الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  متابعات سينمائية    
عمر.. شهيد الرأي.. أين تكمن الحقيقة؟

في آخر فيلم وثائقي له عمر.. شهيد الرأي الذي عرض مؤخرا في الجزيرة الوثائقية، تعرض المخرج عز العرب العلوي لقضية تاريخية شائكة مازال ملفها لم يغلق الى اليوم، قضية مازالت تُحير الرأي العام المغربي ومعه النخب السياسية، خصوصا تلك التي عاصرتها وعاشت أطوارها، قضية غامضة تتطلب الكثير من الجهد والبحث والتنقيب والدراسة للوصول الى الحقيقة، لا يهم أن تكون هذه الحقيقة  كاملة بقدرما يهم أن تكون إضافة جديدة تُضاف الى حقائق أخرى تغني ملف القضية وتساهم في تحريكه ولو اعلاميا.
الكلمات المفتاحية التي بلورت الرؤية العامة للشريط، وشكلت مراحل قضيته يمكن اختزالها في الكلمات التالية (عمر بن جلون، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، نضال، سياسة، جماعات اسلامية، نظام، اغتيال)، كلمات تشابكت فيما بينها لترسم للمتلقي خيوط القضية تاريخيا، وإظهار الأطراف التي شاركت فيها وأثرت في سيرورتها، أما عقدة الشريط  فتستمد قوتها من عمر بن جلون نفسه، تلك الشخصية السياسية والصحفية التي ترك اغتيالها فجوة عميقة ومظلمة في التاريخ المغربي المعاصر، كون اغتيالها حدث في عز الصراع التاريخي بين الاحزاب السياسية المعارضة والنظام المغربي، وهي من الجرائم السياسية الغامضة التي اربكت الحراك السياسي والنضالي في فترة من الفترات، وقد لا تقل أهمية عن جريمة المهدي بن بركة الذي اختطف واغتيل في فرنسا سنة ١٩٦٥ .
تعتبر قضية اغتيال عمر بن جلون لغزا حاول الشريط تفكيك بعض رموزه، وتوضيح صورته ولو جزئيا، المخرج أدرك متاهة هذا اللغز فوضعنا معه في وضع المتأمل أمام أفكار استجمع عناصرها من قرائن متشعبة، حرص على ترتيبها بنفسه أمامنا على سطح لوحة ضخمة، تعكس ضخامة الحدث وأهميته التاريخية.. بداية ذكية أرشدتنا الى مكامن القوة والضعف التي تُميز هذا الملف، فمع توالي الشهادات وسرد الاحداث خرجنا في النهاية من دور المتلقي/المتأمل، الى دور المتلقي/المحلل، إذ وجدنا أنفسنا داخل اللغز نفكك أسراره ونربط خيوطه بعضها ببعض، قد لا نخرج بصورة واضحة مكتملة المعالم، لكن على الاقل سنرصد ملامح هذا الاغتيال ودوافعه الايديولوجية والسياسية.
اغتيال عمر بن جلون في شريط عز العرب العلوي لم يقف عند حدود التوثيق بل حاول من خلال تتبع الزمن الكرونولوجي للاحداث كشف المسكوت عنه في هذه القضية، ومتابعة كل الاطراف المعنية والانصات اليها، ليس كمخبر أو صحفي لكن كمخرج سينمائي تهمه قبل كل شيء الرؤية التاريخية وكيفية تشكيلها سينمائيا، تلك الرؤية البعيدة عن التحامل السياسي أو الايديولوجي، إذ نقف جليا في الشريط  على حياد المخرج واهتمامه بالحقيقة ولا شيء غيرها، وهذا يحسب له ولشريطه. الكم الهائل من التفاصيل التي تتخلل هذه القضية دفعت به -أي صاحب العمل- الى عدم التسرع في انهاء العمل واغلاق ملفه بل اخذ وقته كاملا -أكثر من سنتين من التحضير والدراسة- من أجل الوصول الى الحقائق التي شاهدناها في الفيلم، حقائق مهمة ألقت الضوء على الكثير من الجوانب المعتمة في القضية.
...قلة هم من يريدون فتح درج قديم عبارة جاءت على لسان الراوي/المخرج، تظهر لنا صعوبة البحث بين ثنايا التاريخ، فرغم التطور الديمقراطي التي عرفته البلاد، ورغم المصالحة الوطنية التي انتهجها النظام الجديد لمحو الذاكرة السوداء التي طبعت فترة من حكم ولى ومضى، إلا ان البعض مازال بداخله شيئا من مخلفات سنوات الجمر والرصاص، ومازال الخوف يثنيه عن الإدلاء بشهادته إنصافا للتاريخ وإرضاء لضميره.
من الشخصيات التي لعبت دورا مهما في تعزيز قوة الشريط واغنائه بمعلومات وتفاصيل جديدة ومهمة أحمد بن جلون شقيق عمر بن جلون الذي أدلى بشهادته رغم مرضه، وتوفي بعد ذلك قبل ان يخرج العمل الى النور، وهناك أيضا مصطفى الخراز وهو واحد من منفذي عملية الاغتيال، ثم عبدالكريم مطيع مؤسس حركة الشبيبة الاسلامية بالمغرب التي اتهمت باقتراف جريمة الاغتيال، اضافة الى شخصيات اخرى ساهمت في اقتناص بعض التفاصيل الهاربة من الملف كالقيادي الاتحادي والوزير السابق محمد اليازغي، والمحامي النقيب عبد الرحمان بنعمرو، و الأمين العام لحزب النهضة والفضيلة محمد خليدي، والمحامي عبدالرحيم برادة الذي رافع في أشهر المحاكمات السياسية المغربية ابان السبعينيات، وهو ايضا مكلف بقضية اغتيال بن جلون... هي إذا فسيفساء متنوعة برؤى وخلفيات مختلفة وُفِّق المخرج في تشكليها حتى تلعب دورا مهما في تسليط الضوء على بعض الحقائق المثيرة في ملف بن جلون. 
فنيا لم يوظف فيلم عمر.. شهيد الرأي الاسلوب المتعارف عليه "الديكو دراما" أي دمج  الوثائقي بالدرامي، بل اتجه اتجاها آخر واعتمد على المسرح كأداة فنية قوية لنقل الحقائق بتراجيديتها التاريخية المستفزة، حيث أدمج المسرح بالصورة السينمائية، فكان هذا التنسيق المتقن الذي عايناه في الفيلم بين اللعبة المسرحية والسينمائية، وقد تفوقت شخوص العمل المسرحي في وصف الرؤية الاخراجية وتعزيز أسلوب الفيلم جماليا وفنيا، هذا بالاضافة الى تثبيت الروح الدرامية لتسلسل الاحداث وتبسيط تفاصيلها السياسية وسردها عبر وحدات حكائية سلسة.
يبقى هذا الفيلم وثيقة تاريخية مهمة حطمت العديد من الحواجز الفاصلة بين جيلين، جيل الأمس وجيل اليوم، إذ لم يكتف بقضية بن جلون وحدها، بل من خلالها أثار قضايا اخرى متفرعة ومتشابكة في آن، فبالرغم من ان بعض الشخصيات الحاضرة فيه أدلت سابقا بشهاداتها في العديد من الملتقيات والبرامج التلفزية، إلا أنها في هذا الشريط كانت اكثر صراحة وتفصيلا، هذا الى جانب حقائق اخرى جديدة جاءت على لسان البعض منها.

فؤاد زويريق-هولاندا