الرئيسيةالسينما العالميةفيلم «هي» لبول فيرهوفن، خلاصة تجربة مخرج متمكن

فيلم «هي» لبول فيرهوفن، خلاصة تجربة مخرج متمكن

لا يمكن الحديث عن تجربة المخرج الهولاندي بول فيرهوفن دون ذِكر توجهين كبيرين ومدرستين واضحتين في السينما العالمية، التوجه الأوروبي الذي يُعطي الحرية والأسبقية للمخرج ويعتبره المسؤول الأول والأخير عن العمل السينمائي في مُقابل الرؤية الهوليودية التي تعتبر المخرج أحد صانعي الفيلم بحيث تكون النتيجة النهائية التي نراها على الشاشة خاضعة لرقابة الاستوديوهات المُنتِجَة والمسؤولين عنها وليس للمخرج فقط، رغم أن رؤية المخرج للعملية الإبداعية في السينما تلتقي في بعض الأحيان مع توجه الاستوديوهات خصوصا إذا كان قادرا على جلب الجمهور باستمرار لمشاهدة أفلامه.

مُخرج مستفز
وبالنسبة لبول فيرهوفن فقد مَرَّ من المرحلتين دون أن تستطيع استوديوهات هوليود تدجينه وفرضِ رؤيتها عليه بشكل نهائي، وحينما أَحَسَّ أن ذلك سَيَقع، أثناء إنجازه لآخر فيلم هوليودي له «الرجل الخفي» سنة 2001 عاد إلى أوروبا ليُنجز باقي أفلامه بها كما كان يصنع في بداياته، مُحافظا على حريته الإبداعية ورؤيته المُتميِّزة للسينما ولِصُنع الأفلام.
وكما كان فيرهوفن في هولندا مستفزا ونابشا في خبايا النفس البشرية ومثالب المجتمع الهولندي، استمرَّ كذلك في أفلامه الأمريكية، فهو حتى في أفلامه الأكثر جماهيرية ظل محافظا على أسلوبه ورؤيته الإبداعية، ويمكننا ملاحظة هذا إلى آخر فيلم ناجح له جماهيريا ونقديا في هوليود «غريزة أساسية»، حيث ستتتالى بعد ذلك مشاكله مع الجمهور والصحافة ابتداء من فيلم «فتاة الاستعراض»، والذي يمكن اعتباره نقدا لاذعا للمجتمع الأمريكي، الأمر الذي لم يستطع الأمريكيون تقبله خصوصا أنه آت من طرف مخرج أوروبي، رغم أن الفيلم رُدَّ له الاعتبار نقديا بعد ذلك بسنوات.
وهاهو ذا يعود هذه السنة بفيلم من إنتاج فرنسي ليؤكد به أنه لم يَقُل كلمته الأخيرة وأنه مازال في جعبته الكثير من الإبداع السينمائي.

فيلم ذهاني
يتناول فيلم «هي» (2016) المقتبس عن رواية للكاتب الفرنسي فيليب دجيان حياة إمرأة ثرية في الخمسين من عمرها مازالت مُحافظة على عنفوانها وأنوثتها، تَتَعَرَّض لعمليات اغتصاب متكررة من طرف شخص ملثَّم. وبحكم أنها ظلت طيلة حياتها مُتَابَعَة من طرف الصحافة ومُستَجوَبَة من طرف الشرطة بسبب تورط أبيها في عملية قتل جماعي ذات علاقة بميول ديني متشدد، وكونها كانت حاضرة أثناء العملية وسنها لم يتجاز العاشرة، فإنها ترفض الاستعانة بالشرطة ليظلَّ الخبر حبيس المقربين إليها فقط.
لكن هذا فقط ماتوحي به الأحداث الخارجية للوهلة الأولى، لأن الشخصية التي تؤديها الموهوبة دائما إيزابيل أوبير بتفوق، جد مركبة وكثيرة التعقيد على مستواها النفسي. إذ رغم أن المخرج يجعلنا نرى الأحداث من وجهة نظرها بحيث نتعاطف معها، فإننا نكتشف مع توالي لحظات الفيلم وبشكل تدريجي وغير مباشر مدى تسلطها وقسوتها وتلاعبها بالمحيطين بها، بل أيضا ميولها العدوانية القاتلة.
فرغم أن ميشيل تُبدِي للآخرين أنها متأثِّرة من عمليات الاغتصاب، وأنها تريد التخلص من مغتصبها أو الانتقام منه، فإننا كمشاهدين نلاحظ في تصرفاتها خلال أغلب لحظات الفيلم مايقول عكس ذلك، وكأنها تستمتع بما يقع لها خصوصا بعد أن تتعرف على هوية المغتصب.

ما يمكن ملاحظته في هذا الفيلم هو أنه خلاصة تجربتي بول فيرهوفن الأوربية والأمريكية معا، بحيث أنه جاء ذا لمسة أوروبية وطابع أمريكي اكتسبه فيرهوفن طيلة سنوات اشتغاله في هوليود، والمتمثل في تلك الصنعة وذلك الحرص على الدقة بحيث لانجد لقطات ومشاهدة «زائدة» أو ممكن أن تُشوِّش على المشاهد كيف ماكان نوعه.
ويمكن لنا مقارنة فيرهوفن في هذه الخاصية بهيتشكوك، من ناحية كونهما معا يحرصان على صنع سينما جدّ ذاتية وذات طابع يدخل ضمن سينما المؤلف ذو الرؤية الخاصة، لكن مع الحرص على أن تظل سينماه جماهيرية وبعيدة عن ماهو نخبوي.
وبخصوص هيتشكوك دائما فيمكن القول أن فيرهوفن متأثر به ويبدو هذا التأثير في فيلم «هي» واضحا كونه مبنيا على الطريقة الهتشكوكية في التشويق وشد أنفاس المشاهدين حتى آخر لقطة، رغم أن بالفيلم أمورا أخرى لا تنتمي لخصوصيات المدرسة الهيتشكوكية.

نقد لطبقة مخملية
فيلم «هي» عبارة عن نقد غير مباشر لطبقة راقية ميسورة ماديا، لم تعد تجد لها في الحياة بشكل سوي وطبيعي لذة ولا مذاقا، وتبحث عن بدائل غير سوية لتصريف عُقدها وغرائزها اللاطبيعية. وبهذا الصدد يمكن لنا أن نتذكر لويس بونويل في نقده للطبقات الرأسمالية والراقية وهجائه لها في أفلامه خصوصا في فيلم «السحر الخفي للبورجوازية»، رغم أسلوبه السوريالي المغاير تماما لأسلوب فيرهوفن الواقعي المبني على الدوافع النفسية للشخصيات.
على العموم ففيرهوفن يحافظ في «هي» على ذلك الأسلوب الذي انتهجه في «غريزة أساسية» (1992)، بحيث أن هذا الفيلم هو القريب جدا من بين أفلامه له. إذ نجد بهما معا التشويق كأسلوب، وتتشابه الشخوص فيهما كثيرا كونها كلها شخوص غير سوية، أما النساء فهن في الفيلمين ذوات ميول عدوانية إن لم نقل إجرامية.

نساء مسيطرات
نساء فيرهوفن ذوات شخصيات قوية ومسيطرات وساديات، يتلاعبن دائما بالرجال، الذين يبدون في أغلب الأحيان عنده ذوي شخصيات ضعيفة. وكل هذا ينطبق تماما على شخوص فيلم «هي»، فميشيل ذات شخصية قوية ومسيطرة خصوصا على الرجال. لكن ربما هي الشخصية النسوية الأكثر تعقيدا من بين كل النسوة اللواتي صورهن فيرهوفن، إذ تبدو حاملة للعديد من المشاعر المتناقضة وذات حالات نفسية مُتغيِّرة باستمرار، نجد لها مبررات في ماضيها خصوصا طفولتها الدموية صحبة أبيها، الذي لاتُخفي كرهها له، كل مرة تطلب منها أمها زيارته في السجن.
الشخوص النسوية في «هي» حتى إن وقع بينهن وبين ميشيل تصادم، فإنه ينتهي بتصالح وتفاهم خفي ومُبطَّن لايتم الحديث عنه، وهنا يمكن الإشارة للعلاقة المتوترة بين ميشيل وزوجة ابنها التي تبتدأ بالمواجهة والكره وتنتهي بالصلح والتفاهم.
رغم أن الفيلم يدع مجالا للتحليل النفسي الفرويدي لتفسير حالة ميشيل من خلال ماجرى لها وهي صغيرة السن، وبالتالي كُرهها لأبيها إلا أنه لا يؤكد تماما على ذلك، من خلال متابعتها في حالة لا تتطور بل تتبدَّل فيها حالاتها ومشاعرها وكأنها بركان خامد على أهبة الانفجار، مُستمتعة بساديتها اتجاه الآخرين ومازوشيَّتها اتجاه نفسها. بل إن فيرهوفن يعطي لنفسه الفرصة بين الحين والآخر لِبَثِّ سخرية سوداء تليق بشخصية كميشيل، وتجعل المُشاهد يظل على مسافة منها بحيث لا يكرهها كثيرا ولايحبها كثيرا، لكنه يمكن أن يغفر لها حتى آخر مشهد من الفيلم، حين تخطط للقتل وتَلمُّ شمل الأسرة وتتصالح مع ابنها الغبي وزوجته الشابة المخادعة والهستيرية.

فريق منسجم
تبدو في فيلم «هي» تلك الحرية التي يدعها المخرج لممثليه في الأداء، بحيث تظهر هذه الحيوية على الشاشة، ويمكن الجزم أن إيزابيل أوبير كانت تؤدي في دور ميشيل واحدا من بين أهم أدوارها، إذ نشاهدها كممثلة ناضجة تستمتع بالدور الذي تؤديه بحرفية عالية وبحب وعشق خالصين. ويبدو أيضا واضحا أن كل الممثلين كانوا يشكلون فريقا متكاملا يعمل على مساندة أوبير ويجعلها تبدو كلاعب أساسي.
على العموم فأهم التِّيمات التي تتكرر في أفلام بول فيرهوفن والتي نجدها بفيلم «هي» أيضا هي ثالوث الجنس والعنف والدين، و تأثيرها في النفس البشرية، وهو يتناول هاته التيمات بدون ادعاء كبير ومن خلال قصص وحالات تنبع من عمق الواقع الغربي ابتداء من سبعينيات القرن الماضي وإلى يومنا هذا.

عبد الكريم واكريم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *