الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  رؤية كاتب    
فيلم «فورمطاج» لمراد الخوضي: سينما الصور الصاخبة

  مبارك حسني   

من كلمة تقنية محضة صارت متداولة في الكلام اليومي، استقى المخرج المغربي الشاب مراد الخوضي فيلمه هذا الذي أراد له أن يكون منخرطاً في العصر الحالي برموزه ومنطوقه الشائع الشبابي طبعاً، حول مسح الذاكرة ومحاوﻻت استعادتها وإحيائها. ولهذا الغرض يًعَوم الشريط مشاهده في حمّى صوت وصورة صاخبين ومتسارعي الوقع، على غرار ما يُرى في اليوتوب والكليب الموسيقي الغربي والفيلم التقنوي الشكل والمضمون.


الزاوية- المعتقل


في المضمون لدينا في فيلم «فورمطاج»، شخص فقد ذاكرته ووجد نفسه في زاوية دينية هي مزار معروف وشهير، لكن هذه الزاوية هي في ذات الوقت مُعتقل لا يُصرّح باسمه هذا يُقفل فيه على المكتئبين المتوترين والمجانين والمرضى النفسانيين بالحديد والسلاسل في ظروف قاسية تعوّق حركتهم في شكل كبير. الفيلم يصور هذا المكان العجيب وقد أعيد إنشاؤه ديكوراً وفضاء مشابهين للأصل الذي ثمة تأكيدات بوجود ما يماثله على أرض الواقع، لكن النتيجة تحيل أكثر على موضع مُتخيل ومبني على شاكلة المخيمات من حيث اللباس والهيئة والسحنات التي للممثلين. والأجواء المنفرة الغريبة هي أقرب إلى مجمع غجر، ما يمنح في بداية الأمر المخرج إمكانية تصوير مُشوق بأفق انتظار خاص.


ذات يوم تتدخل امرأة وهي البطلة «ريحانة» لدى القائمين على أمور الزاوية بمدهم بالنقود رشوة لفك قيد أسير يحمل اسم رمزي. بالنسبة للمخرج هي محاولة لتوظيف موضوع اجتماعي معروف كمحاولة «فضح» لما يمارس في تلك «المصحات» النفسية الشعبية، لوﻻ أن وقائع الفيلم ﻻ تؤكد ذلك. لأن ما تم تصويره يضمن تلك المبالغة السينمائية التي تضيف من اﻹثارة، وهو ما سيظهر تباعاً داخل الشريط.


فالمرأة غرضها الأساسي هو تخليص الأسير الذي اسمه رمزي وتبوح له بأنه زوجها الذي تعاني من غيابه بعيداً منها ومن حالته المزرية. لكن سيتضح لاحقاً بأنه أيضاً عُرضة لرصد ومتابعة قريبة من المطاردة من طرف شخص رئيسي ثالث اسمه فاضل. وهكذا يجد رمزي نفسه طرفاً في ثلاثي غامض يؤكد حقائق ونقيضها. حقائق تُعلن أحداثاً نُشاهدها ونتتبعها من دون هوادة، في توالٍ اعتباطي حيناً ومنطقي حيناً أخرى. المرأة تمنحه من خلال التذكر والحكي حياة عائلية سابقة بكل ما تتضمن من دفء منزلي وذرية هي بنت ولحظات سعادة هادئة تشاهد من خلال الفلاش الباك. لكن فاضل يدحض كلّ ما باحت به المرأة وأكدته، بوضعها في خانة المرأة المُستغلة الوضيعة الأخلاق ما يجعل رمزي يحتاط وينزعج وينفر منها، أي يفعل ما كان يمكن ان يفعله اي انسان سوي وعادي.


يحصر رمزي المرأة إذن في خانة أخلاقية سلبية كمومس سابقة تحاول النصب عليه والزواج منه، واستغلال مرضه كي تتخلص من زوج ثان خارج من حكاية ثانية فيها زوج ثري لا تريد استمرار العلاقة برفقته بعد أن أخذت منه المال. ولأن الفراغ لا يجب أن يظل كذلك، ورمزي يجب أن يتوافر على هوية، فقد أخبره هذا الشخص الثالث فاضل الذي قدم نفسه كفاعل خير وكمنقذ بأنه في صلب عملية إجرام كبيرة ومتشعبة وتخص الأمن العام.


 حل المعضلة


وهكذا نصبح أمام رجل منغلق منزوٍ يجد نفسه بين حالتين، الأولى حياة سعادة وهناء، والثانية حياة توتر ومغامرة، فأيهما يصدق وما التي ستنجذب إليها صفحة ذاكرته الممسوحة ؟ لا يهم في الحقيقة، فالأساسي هو كيف سيمَارس الفعل السينمائي وسيشتغل لحل معضلة بهذا الحجم الكبير؟ رمزي الذي تعرضت ذاكرته للمسح سيعمرها اﻵخرون، بكل ما يمكن تصوره. الفكرة في حد ذاتها تحوي دهاء سيناريستياً ملحوظاً. بطل بلا ماضٍ جسد بحواس، لكنه بات أداة طيعة بين يد السينما المعتادة على الإثارة كما قلنا.


وهكذا تتوالد الحكايا إذن من بعضها بعضاً بقدرة متكلفة تستسهل السرد الفيلمي بوثوقية المُشاهد المتعود على ملء العين بأفلام الحركة والتشويق وأفلام التحري الجماهيرية التي سمتها المبالغة والتضخيم في السينما العالمية الشائعة. والدليل هو كون فاضل يمتهن حرفة رجل المخابرات، وللكلمة وقع رهيب ومرعب في آذان جماهير غير مُحصنة بثقافة الحقوق المدنية والمواطنة. والسينما من ضروريات أهدافها أن تثير. وهذا عين ما قصده شريط «فورماطاج» بوضوح وعلانية. بتوليفة هي مزيج من الكوميديا السوداء والفانتازيا السطحية والدراما المُبكية، حيث المشاهد لا تقف على حالة إلا لكي تنزاح نحو الأخرى بيسر من لا تتملكه سوى جاذبية الصورة من دون سند موضوعي حقيقي. سينما شد العين واحتكارها.


وهذه الإثارة تتأكد أكثر عبر بعض الانفجارات، وعبر صور العنف المتبادل، والتداخل بين المصائر والأقدار مع تخيّر لقطات تحضر فيها النيران والوحل والفضاءات الخالية المقفرة والألوان المعتمة والكابية. على سبيل المثال نستحضر صور الزاوية المزار حيث نرى رجالاً بأسمال رثة وأقدام حافية تجر قيودها المثقلة في شمس حارقة، وأراضٍ قاحلة لتضخيم القسوة والألم (صورة ويسترن بمسحة مكسيكية). وصور سيارات تنفجر وتنقلب محدثة لهيباً جهنمياً حارقاً ومروعاً. وصور المٍرأة وهي في حالة عويل قاس ولقطات ضرب وتعنيف بالأيدي والأجساد. كما تحضر الإثارة حين يتخيّر الفيلم صفات لشخوصه مأخوذة من ذاكرة السينما أو لها علاقة بالمهنة كما لو أن الأمر خارق. فشخصية/شخص ثان هو أخ للزوجة المفترضة قُدم على أنه كاتب سيناريو يريد أن يقضي عليها بدعوى إساءتها للعائلة وكي ينال ثروتها ويحقق حلمه بممارسة هوايته السيناريسيتية. والواضح ان لدينا هنا تمازجاً سينمائياً متكلفاً قد يكون رغبة من المخرج لكنه سينما في سينما، بالمعنى الفرنسي للكلمة، أي وهم في وهم وليس سينما كرؤية.


«فورمطاج» شريط جماهيري من أشرطة النتاج التكنولوجي والسينما الرائجة. وهو كبعض الأفلام المغربية المشاهدة في الفترة الحالية، ينطلق من فكرة طيبة أو موضوع مثير للنقاش وللاهتمام اجتماعياً، ليمنح فيلماً آخر لا يبرر هذا المُنطلق. يصير فيلماً للجمهور قد يمتع لكنه لا يسمح كثيراً بالتفكير والأسئلة.



مبارك حسني