الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  خارج الإطار    
همومٌ بصريةٌ في زمن الإسلاميين

لماذا لا يتأمل بعض المسلمين اليوم أهمية الصورة في عالمنا المعاصر عوض الهيجان والاندفاع؟ لم لا يفكرون في رسم استراتيجيات إنتاجية مضادة عوض الاكتفاء بالتهديد والاحتجاج والدعوة إلى العنف؟ ألم يحن الوقت لفك طلسم تلك العلاقة الملغزة التي تجعلهم يستعينون بالصورة بشكل ازدواجي؟
يظهر من خلال ردود الفعل التي أثارها نشر مادة فيلمية على موقع يوتوب " Youtube" أجمعت غالبية الأصوات في الشارع العربي الإسلامي أنها تسيء إلى نبي الإسلام الكريم هَوْلَ التكوين الضعيف للناس في المجال السمعي البصري، وجهل أو تجاهل الدعاة لتكنولوجيا الصناعة الفيلمية، فسارعوا إلى تدبيج الخطب العصماء، وتحريض الناس المقهورين، وشحذ طوابير السذج من عامة الناس والمتراصين في غياهب الظلام. بات الكل يلغط، ويشتم، ويزبد ويرغي، ويحرق ويدمر، معلنا حربا لا حاجة إلى الإنفاق عليها من الميزانيات العمومية، فقد يظهر أن استراتيجيات الهيمنة، اليوم، تجعل وقود الحرب من حطب أبناء الدار!
كنا نتطلع إلى أن يعي هؤلاء درس العولمة الذي يبدأ من الهيمنة الإعلامية التي تقع السينما في زاوية مُثَلَّثِه المُكَوَّن من الشبكة العنكبية وفضائيات التلفزيون العابرة للثقافات إلا أن تشخيص الوضع الراهن لا يبرز الاستفادة من فضائل الحداثة...
يتعذر فهم العَالَم اليوم خارج التعقيدات المرتبطة بالإعلام الجماهيري واستراتيجيات الفرجة الحديثة التي تعتمد على نشر الأفلام والأغاني المصورة ومقاطع الإشهار وألعاب الڨيديو والرسوم الكرتونية.. غير البريئة على نطاق واسع قد يغض الطرف في غالب الأحيان عن حقوق التأليف تحت يافطة الاستعمال الشخصي أو البث التجريبي أو الانخراط الالكتروني (ولو كان تحت اسم مزيف!).
هل يتحرك هؤلاء الذين يملؤون الشوارع صياحا ونارا من تلقاء ذاتهم؟
لا يمكن الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب. يرتدي جلهم لباسا دالا على الانتماء العَقَدِي، ويرفع سوادهم الأعظم شعارات تنتمي إلى تيارات إسلاموية تختلف مرجعياتها، فالمتشددة منها تدعو إلى الانتقام صراحة، والمعتدلة تشجب وتستنكر وتحتج بطرق حضارية مقبولة...
لا نريد الإطالة في هذا الباب وإنما نود، من خلال الوقوف عند هذه الحادثة التي لها سوابق أخرى في هولندا والدانمارك، مُقَارَبَةَ علاقة التيارات الإسلاموية بالسينما والصورة عموما، وهي لا تخلو من ازدواجية: يمتلكون فضائيات تلفزيونية كثيرة تنتشر تَرَدُّدَاتُهَا على كل الأقمار تقريبا، وتعرض مواد يطغى عليها الوعظ والإرشاد ويسقط بعضها في الدجل والشعوذة والطب الشعبي.. ويهتم بعضها الآخر بتناول بعض المواضيع التي لا ترتبط بأسئلة المسلم اليوم كالديمقراطية والمدنية والعدالة الاجتماعية.. ومن بين هذه التيارات من لا يتوانى عن استعمال الصورة في الدعاية بشتى أنواعها (الدعاوى، الفتاوى، نشر المعلومات والإشاعات...)، ويستغل الظهور وفق منطق الصورة الذي يقتضي الاستعداد المسبق داخل الردهات والكواليس بغرض إعداد الملابس والعناية بالماكياج والحلاقة والملاءمة الضوئية وتحضير الخلفية والديكور والتوابع.. وهي مسائل تدخل في صميم الاشتغال السينمائي المحترف، وتتطلب إشرافا فنيا وتقنيا يسهر عليه متخصصون أكفاء...
تقبل التيارات الإسلامية استغلال الصورة والتلفزيون والسينما والڨيديو للدعاية، وتبيح غالبية فتاواهم استغلالها لأغراض "نظيفة" كما أن مرشحيهم للبرلمانات والرئاسيات يقبلون المنازلات التلفزيونية المباشرة على الطريقة الغربية! بل إن المتطرفين منهم قد نشروا مقاطع دموية تشمئز لها كل نفس إنسانية مبررين ذلك بالجهاد ضد الكفار، بَاثِّينَ الرعب في صفوف المسلمين أنفسهم، غير مراعين مشاعرَ ذوي النفوس الرهيفة، وتمثلات الأطفال، واضطرابات النساء الحوامل.. متناسين منع نشر الفتنة بين الناس [الفتنة أشد من القتل (البقرة/191)].
لقد تبث أنهم يقتنون المعدات ويستثمرون في بناء الاستديوهات ويتعلمون التقنيات ويَكْتَرُون الآليات للتصوير ويُسَوِّقُون أشرطة الڨيديو والأقراص المضغوطة التي تتضمن الدروس والموعظة والدعوة.. والتي تلاقي رواجا كبيرا في الأسواق. فهل يمكن نكران هذا الاقتصاد؟ وهل هو حرام أم حلال ما دام يتاجر في الصورة ويستعمل تقنيات السينما؟!
إذا عدنا إلى مواقفهم من التصوير فقد نعثر على عدة فتاوى تحرم صراحة أو ضمنيا التصوير ومن أشهرها مواقف (فتوى تحريم الصور للشيخ محمد حسان، فتوى تحريم الصور للشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، فتوى ابن عثيمين في التصوير الفوتوغرافي والتي يستند بعضها على أن النبي الكريم أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة...).
أما في مجال السينما فنشير إلى فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء والبحوث وفحواها: "لا يجوز لمسلم أن يبني سينما، ولا أن يدير أعمال سينما له أو لغيره، لما فيها من اللهو المحرم، ولأن السينمات المعروف عليها في العالم اليوم أنها تعرض صوراً خليعةً، ومناظر فتانة، تثير الغرائز الجنسية، وتدعو للمجون وفساد الأخلاق، وكثيراً ما تجمع بين نساء ورجال غير محارم لهن".
كما صدرت فتوى أخرى مفادها أن "ارتياد السينما حرام؛ لأن أغلب ما يعرض فيها من الملاهي المحرمة التي تثير الفتنة.. ولما فيها من اختلاط الرجال بالنساء إلى غير ذلك من المفاسد"، وتلتها فتوى أخرى تشير إلى أن "الأجرة الحاصلة من العمل بدار السينما حرام لأن هذه الأعمال محرمة، والمال الذي يؤخذ مقابلها يكون حراماً أيضا".
أما في التمثيل فقد استند علماء وفقهاء الإسلام على "القواعد المقررة في الشريعة القائلة بأن ما كان مفسدة محضة أو راجحة فإنه محرم، وتمثيل الصحابة على تقدير وجود مصلحة فيه، فمفسدته راجحةٌ؛ فرعايةً للمصلحة، وسدًّا للذريعة، وحفاظا على كرامة أصحاب النبي الكريم يجب منع ذلك".. وهو النقاش البيزنطي الذي عاد للواجهة بداية شهر رمضان المنصرم حين عرضت بعض الفضائيات العربية مسلسل "عمر" لمخرجه حاتم علي.
لا نريد الإطالة في هذا الباب لأن الفتاوى كثيرة، إلا أنه لابد من لفت الانتباه إلى أن النقاش يحاول تناول السينما وفق شروط بَرَّانِيَّة عنها، أي من خارج السينما، فلا يعقل أن ننكر قيمة أعمال سينمائية كبيرة أَطَّرَت الوعي الإنساني خلال فترات عويصة من تاريخ البشرية (أعمال شارلي شابلن نموذجا)، ولا يمكن أن ندخل في مواجهة غير متكافئة مع دول العالم التي تضمن حرية التفكير والتعبير لمواطنيها، ولا يمكنها أن ترغمهم على التفكير فيما لا يرغبون فيه لأن ذلك يقوض منظومة عيشها التي تنبي على بنية تربوية لها مَرَامٍ وغايات وأهداف تصب في الرقي بالمجتمع عبر اندماج مختلف العلوم والفنون والآداب في بناء الشخصية.
من الصعب جدا التحكم في صناعة السينما وتوجيهها لأن الرقابة تخدمها، فالسينما - وكافة الفنون البصرية الأخرى - فَنٌّ لم يتأسس في بداياته الأولى على اللغة المنطوقة وتقنيات الحوار اللفظي، وإنما نَحَتَ لنفسه لغته الخاصة التي توظف تقنيات الإخراج والإضاءة والمونتاج والتصوير والحركة.. لخلق انزياحات فنية تخاطب ذكاء المتلقي وتنمي حسه النقدي، وحين تَمَّ اختراع الصوت اجتهد صناع الصورة كي يتخلصوا من كوليستيرول اللغة المُتَمَفْصِلَة ويحتفظوا منها بما لا تَقَعُ عليه عَيْنُ المتفرج داخل إطار الصورة.
نعتقد أن بعض الإسلاميين يدركون ذلك جيدا، فعندما أمسكوا زمام الأمور في بعض الدول بعثوا رسائل تطمين للفنانين والرأي العام، ففي المغرب أوضح وزير الاتصال عقب الضجة التي أثارها مشروع تعديل دفاتر التحملات الجديدة أن الحكومة ترمي من وراء ذلك إلى تحقيق عدة أهداف أهمها مغربة التلفزة العمومية من خلال الاهتمام بالإنتاج الوطني مع الانفتاح بنسبة قليلة على الإنتاجات الأجنبية، والتنصيص على ضرورة إعطاء الأولوية للبرامج الوطنية بمختلف الألسن اللغوية المشكلة للفسيفساء الثقافي المغربي، والخضوع للمبادئ والقيم الديمقراطية والحكامة الجيدة التي ينص عليها الدستور؛ أما فيما يتعلق بالسينما فقد صادقت الحكومة مؤخرا على مشروعِ مرسومٍ يرمي إلى تحديد شروط ومساطر دعم إنتاج الأعمال السينمائية ورقمنة وتحديث وإنشاء القاعات السينمائية وتنظيم المهرجانات السينمائية.. رغم ذلك فلا تخلو الساحة من وجود أصوات محافظة تنادي بخلو الأفلام من المَشَاهِد الساخنة والعري والكلام الخادش للحياء العام وإعطاء الأولوية للأفلام "النظيفة" كما يرى البعض أن دعم السينما والمهرجانات يجب أن يتوجه إلى محاربة الفقر والبطالة!
من الملاحظات الدَّالَّة على علاقات الالتباس والتشنج، تلك التعليقات التي يَرْشُق بها أصحاب الفتاوى المقنعة، والضمائر المستترة، الفنانين والفنانات داعين إياهم إلى التوبة على مواقع التواصل الاجتماعي أو بعض المواقع الإلكترونية خاصة حين لا تروقهم مضامينها، في حين يباركون مثيلاتها من التصريحات المُنَافِقَة والحربائية الصادرة عن الفنانين المنتمين إلى أحزابهم أو المُسَايرة لإيديولوجيتها!
وفي مصر تَمَّ تبرئة الممثل عادل إمام بعد أن قضت محكمة استئناف مصرية ببراءته في دعوى جُنْحِيَّة تتهمه بتقديم أعمال فنية تزدري الأديان وتسيء إلى الإسلام وتسخر من الملتزمين دينيا، وذلك بعد أن حكمت المحكمة الابتدائية بحبسه لمدة ثلاثة أشهر مع الشغل. وفي نفس السياق استقبل الرئيس المصري محمد مرسي الفنانين والفنانات في قصر الرئاسة إلا أن ذلك لا يعني نهاية الصراع الذي يثار من خارج المؤسسات الرسمية عبر أجنحة أخطبوطية أخرى لها رؤية خاصة للفن، لنتأمل هذا المقطع: "ولد الفن والضياع مع إبليس، ورواه عنه فرعون، وانتقل إلى أبي جهل، ثم صحب الضيعة على مر التاريخ حتى وصل إلينا، وسوف يستمر إلى أن يصل إلى النار، فأول حباله في يد إبليس، وآخر حباله في نار تلظى".. نحن في حاجة ماسة إلى إلزامية التربية على الفنون للصغار وإلى تعميم دراستها وتوفير البنيات القادرة على إيصال رسالة الفن النبيلة وأولها تطهير النفس من الحقد والميل إلى التروي والتأمل عوض الاندفاع، وتثبيت الثقة في الذات المهتزة، والإحساس بالدونية والمهانة.. وذلك ما أراده المخرج الراحل مصطفى العقاد حينما أنجز فيلمه الرسالة الذي بات علامة دالة في الوعي الفني العربي والإسلامي.

محمد اشويكة