الصفحة الرئيسية   إتصل بنا
 >>  السينما العالمية    
السينما و اتجاهاتها المعاصرة.*

    ماذا يقلقني في راهن السينما المعاصرة - واقع السينما بشكل عام، كفن، كظاهرة فنية-اجتماعية؟- هكذا أفهم السؤال عن  السينما و  اتجاهاتها المعاصرة". "
     على مر عقود من تطورها، امتلكت السينما القدرة و الحق في تكوين العالم الروحي للإنسان والتعبير عنه، كما التعبير عن المستوى الثقافي بأساليبها الخاصة، أنا على يقين أننا لم نعد في حاجة إلى    ابتكار جديد، بإمكان السينما أن تبدع أشياء من نفس قيمة أعمال تولوستوي  و دستويفسكي بالنسبة للقرن التاسع عشر، أكثر من ذلك،  أجزم، أن السينما، وفي عصرنا هذا، هي الكفيلة بالتعبير عن مستوانا الثقافي، ولعب نفس دور المسرح في العصر القديم، ومن السيئ  للبلد إذا كان لا يفهم ذلك، فعندها تموت السينما و تصبح غير ذات قيمة.
     في الغرب، تحولت السينما إلى أداة للتوزيع والنشر و الصحافة وأشياء أخرى، لا تمت للسينما بصلة، أصبح بالإمكان انجاز أفلام عن القصص الهزلية المصورة (الكومكس).
     ثمة شيء يثير استغرابي في سينمانا السوفياتية. لمادا لا نريد ( أو – من لا يرغب؟) في أن تصبح سينمانا رائدة في العالم؟ لماذا نرفض أن نصبح زعماء العالم الإديولوجيين في فن السينما؟
     ما يثير حنقي هو مستوى الاحترافية. قد يبدو السؤال خاصا – ولكنه عموما يمثل مصيبة القرن. إبان عصر الأنوار، كانت هناك مدارس حيث كان الفنانون يعملون على صنع الأقمشة، استخراج الصباغات، مزجها و جعلها شفافة. كان على المتعلم أن يمر عبر كل مراحل الحرفة، انطلاقا من أسفل مراتبها. اختفت هذه الأشياء منذ زمن بعيد.
     في قاعات متحف " تريتياكوفا"، و في الأسفل، الأيقونات الدينية معلقة إلى جانب لوحات "عالم الفن"، المقارنة بينهما ليست في صالح هذه الأخيرة. العتمة، الأوساخ، الألوان الباهتة. وضع  تلك اللوحات إلى جانب اللوحات الروسية القديمة يبدو أمرا غير مهني.
     كذلك في سينمانا، فأعضاء نقابة السينمائيين تضم جنبا الى جنب أناسا من مهن مختلفة، من المخرج إلى الصباغ. ليس هناك مدراء أفلام، مساعدو مخرجين، حرفيو إنارة، عمال... يلقي  هذا المرض بظلاله حتى على الإنتاج. هذا خطير، هذا شيء مرعب.
     هناك فجوة، من جهة، - ماهية  السينما و إمكاناتها الفكرية، و من جهة أخرى – الواقع السينمائي كفن لم يثبت بعد خاصيته كفن قائم بذاته. الشعر مثلا اثبت ذلك، أما السينما فليس بعد. لنكن صادقين مع أنفسنا، دائما ما نروج للأماني على أنها واقع، نتكلم عن السينما و كأنها فن قائم بذاته، ولكن الواقع شيء غير ذلك. واقع السينما مقارنة بفنون أخرى ليس بنفس القيمة. هدف الفن دائما الحقيقة، كل ما ليس له علاقة بمفهوم الصدق، البحث عن الصدق، يعتبر تزويرا. وضعيا، كلعب الأطفال الخشبية. للفن هدف سامي و دور مهم. استخدام الفن لأهداف أخرى كمثل من يبيع الجعة في أكواب البلور، و نحن لا نحب و نخاف أن نسمي الأشياء بمسمياتها، نصور اللعب على أنه حقيقة.
     عندنا،  يتم إنتاج عدد كبير من الأفلام، تصنع بطرق عشوائية. الفن الوحيد الذي قد يصنعه أناس لا يفقهون فيه شيئا، هو السينما. يقوم البعض بعملية اعتداء على الإخراج. لو كان بيدي لامتحنت المخرجين بهذه الطريقة، إذا لم تكن للمخرج 10 أفكار جاهزة، 10 مشاريع يكون مستعدا للبدء في تصويرها في اليوم التالي، فهو لا يصلح أن يكون مخرجا.
     مثال السينمائي الحقيقي بالنسبة لي – هو روبير بريسون. أعتبر " يوميات راهب قروي" فيلما عظيما، يصنع بريسون أفلامه حين تدعوه الظروف إلى ذلك، فضميره الفني هو الذي يملي عليه الفكرة. هو لا يبدع أفكاره لنفسه أو لينال اعترافا أو إطراءا، لا يفكر فيما إذا كانوا سيفهمونه أم لا، أو كيف ستستقبله الصحافة، هل سيحظى فيلمه بنسبة مشاهدة عالية، بريسون يخضع فقط للقوانين السامية و الموضوعية للفن. و هو لا يهتم بالشهرة، لا ينتبه للأمور التافهة، تراجيديا " الشاعر و الغوغاء" لبوشكين تبدو بعيدة عنه تماما. لذلك فأفلام بريسون تتميز بالبساطة النبيلة، و عزة مميزة. بريسون هو الوحيد الذي وقف صامدا أمام  فتنة الشهرة و بقي كما هو. 
     الآخرون يقومون بمزاولة مهنة "الإخراج"، العناية بالشكل، التصنع، الاهتمام الزائد ب "الأسلوب الشخصي"، " الطريقة الشخصية"، التكلف الثقيل، الحرية المطلقة، انعدام " المثل العليا"، الفراغ الروحي...كلها أشياء تقود إلى  العشوائية. في رواية ستانيسلاف ليم * " القصر العالي" هناك طرح مهم عن ماهية الفنان المعاصر الذي كان مقيدا في حريته بما تمليه عليه القوانين  الكنسية، إذ كان الدين يحدد  للفنانين أشكال اشتغالهم. الحرية الممنوحة للإنسان في القرن ال20 قد تبدو قاتلة بالنسبة لفناني العصور الوسطى، فهو لن يستطيع التعايش مع هذا الكم الهائل من الإمكانيات المتاحة، فسيحس بالحنين إلى تلك المعيقات التي تحد من حريته، بالفراغ، حينما لا يجد الفنان ما يقيده، و لا يجد تلك الأفكار العامة التي يمكن أن يتكأ عليها، يصبح كاليتيم.
     بالنسبة لي، السينما - عمل أخلاقي و ليس حرفة أو مهنة. من المهم بالنسبة لي الحفاظ على النظر إلى السينما كشيء بالغ الأهمية و المسؤولية، و غير محدود بأفكار من قبيل: الموضوع، النوع...الخ.
     مهمة الفن ليست فقط تصوير الواقع، بل تسليح الإنسان أمام الحياة، منحه القوة لمواجهتها و الصمود أمام صعابها التي تحاول إثقال كاهله. بالنسبة  للفن، ليس مهما أن تكون هناك أجوبة جاهزة للأسئلة المطروحة في العمل الإبداعي. فحتى في رواية " الإخوة كارامازوف" و التي تبدو مكتوبة بشكل منظم و تخطيط مسبق، لم يعط دوستويفسكي إجابات عن الأسئلة التي طرحها هو نفسه.
      حتى عندما لا يقترح علينا العمل الإبداعي أجوبة جاهزة، فهو يمنحنا الإحساس بالإيمان. " يحيا كارامازوف " – يصرخ دوستويفسكي في نهاية الرواية، قال ذلك بعد سفره بنا رفقة بطله عبر معاناته، سقوطه، أخطاءه...وأوصلنا إلى تلك الحالة النفسية التي جعلتنا نهيم بالبطل حبا و نعترف له بنبله و إيمانه بنفسه، لقد جعلت منه معاناته واحدا منا و جعلتنا نرتوي من إيمانه.
     يمنحنا الفن إيمانا و يملأنا شعورا بعزة النفس، يضخ في دمائنا، في دماء المجتمع تلك المادة التي تجعلنا نصارع من أجل المبادئ، تجعلنا نرفض الاستسلام و الخنوع. يحتاج الإنسان إلى نور يضيء طريقه، الفن يمنحه ذلك النور، يمنحه الإيمان بالمستقبل، الأمل.
     العبقرية بالنسبة لي مرتبطة بالأمل، بالنور، انعدام الأمل يعني انعدام المعانات، انعدام الحل،  لهذا السبب تبدو أفلام البروباغاندا سيئة،  ديماغوجية الكذب الفني ( و للكذب الفني ديماغوجيته الخاصة)، وهمه،   (من الوهم) مرتبطة بأشياء أخرى، العبور بالإنسان عبر مواقف درامية و تراجيدية، عبر مواقف يائسة، و إعطائه الحلول في هدوء،  إمكانية الخلاص، السعادة، حالة الأمل. كل ذلك عبارة عن وهم. في الوهم تكمن عظمة للفن.
     لقد فهم الإغريق ذلك قديما، و أسسوا المسرح الأكثر ديمقراطية في تاريخ البشرية. من الرائع توصلهم إلى فكرة " التطهير" و هي بالنسبة لي فكرة بالغة الأهمية، " التطهير عن طريق المعانات و الخوف". هكذا حدد أرسطو مفهوم  " التطهير". تم عبر القرون طرح هذا المفهوم من وجهة نظر مختلف النسق الفلسفية و علوم المنطق. بالنسبة لي - "التطهير" حالة نفسية صرفة  لا  تخضع إلى أي تقييم منطقي. إنها حالة من التعاطف تبلغك  مرحلة السكينة، الغبطة و الأمل. لحسن الحظ فهي شكل من أشكال الاعتراف الداخلي  للحصول على القوة في مواجهة الحياة، الإيمان بالنفس و القدرة على إيجاد المنابع الأخلاقية في داخل الإنسان ( و لعمري هذا هو هدف الاعتراف الداخلي). الفن هو ما يعطي للإنسان  إمكانية "التطهير"، التطهير عبر التعاطف مع بطل آخر، معايشته في مواقف تراجيدية و "قياسها" على أنفسنا. يمكن للإنسان أن يحس بنفسه عظيما، أن  يصل إلى مستوى الفنان. تذكروا فقط الأخوة كارامازوف – الأول باركه القدر، الآخر : ميتكو – محكوم بجريمة قتل، و الثالث أصابه الخبل و الجنون. ثم أبوهم فيودور بافلوفيتش. و في الأخير " يحيا كرامازوف". هذا هو التطهير. لقد كانت الحاجة إلى الأخوة كارامازوف هي جعلنا نِمن بأنفسنا.
بالنسبة لي من المهم الحفاظ على مفهوم "التطهير". لقد حان الوقت لكي تقوم السينما بدورها في معالجة المسائل التي تقف عقبة في وجه الإنسانية.
  .... إذا ما حصل المتفرج على وسيلة تمنحه الأمل، تنفتح أمامه إمكانية " التطهير"، التطهير الروحي، ذلك الخلاص الأخلاقي الذي وجد الفن من أجله.
      من مميزات الفن أنه يحمل في طياته حنينا إلى الكمال، يزرع في الإنسان الأمل و الإيمان. حتى حينما يكون العالم الذي يتكلم عنه الفنان لا يدعو إلى السكينة، بل و بعبارة أدق – كلما بدا العالم شاحبا على الشاشة، كلما أحسسنا بذلك  الكمال الذي يسعى الفنان إلى بلوغه و الذي يفتح أمام المتفرج درجات أعلى من السمو الروحي.

* ستانيسلاف ليم(1921 – 2006) – كاتب و طبيب و فيلسوف بولندي
* هذا النص، فصل من كتاب "دروس في الإخراج"، و هو عبارة عن محاضرات ألقاها المخرج أندري تاركوفسكي أمام طلبة قسم الإخراج بالمعهد الحكومي للسينما بموسكو. و ستتم ترجمة الكتاب و إصداره كاملا في الأيام القادمة.
نص لأندري تاركوفسكي- ترجمة محمد الميسي