفلامه أبيض صاف مقابل أسود قاتم، بل بها كثير من اللون الرمادي، بحيث تصبح المواقف ملتبسة والشخوص تتنازعها دوافع متناقضة، و يصعب الحكم عليها وإدانتها ، إذ قد تكون في نفس الآن جلادا وضحية، ظالمة ومظلومة، شريرة وخيِّرة،   وهي على العموم حاملة لتلك المتناقضات التي تجعلها تستحق أن تكون إنسانية بامتياز.
 ويظهر لنا هذا الجانب بوضوح في فيلم "دارات" من خلال شخصية "نسرات" مجرم الحرب السابق الذي تتقاذفه مشاعر الندم على مابدر منه في الماضي، محاولا  فعل الخير والتوبة، رغم أن ماضيه لا يكف عن ملاحقته.
يتناول المخرج التشادي في هذا الفيلم ، الذي نال عنه جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية السينمائي ، تيمة الثأر في مقابل العفو والصفح، من خلال مسار شاب قادم من قريته النائية إلى العاصمة نجامينا قصد الثأر من مجرم الحرب السابق قاتل والده، بعد صدور  عفو شامل عن كل من ارتكبوا جرائم أثناء الحرب التي وضعت أوزارها للتو، لكن وبعد أن يجد حاتم البالغ من العمر 16 سنة قاتل والده "نسرات" ويشتغل معه في مخبزته الصغيرة متحينا الفرصة لقتله، تنشأ بين الإثنين بالتدريج علاقة غريبة تجعل الشاب يكتشف اتجاه قاتل والده مشاعر إبن لأبيه ، لم يسبق له أن عرفها من قبل، محاولا التنصل منها دون أن ينجح في ذلك..
"دارت" فيلم مليء  بالمواقف الإنسانية التي استطاع محمد صالح هارون صياغتها بأسلوب جمالي متميز ومبتكر سنجده في أفلامه الأخرى بحيث يصبح من بين أهم لمساته التي تميزه كمخرج مبدع ذو بصمة ورؤية خاصتين...
 
في فيلمه الطويل الثاني"أبونا " نتابع  طفلين شقيقين في مسار بحثهما عن أبيهما الذي غادر البيت فجأة وتركهما وحيدين مع أمهما المغلوبة على أمرها، والتي لاتجد مَخرجا لأزمتها ، حينما تستنفد كل طاقتها معهما، سوى تسليمهما لفقيه صارم بمنطقة نائية ليُلقنهما القرءان وبعضا من أساسيات الدين...ومن بين أجمل مشاهد هذا الفيلم ذلك الذي يُتخيل فيه للطفلين أنهما تعرفا على أبيهما كشخصية في شريط سينمائي وهما داخل صالة للعرض ، فيقرران سرقة الشريط الخام، ليتم القبض عليهما ثم إطلاق سراحهما بعد ذلك بضمان والدتهما لحسن سيرهما وسلوكهما...

في فيلم "رجل يصرخ" والذي أنجزه صالح هارون سنة 2010  ونال به جائزة لجنة التحكيم بمهرجان "كان" لنفس السنة إضافة لعدة جوائز أخرى من بينها جائزة روبير بروسون بمهرجان البندقية، يحكي المخرج قصة آدم  الرجل الخمسيني بطل السباحة السابق، والذي يعمل كمعلم للسباحة بمسبح أحد أكبر الفنادق السياحية بالعاصمة كينشاسا رفقة إبنه الشاب الذي تعلم مهنة أبيه وأصبح بدوره ممارسا لها. وحينما تندلع الحرب الأهلية تضطر صاحبة الفندق للتخلي عن الكثير من العمال والموظفين فيما يتابع شيخ الحارة آدم طالبا منه تسليم ابنه للتجنيد الإجباري ..
يقربنا محمد صالح هارون بشكل "ميكروسكوبي" ، أثناء تطور أحداث الفيلم، من شخصية آدم، التي يؤديها الممثل المقتدر  "يوسف دجاورو"، والذي تتنازعه عدة أفكار ومشاعر  متناقضة بين عزة نفسه كبطل سابق على أبواب فقد مهنته التي لايستطيع العيش بدونها،  والتي تعني له أشياء تفوق القيمة المالية ولقمة العيش وحبه لابنه، الذي سيتخلى عنه في لحظة ضعف، قبل أن يتراجع ويقرر الذهاب للبحث عنه. هو فيلم آخر لمخرج يعرف كيف يعالج وضعية حرجة وفترة مهمة من تاريخ بلده تشاد بأسلوب فني لايُتقن مثله سوى السينمائيون الكبار. إذ في تتبعنا لمسار الشخصية الرئيسية آدم، نشاهد نماذج من أهوال الحرب التي شرَّدت أبرياء وقتلت آخرين وفرَّقت عائلات، وحولت كثيرين لقتلة باسم إيديولوجيات بئيسة.
وكما رأينا فإن تِيمَتَي "الأبوة" و"البنوة" تتردَّدان بقوة في أفلام محمد صالح هارون، مسائلا من خلالهما عمق الذات البشرية في تناقضاتها النفسية وتوهانها الأبدي بين فعلي الخير الشر، دون استقرار كلي في أحد الجانبين.

عبد الكريم واكريم